أرشيف المقالات

وقفة مع العقيدة الأشعرية

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
2وقفة مع العقيدة الأشعرية
إذا كانت أعظم نِعمة في الجنة هي رؤيةَ الله جلَّ وعلا، فإنَّ أعظم نعمة في هذه الدار هي معرفته سبحانه وتعالى، هذه المعرفة التي لا سعادةَ ولا طمأنينة إلا بها؛ كما قال بعض العارفين: "إنَّ في الدنيا جنةً مَن لم يدخلها لن يدخلَ جنَّة الآخرةِ"، قيل: ما هي؟ قال: "معرفة الله".   فاللذَّة الحقيقية معرفة البارئ سبحانه، أما ما يُسمِّيه الناس "لذَّات" فهي في الواقع ليسَت إلا دفعَ أضداد.   ومِن أعظم ما تَحصُل به معرفة الله جلَّ في علاه: العلمُ بأسمائه الحسنى وصفاته العلى؛ فإنَّ العلم بذلك مِن أقوى السبل لمعرفة الله تعالى.   لذلك جاءت النصوص تترى في كتاب الله وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، تُفصِّل في ذِكر أسمائه سبحانه وصفاته، وما ذلك إلا لِما لهذه الأسماءِ والصِّفات من عَظيمِ الأثر على القلوب مَحبَّةً ورجاءً وخوفًا وتعظيمًا.   فالعلم بأسماء الله الدالَّةِ على أوصاف الرحمة والحِلم واللُّطف، تُورث العبدَ محبةَ الله والتودُّدَ إليه سبحانه.   والعلم بالأسماء الدالة على صِفة العلم والخِبرة تُورث مراقبتَه تعالى في السرِّ والعلانية، وفي الأقوال والأفعال.   والعلم بالأسماء الدالة على صفات الملْك والغِنى تُورث دوامَ الافتقار والحاجة إليه جلَّ في علاه.   والعلم بالأسماء الدالة على أوصاف العزَّة والقهر والكبرياء والعظمة والجبروت تورث تقوى الله وخشيته.   وهذه مِن أعظم ثمرات العلم بأسماء الله وصفاته التي تعتبر قسمًا من أقسام التوحيد الثلاثة المستفادة من نصوص الوحيَين بالاستقراء، وهو ما يُسمِّيه العلماء بتوحيد الأسماء والصفات، وعرَّفوه بقولهم: "إفراد الله تعالى بالأسماء الحسنى والصفات العُلى التي وردَت في الكتاب والسنَّة والإيمان بمُقتَضاها وأحكامها من غير تَحريفٍ ولا تعطيل، ولا تكييفٍ ولا تَمثيل".   لكن للأسفِ، رغم عِظَم شأن هذا النوع من أنواع التوحيد فقد كَثُرَ فيهِ النزاع، وضلَّت فيه بعض الأمة الإسلامية، وانقَسموا فيه إلى فِرَق كثيرة؛ فطائفة شبَّهتِ الله جل وعلا بخَلقِه، وجعلوا صفاته من جنس صفات المخلوقين، وطائفة أثبتوا لله الأسماء كأعلامٍ مجرَّدة، وطائفة عطَّلوا الله عن كل صفاته وأسمائه، وطائفة قالوا: لا نُثبت من الصفات إلا ما دلَّ عليه العقل، فأثبتوا الصفات السبع، وهؤلاء هم الأشاعرة الذين قال قائلهم: له الحياةُ والكَلامُ والبصَر ♦♦♦ سمعٌ إرادةٌ وعلم واقتَدَر   فأثبَتوا هذه الصفات "العقلية" السبع، وأنكَروا غيرها تأويلاً وتحريفًا، أمَّا الأسماء فقالوا: نُثبتها، لكن بتأويلِ ما دلَّت عليه من المعاني والأوصاف.   وكما هو معلوم، فإن هذه العقيدة هي التي سادَتْ في كثير من البلدان؛ مِن بينها بلدنا المغرب؛ حيث أدخَلها أبو عبدالله محمد بن تُومِرْت بعد أن أخذها عن أبي حامد الغزالي في العِراق، ثم جاء بعده عبدُالمؤمن بن عليٍّ وألزَمَ الناسَ قَسرًا على اعتِقادها[1].   ومرَّت السنون والقرون، والأشعرية هي العقيدة الرسمية في البلاد، تدرَّس في المناهج التعليمية في مُختلف المستويات، رغم كون المذهَب المُختار هو المذهب المالكي، وهذا في حقيقة الأمر تَناقُض واضطِراب؛ فالإمام مالك مِن أئمَّة السلف الذين يُثبتون ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء الحسنى والصفات العلى، ويقول: "أمِرُّوها كما جاءت بلا كيفٍ"، وقصَّته مع الذي سأله عن قوله تعالى: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5] كيف استوى؟! مشهورة للداني والقاصي، حتى صار قوله رحمه الله تعالى: "الاستِواء معلومٌ، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة" قاعدةً ودستورًا في كل الصفات، كما كان رحمه الله شديدًا على أهل الأهواء من الأشاعرة وغيرهم، كما قال عنه فقيه المالكية بالمَشرق ابنُ خُوَيزِ مَنْداد: "أهل الأهواء عند مالكٍ وسائرِ أصحابنا هم أهلُ الكلام، فكلُّ مُتكلِّم فهو مِن أهل الأهواء والبِدَع؛ أشعريًّا كان أو غيرَ أشعريٍّ، ولا تُقبَل له شهادةٌ في الإسلام أبدًا، ويُهجَر، ويؤدَّب على بِدعته، فإن تمادى عليها استُتيبَ منها"[2].   أما العقيدة الأشعرية فمبناها في الأسماء والصفات على التأويل والتحريف في ضوء أصلهم الأصيل: تقديم العقل على النَّقل.   وتَجدُر الإشارة إلى أنه رغم نسبة هذه العقيدة لأبي الحسن الأشعري، فإنه رحمه الله تعالى بريء منها براءة الذئب من دم يوسف؛ فإنه رحمه الله تاب وأناب، ومات على عقيدة السلف، والتائب مِن الذنب كمن لا ذنب له، والأجدر أن تُسمى هذه العقيدة بالعقيدة الكُلاَّبية؛ نسبةً لصاحبها الأصلي ابن كُلاب، إلا أن شُهرة الأشعريِّ غلبَتْ على ابن كُلاب، حتَّى قيل: مذهب الأشعريِّ، بدلاً من أن يُقال: مذهب الكُلابي!  

[1] يقول تقي الدين المقريزي في خططه وهو يتحدث عن هذا الموقف المتطرِّف للموحِّدين: "فكم أراقوا دماء خلائق لا يُحصيها إلا الله الذي خلقها سبحانه بسبب تلك العقيدة التومرتية"، ومما يلاحظ أن ذلك التشدد ممن سموا أنفسهم موحِّدين، وأن تلك الحماقة الممقوتة ليست لأجل العقيدة الأشعرية، وليست لكون العقيدة الجديدة هذه لأبي الحسن الأشعري؛ بل لأنها لتومرت الذي اعتبروه الإمام المعلوم والمهدي المعصوم؛ "العقيدة الإسلامية وتاريخها"؛ للدكتور محمد أمان الجامي رحمه الله تعالى. [2] جامع بيان العلم وفضله، كما ذكره الدكتور سفر الحوالي في كتابه: منهج الأشاعرة في العقيدة.



شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣