أرشيف المقالات

الملك الموفق

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
8 للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني منذ بضعة أسابيع أدى صاحب الجلالة الملك صلاة الجمعة في مسجد من مساجد الإسكندرية على عادته المحمودة، فلما انتهت الصلاة نهض جلالته، فهتف باسمه الناس، فأشار إليهم جلالته بيده أن كفوا، ومال على أحد العلماء، وهمس في أذنه أن بيوت الله للعبادة لا لهذا، ولذكر الخالق لا للذكر المخلوق. وفي جمعة أخرى أمر واحداً من رجال حاشيته، فأعطى الإمام عشرين جنيهاً لخدم المسجد، فتناولها الإمام شاكراً، داعياً؛ وكان للمسجد خادمان فنقد كلا منهما عشرة، واتصل الخبر بجلالة الملك، وعلم أن الإمام حرم نفسه، فدعاه إليه وكلمه في هذا، فقال الرجل: إني خطيب وإمام لا خادم، وقد أعطيت المال لأفرقه على الخدم ففعلت وأمضيت مشيئة مولاي.
فسرت جلالته عفةُ الرجل وأمانته تقواه وأجزل له الثواب. ولجلالته عناية بأن يعرف على أي وجه تنفذ أوامره.
حدث في منتصف أغسطس أن حضر جلالته حفلة تمصير شركة البواخر الخديوية، فطاف بالباخرة (محمد علي الكبير) ولاحظ أن المدخنة لونها أحمر، فالتفت إلى عبود باشا وقال إنه يؤثر أن يكون لونها أخضر، فقال عبود باشا: (حباً وكرامة، سيكون ما شاء مولاي) فقال جلالته وهو يبتسم: (سأسأل عن المدخنة ولونها). ويذكر القراء أن وزير الأوقاف السابق وقف مرة في البرلمان يرد على سؤال عن الأزهر ورثاثة فرشه، فكان مما قاله - وظهر أنه كذب - أن طلبة الأزهر يقطعون السجاجيد ويأخذون ما يقتطعون منها لفرش مساكنهم.
وقد هاج الأزهر وماج لهذا، وكتب الشيخ الأكبر الأستاذ المراغي إلى وزير الأوقاف يومئذ يبين له أن الموظفين الذين أمدوه بهذه المزاعم كذبوا عليه وغشوه، ويطلب منه أن يحقق مع المسئولين عن هذه الأكاذيب والتشنيعات، ولكن الوزير طوي الأمر لسبب ما، ولم يعن بالتحقيق الذي كان واجباً. وكأنما عز على جلالة الملك أن يكون الأزهر بهذه الرثاثة، وأن تضن عليه وزارة الأوقاف بالفرش اللائق، وأن يقول وزيرها السابق ما قال في طلبة هذا المعهد الإسلامي العالمي الذي لم يبق على عيده الألفي إلا القليل، ولكن الحكمة والأناة شعار الملوك، فقد سكت جلالته حتى خرج هذا الوزير من الوزارة، وتولاها غيره، ثم أمر بأن يفرش الأزهر بالسجاد على نفقة جلالته الخاصة، وبأن يكون السجاد مصرياً من صنع مصريين.
ولو أن جلالته أمر بذلك والوزير السابق قائم بالأمر في الأوقاف، لكان هذا بمثابة دعوة صريحة إلى الاستقالة، ولكن جلالته تريث حتى لا تختلط الحسنة بالسيئة، فليس همّ جلالته أن يؤنب وزيراً، وإنما همه أن يصنع جميلاً وأن يسدي مكرمة.
والأزهر معهد مهول، وسيحتاج من السجاد إلى شيء كثير، فأخلق بصناعة السجاد المصرية أن تنشط من جراء ذلك نشاطاً عظيماً، وجدير بالسجاد المصري أن ينفرد بالسوق بعد هذا فلا يتخذ مصري سواه. ولا يزال جلالة الملك في صدر الشباب، ومع ذلك آثر الزواج على العزوبة؛ وله في ذلك حكم لا حكمة، فإنه ملك، والملك قدوة لشعبه.
والمثل يقول إن الناس يكونون على دين ملوكهم، والزواج عفة وتقوى وحصانة.
وقد وقع اختيار جلالته على مصرية من بيت كريم، وفي هذا الاختيار معنى إنساني بارز، ومظهر ديمقراطي لا يخفى، فقد عرف جلالته الآنسة ذو الفقار، وكانت تصحب الأسرة الملكية في رحلتها في أوربا، فهو اختيار فيه كل المعاني الإنسانية وليس فيه أي معنى سياسي.
وحسناً صنع جلالته، فما بقي للزواج السياسي أية فائدة أو قيمة في هذا الزمان.
وإن الأمة المصرية تشعر الآن أنها صارت أقرب إلى ملكها بهذا الاختيار الموفق الذي احتذى فيه جلالته حذو المغفور له والده العظيم.
وقد كان مما تحرص عليه الأسر المالكة في العصور الماضية أن تبقى بمعزل عن أممها، فلا تخالطها، ولا تصاهرها، وقلما كانت تبادلها حتى الشعور، فالآن تغير كل هذا، وأدركت الأسر المالكة أنها لشعوبها وأن شعوبها لها، وكان من خير ما صنع المغفور له الملك فؤاد وأوقعه في نفوس الأمة أن آثر أن تكون جلالة الملكة من رعاياه.
واليوم يقتاس به جلالة الملك فاروق فيختار الملكة من رعاياه كذلك، فلا يبقي موضع في قلوب الأمة غير مشغول به وهكذا يمحو جلالة الفاروق الفوارق التي تباعد ما بين الملك وأمته اكتفاء بالولاء الصادق، والإخلاص الصحيح، والحب الثابت، والإجلال العميق، واستغناء بذلك عن كل ما عداه مما لا خير فيه، ولا محل له في هذا العصر، فإن الملوك من طينة الخلق جميعاً، فلا معنى للحرص القديم على أن يظلوا طبقة مستقلة عن شعوبهم لا تمسها ولا تقربها ولا تتصل بها من ناحية من النواحي.
وأخلق بالشعوب أن تكون أعمق ولاء وأصدق وفاء لملوكها إذا شعرت أنهم منها، وأنهم يمثلون خير ما للأمة من المزايا والخصائص والصفات والطباع؛ وأنهم رمزها الأعلى حقاً، وعنوانها الأرفع صدقاً، وأن الأمر في ذلك أمر حقائق واقعة، لا أمر ألفاظ جوفاء وكلمات فارغة. لقد ثبت العرش البريطاني على الرغم من زلازل الحرب العظمى وما تلاها، لأن الشعب البريطاني يعرف أن العرش منه وله، وأنه عنوان مجده، وأنه الصلة الوثيقة بين إبعاض إمبراطوريته؛ ولَلْعرش في مصر أحق بالثبات والدوام على الزمن، فقد قامت هذه الأسرة المجيدة باختيار الأمة لها، وكان المصريون هم الذين ولوا محمد علي باشا أمرهم، وألقوا إليه بمقاليدهم، وملكوه زمانهم.
ولم يخيب محمد علي على ظن مصر به ويقينها فيه، فقد رفع مقامها، وأعلى شأنها، وجعل منها دولة محسودة مرهوبة الجانب، مخوفة السطوة؛ وحسبه فخراً أن احتاجت الدول العظمى إلى التألب عليه والائتمار به لحرمانه ما كان حقيقاً أن يفوز به من الثمرات.
ولا شك أن مصر مدينة برقيها الحديث للخديوي إسماعيل على الرغم من كل ما جر إليه حكمه، وإن كان مؤرخو الغرب يبالغون في ذلك ويهولون به ليستروا مؤامرات أوربا ومكائدها، وما أوقعت فيه مصر بسوء نيتها وفساد طويتها.
والمغفور له الملك فؤاد هو الذي أزخر تيار النهضة الحديثة وعرف كيف يذلل كل عقبة اعترضته في الاحتلال وفي عدم الاستقرار.
والآن يجيء جلالة الملك فاروق بفيض من الحيوية، وبمثل حكمة الشيوخ المحنكين في شبابه الغض، وبقلب كبير ملؤه الحب لأمته، وعزم صادق على الوثوب بها.
ولَحسْبنا هذه الفواتح بشيراً بمستقبل سعيد في ظل حكمه المديد المبارك إن شاء الله. إبراهيم عبد القادر المازني

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١