أرشيف المقالات

خواطر

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
8 في الموت والخلود للأديب عبد الوهاب الأمين لي صديق لا يخشى الموت لأنه لا يفكر فيه، ولهذا الصديق فلسفة رائقة في الاطمئنان، تعجبني لأنني لا أعتقد بها؛ وقد حاولت أن أحاوره فيها فرأيت أنه يحتمي بالعقل ويجعله مدار التفكير، ولا يقيم وزناً لعاطفة الخوف من الموت أو الجزع من لقائه، فهو مطمئن أولاً، ومعتقد بتفاهة الموت ثانياً؛ وقد أختلط هذا الاطمئنان بذاك الاعتقاد فتشكل منهما شعور جديد، فكأن صاحبي هذا لا يفكر بعقله بل يفكر بعاطفته يقول صاحبي: (إن الموت خاتمة طبيعية محتومة لحياة الإنسان، فالتفكير فيه عبث لا طائل تحته، مادام أن التفكير، مهما طال وعمق، لا يغير تلك النتيجة المحتومة، حتى ولو صدقت ادعاءات بعض المشتغلين بالعلم من أمر إطالة العمر، أو تجديد الشباب، فإن هذين لا يعنيان الخلود.
فلو فرض إن إعادة الشباب كما يصورها الدكتور (فرونوف) صحيحة ومؤكدة علمياً، فإن من الصحيح والمؤكد كذلك، إن نهاية هذه الحياة، مهما طالت، هي الموت؛ والتفكير في الموت مهما كانت كيفيته، سخيف لا طائل تحته (هذا لو كان التفكير في الموت في حد ذاته لا يؤثر تأثيراً سيئاً في أعصاب الإنسان، أما وأنه يورث السوداء، ويسيء إلى الأعصاب، بل ينهكها، ويضع غشاوة بين ناظري الإنسان وبين مناظر الحياة، فأحرى بالعاقل ألا يشتري بسعادة الاطمئنان والغفلة قلق التخوف وانتظار الشر، وان يستمتع بالحياة كما تأتيه لا أن يضع في كأسها سم التخوف والتفكير في الموت) فاعترضت قائلاً: (إن التفكير في الموت سخيف كما تقول، ولكن الإنسان يفكر في الموت بالرغم منه، وهو لو وجد سبيلا إلى النسيان والغفلة عنه لما تردد في ذلك، ولكني أجدني في بعض الأحايين ترهقني أخيلة الموت وأنا على أتم ما أكون صحة وراحة بال، ولا يكون تفكيري هذا بإرادة مني، فإني لا أرغب أن أشوب حالة الراحة التي أنت فيها بقلق غير مرغوب) فقال: (إن هذا الوهم الذي تمكن منك بسيط، فأنت تعتقد حين يردد ذكر الموت على خاطرك أن ذكره لا يرتفع من وهمك، وتتصور العجز، ومن تصور حالة من الأحوال النفسية واعتقد أنه فيها، فهو فيها لا محالة؛ وكذلك من يتصور أنه مريض اعتقاداً جازماً، فأنه يمريض) قلت: فما الحل إذن؟ فقال: (إن أبسط الوسائل للتخلص من هذه الأحوال النفسية هو الرجوع إلى العقل).
فلو فكر المرء واستعمل عقله استعمالا صحيحاً في هذه القضية، فإن الرهبة والجزع من الموت لا يزولان منه فحسب، بل يرى فيهما مثالاً من أمثلة السخف تدعو إلى الرثاء. (إن الخوف من الموت بالطبع يستلزم وجود الألم.
أي أن الإنسان لا يخشى الموت إلا لأنه يتصور أن فيه ألماً جسمياً أو روحياً؛ وقليل من التروي يؤدي إلى سخافة هذا الرأي، فإن حالة الموت لا تكون إلا إذا انتفت الحياة الشاعرة، أو القدرة على إدراك الألم في الإنسان.
أي أن الإنسان لا يموت إلا وهو مائت، ولا يشعر بألم الموت لأنه لا يشعر بالألم إلا الجسم الحي.
ومادام الجسم حياً فهو غير ميت طبعاً، وإذا مات فإنه لا يشعر، وفي كلتا الحالتين ليس هنالك ألم ولا موضوع للألم يخشاه الإنسان (هذا إذا كان أساس الخوف هو تصور وجود الألم، أما إذا كان أساسه الفزع من فقدان الحياة، فإن الأمر أدعى إلى الرثاء! فإن الذي يخشى أن يفقد شيئاً يحبه أحرى به أن لا يفكر في فقدانه، فالتفكير في ذلك مدعاة إلى تشويه حسن ذلك الشيء، وهؤلاء السوداويون الذين يدعون حب الحياة وهم يفكرون دوماً أن هذه الحياة زائلة وأنهم فاقدوها لا محالة مخطئون ولا شك، وأحرى بالمرء أن يعيش كما جاء إلى الدنيا، فلا يسأل ولا يضع موضوعاً للتسآل أمام عينيه، فإنه سيموت قبل أن يصل إلى جواب) وقد جرني التفكير فيما يجري في هذا السبيل إلى التفكير في (الخلود) ضد الموت وعدوه، فالمرء بطبيعة الحال يخشى الموت ولا يرغب فيه، وهو بذلك كأنه يريد الخلود، فما هو الخلود يا ترى؟ وكيف يرى الحياة مخلوق خالد، لو أمكن تصوره؟ وقد قرأت كثيراً في كتب الأدب عن الفكرة التي تمثل للأديب في صدد الخلود، والحياة الخالدة و (الفردوس) ولكني لا أكتم القارئ أنني لم أستطع أن أرضي شعوري الفني بلذة الحياة الخالدة، فضلاً عن أني لا أستطيع أن أفهم كيف تكون هناك (حياة) في (خلود)! كما أن من المعلوم أيضاً أن الخلود لم يجد من الأدباء على وجه العموم التفاتاً جدياً بل كان في أكثر كتابات الكاتبين الرمزيين والخياليين فقط؛ ولعل الأستاذ المازني أشد أدباء العربية سخرية بالخلود وبالأدب الخالد. ومادمنا في حديث الخلود في الأدب فما هو يا ترى المقصود به؟ وأي أدب خلد أو سيخلد؟ وهل في وسع المرء أن يتصور للخلود عمرا؟ لا ريب أن تاريخ الأدب لا يتعدى بضع مئات من السنين، وأرجو أن لا يسارع القارئ فيذكر لي أوراق البردي وشعراء الفراعنة فهذه الآثار لم تخلد - إن صح أنها خلدت - لأنها من الأدب بل لأنها من التاريخ.

فما قيمة مئات السنين هذه في عمر الدنيا؟ وهل هذه المئات من السنين هي المفهوم من معنى (الخلود) في الأدب؟ إن كان ذلك فما اشد بؤس الأدب وما أحوجه إلى خلود أطول عمراً! هذا في الأدب، أما في حياة الفرد فالرزء أعم كما أسلفنا، وبالرغم من أن جميع البشر يتمنون الخلود فإنه ليس أبرد منه وأخلى من السعادة الموموقة.
وأمامي قطعة من شعر العقاد لعله لم يقلها في هذا المعنى، ولكنه يستفاد منها وهي: لو علمنا حظنا من يومنا ...
ما بكى الصبية في غض السنين أي كنز قد سفكناه على ...
حسرات تضحك القلب الحزين! حجبت عنا مزايا عمرنا ...
فبكى من هو بالصفو قمين وقضينا العمر لا ندري بما ...
بين أيدينا وندري ما يبين نجهل الورد فنرميه ولا ...
يجهل الشوك الفتي وهو طعين أترانا لو علمنا حظنا ...
من غد نقنع بالحظ الرهين؟ أم ترانا نحمد الخطب إذا ...
حان علماً بالذي سوف يحين؟ إن شكونا قيل لا تشكو فقد ...
أنصفتكم هذه الدنيا الخؤون لو درى الطفل بما سوف يرى ...
شقي الطفل بما سوف يكون والمازني يقول في أحد كتبه ما مؤداه: تعساً للجيل الذي يكون في حاجة إلى أدبنا هذا.
وهو يقولها في سخرية، فلعله لا يقصد أن يقتصر على هذه السخرية فقط فإن في هذه الكلمة معنى حقيقياً عظيم الأهمية (بغداد) عبد الوهاب الأمين

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١