أرشيف المقالات

منتسكيو آراؤه ومثله

مدة قراءة المادة : 17 دقائق .
8 للأستاذ إسماعيل مظهر إن أسم منتسكيو لأسم عظيم.
والأثر الذي خلفته أعماله ينزل من الخلود في داخل أوربا وفي خارجها منزلة تمهد لمن يريد أن يترجم له أن يتصل به منتحيا طرقاً شتى ومداخل متفرقة.
ذلك بأن أعمال هذا الرجل العظيم قد تركت أثراً رئيسياً في جميع ما ظهر في عالم الفكر من النظريات السياسية، حتى أن كاتباً من اشهر كتاب هذا العصر قد ذهب في نقد نظرياته مذهباً قضى فيها بأنها أول ما مهد لظهور فكرة (العقد الاجتماعي) التي كونها (رُوسُو) ودافع عنها أبلغ دفاع.
ولا شك في أنك تبهر بعبقرية هذا الإنسان الفذ إذا علمت أن نظرياته السياسية كانت العمدة في صوغ دستور الولايات المتحدة، ومن هنا كان اثر (منتسكيو) عظيماً في الترويج للفكرات والمبادئ التي قام عليها الدستور الإنجليزي، كما كانت باكورة الدراسات العميقة التي تناولت بدايات التكوين السياسي الذي نشأ في فرنسا خلال القرون الوسطى.
فكان بمجموعه أعماله ودراساته وأفكاره من الرجال الذين عبَّدوا الطريق للثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر لهذا يجدر بنا أن نمهد للكلام في الترجمة له بذكر شيء من الأطوار التي تقلبت فيها حياته السياسية.
فقد كان (منتسكيو) رئيساً لمحكمة (بوردو) العليا، وهي أول هيئة تشريعية إقليمية كانت في فرنسا.
وكان أعضاؤها يطمعون في أن يكون لهم مقاعد في محكمة باريس العليا.
غير أن محكمة العاصمة الكبرى لم تذعن لهذا المطلب.
لهذا ظلت النزعة (البرلمانية) جلية الأثر جد الجلاء في كل ما كتب (منتسكيو)، بالرغم مما كان يطنب فيه من الالمامات التاريخية المستفيضة وتعلقه في مجال البحث الاجتماعي بمعالجة مشكلات أوربا خاصة؛ والإنسانية عامة.
فيجب أن نعي إذن ذلك الأثر المزدوج الذي أحدثته المحاكم العليا في تاريخ فرنسا.
فإنها كانت حتى نهاية القرن السادس عشر الأداة الرئيسة التي اتخذتها الملوكية المركزية، ذريعة لمدِّ نفوذها، وتثبيت سلطانها، اتقاء لنفوذ النبلاء ومطامعهم من ناحية، ودرءاً لسلطان الكنيسة من ناحية أخرى.
وكانت هذه الأداة مجدية في إضعاف نفوذ النبلاء الموروث، وهو نفوذ يتضمن فيما يتضمن سلطاناً واسعاً، مالياً وإدارياً وكانت الخطة أن تقرر المحاكم العليا أن من حقها النظر في (الدعاوى الملكية) كبراء أصحاب القطائع يرغبون في أن تنظر أمام محاكمهم الخاصة.
وكذلك قررت تلك المحاكم على اختلافها، أن من حقها النظر في الدعاوى التي يقتضي النظر فيها انتقاصاً من سلطان الكنيسة، قضائياً ومالياً.
ولا شك في أن القوة الباطشة التي حازتها الملوكية المركزية في فرنسا في القرن السابع عشر، كانت نتيجة لأشياء ثلاثة: الجيش، ومجلس البلاط، والمحاكم العليا ولم تكن المحاكم العليا عند أول نشأتها في فرنسا، إلا جزءاً من مجلس البلاط.
وكان من أثر هذه المحاكم كما يقول (هانوتو) أن احتفظت فرنسا بوحدتها، ولم تمزق ولايات متفرقة وفي أخريات القرن السادس عشر حدث انقلاب، ساد محاكم فرنسا العليا، وظهر أثره واضحاً في روحها المعنوية وفي عملها.
فإنها بدأت تستمسك بقوة بكل ما يدعي الملك من حقوق الدولة، لتقضي بذلك على ما بقي لكبار أصحاب القطائع ورؤساء الكنائس من الامتيازات.
غير أنها، بجانب هذا، بدأت تظهر بمظهر الأداة المستقلة عن إرادة الملك أيضا.
فكانت بطبيعة تكوينها وتاريخها، الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن تعارض إرادة الملك آمنة رخية البال.
ذلك بأن أعضاء هذه المحاكم كانوا يملكون بالوراثة حق الجلوس فيها.
ولم يكن من الهين أن يسلب واحد منهم حقه فيها، حتى أن (رشيليو) في كتابه (العهد السياسي)، قد عبر بعمق عن الأخطار التي يجوز أن يواجهها العرش من نفوذ أعضاء المحاكم العليا، أو من مسلكهم الذي يسلكونه عند الضرورة.
وعصر (الفروند) والسنوات الأخيرة من حكم الملك لويس الخامس عشر، وقد حققت كل ما جال في مخيلة (رشيليو) من المخاوف.
ومجمل ما نرمي إليه من هذا كله أن نوضح أن (منتسكيو) كان يرى أنَّ الوظيفة الأولى للمحاكم العليا إنما هي في أن تصمد لقوة الملك وأن تحد من سلطانه: قال: (إن هذه الهيئات - المحاكم العليا - من أبعد الأشياء تلاؤماً مع طبع الملوك.
فإن أعضاؤها كثيراً ما ينغصون على الملك بسرد حقائق غير مرغوب في سماعها ولا يتصلون بالملك إلا لعرض الشكايات الحق.
وأنت إذ ترى أن فئة البطانة الملكية تلقي في سمع الملك دائماً أن الشعب في رغد وسعادة في ظل الحكومة، إذا بتلك المحاكم تظهر ما في أقوال هؤلاء من كذب ونفاق، وتقرع مسامع العرش، حيناً بعد حين، بصدى تلك الأنات العميقة الجافية التي تتنفس عنها صدور أولئك الذين يمثلونهم)
كتب منتسكيو بضع عبارات بالغة منتهى الجودة والإبداع حلل فيها نفسيته، وصور بها أخلاقه ويحسن بنا أن ننقل بعض فقرات منها؛ وذلك أقوم سبيل تعرف به شيئاً من حقيقة منتسكيو: يقول أنه وهب حساً عميقاً جعله يقدس معنى الصداقة، فلم يجازف بإن يخلع نعت الصديق على كل من أتصل بهم من الناس؛ ولذا يذكر، ولعله يذكر بحق، أنه لم يفقد طوال حياته غير صديق واحد. وكان خجولاً، حتى أن الخجل كان مصيبته الخلقية الكبرى؛ قال: (يخيل إليّ أن الخجل يغشّي على كل أعضائي الجسمانية، فيربط لساني، ويظلم افكاري، ويقضي على كل ما عندي من قدرة على التعبير.
ومن العجيب أني أقل تعرضاً لنوبات الخجل في حضرة ذوي الألباب مني في حضرة الحمقى والمغمورين)
فلا عجب إذن إذا رأينا (منتسكيو) يمقت كل المقت ذلك الجو الخانق الذي كان يأنسه في البطانات الملكية؛ قال: (لم أجهد نفسي في أن أسعد وأربى من طريق البطانة.
وإنما أمَّلت دائماً أن أثري من عملي في ضياعي، وأن أتلقى الخير من يد الآلهة لا من يد البشر)
. وليس لنا بعد هذا أن نعجب من أن (منتسكيو) كان لا يرى سبيلا للفرار من متاعب الحياة إلا بالنزوع إلى أسمى ما تتجه إليه الأنفس الأبيَّة، المتطلعة إلى المثل العليا، والغايات السامية؛ قال: - (كان الإكباب على الدرس والتحصيل الدواء الواحد الذي استطعت أن أنجو به من كثير من مرارات الحياة.
ولم آنس في الحياة من حرج، لا تكفي ساعة واحدة اقضيها في القراءة، لكي تذهب بكل آثاره من نفسي)
وكان عريض الأمل، شامل النظر، كلي المرامي، أنساني النزعة، فإن الثورة الفرنسية، وهو من اكبر الممهدين لها، لم تلبث أن استقوت عليها بعد قليل الروح القومية، فأسلمت نابليون قيادها، وألقت بين يديه بروحها؛ تلك الروح التي كانت أكبر الأسباب في انتصاراته؛ غير أن سيل الفكر الجارف الذي تقدم شبوب الثورة، كان من غير شك، ذا صبغة إنسانية.
ومن كلمات منتسكيو ننقلها هنا يتضح لك الاتجاه الحقيقي للفكر الفرنسي قبيل الثورة العظمى؛ قال: (إذا وضح لي أن شيئاً من الأشياء لي فيه نفع، ولكنه مضر بأسرتي، فإني أنفيه من عقلي، واطرده من مخيلتي.
وإذا وقعت على شيء نافع لاسرتي، ولكنه مضر بوطني، فإني اجتهد في أن أنساه.
أما إذا سقطت على شيء مفيد لوطني، ولكنه مضر بأوربا، أو بالسلالة البشرية، فاقل ما اعتبر أن نيله جريمة كبرى.)
وكان لمنتسكيو نظرات فلسفية عميقة في حقيقة الخلق الإنساني، طبقها واتخذها في الحياة إماماً.
وكان ككل الفلاسفة العمليين الذين درجوا من قبله يعتقد أن اللذة والألم دستور السلوك الإنساني.
ولكنها اللذة التي لا تطفر فتصير شهوة، والألم الذي يحتمل بصبر وشجاعة في سبيل تحقيق المثاليات؛ وقال: (إن دورة عقلي قد هيئت، لحسن الحظ، بحيث تجعلني شديد الحساسية فأتأثر بالأشياء ابتغاء الاستمتاع بها.
ولكن لم تبلغ حساسيتي بالأشياء حداً يجعلني أتألم من فواتها)
من هنا نستطيع أن نؤلف صورة تدلنا على شيء من حقيقة (منتسكيو)، وهذا كافٍ للتعريف به.
ولهذا ننتقل إلى الكلام في مبادئه ونظرياته السياسية، فإنها أخص ما يعلق بالذهن كلما ذكر أسم (منتسكيو) إذا شرعت تقرأ كتاب منتسكيو (روح القوانين)، وضحت لك صورتان جليتان: الأولى، رجوعه في التدليل على نظرياته إلى التاريخ؛ والثانية: نزعته إلى أحكام الآخرة بين النظرية السياسية، والعلوم الطبيعية.
وللصورتين أهميتهما القصوى في التعريف بمنتسكيو ودرس مذاهبه.
ناهيك بأنهما بداية ذلك التطور الفكري الكبير الذي تناول منازع هذا الرجل العظيم منذ نشأته مُفكِّراً، حتى تمام تكوينه كقوة عظيمة، أثرت ولا تزال تؤثر، في مناحي الفكر والعمل الإنساني كان (منتسكيو) مفرط العناية بقراءة التاريخ.
ولن تبالغ إذا قلت أنه كان بالتاريخ أشد هياماً من (روسو).
ذلك إلى أنه أوسع من (فولتير) نظراً، واشمل إحاطة، وانزع إلى معالجة المشكلات الاجتماعية.
ومع كل هذا فإن معرفته بالتاريخ مقيسة على مفهومه الحديث، كانت ضيقة محدودة.
وكان من المحتوم أن يكون علمه بالتاريخ ضيق الحدود؛ إذا وعينا أن التاريخ الحديث خلق جديد من مخلوقات القرن الثامن عشر كانت معرفة (منتسكيو) بحوادث التاريخ تامة، بالغة منتهى الضبط والإحاطة.
ولقد حوى كتابه (عظمة الرومان وانحطاطهم) أسمى صور البلاغة، وجمال الأسلوب.
بل إنك لا تقول شططا إذا قضيت بأن اكثر النظريات التحليلية التي بثها فيه (منتسكيو) عند الكلام في أربعة القرون التي أظلت نشوء النصرانية، سبقاً وتعقيباً، كانت عادلة متزنة، لا هي إلى الإفراط ولا هي إلى التفريط، ولقد كتبت الفصول الأولى من هذا الكتاب في عصر لم يكن سلطان النقد قد تناول فيه التاريخ بعد؛ فإنه كتبها قبل ظهور كتاب (تييوهر) الذي يعد الفتح الأول للنقد في مجال التاريخ.
وكانت آراؤه في القيصرية الرومانية الغربية وسبب انحلالها نفس الآراء التي ذاعت في سبب انحلال القيصرية البوزنطية.
وتلك وجهة من النظر التاريخي ذاعت في القرن الثامن عشر؛ ومن حسن الحظ أن البحوث التي ظهرت في خلال نصف القرن الماضي، قد طهَّرت منها عقول المؤرخين، تطهيراً كاملاً وكان (منتسكيو)، إلى هذا، محيطاً بتاريخ رومية أوسع إحاطة، فاهماً جوهره أقوم فهم، ملماً بعناصره أمتن إلمام.
ولكن معرفته بتاريخ اليونان كانت بغير شك أقل من معرفته بتاريخ رومية.
وكتاباته في تاريخ العصور الوسطى؟، لا تخرج عن كتابات مُلِمٍّ بالآثار البدائية (الأرخيولوجيا) لا بالتاريخ أما معرفته بتاريخ فرنسا فكانت شاملة، وبخاصة تاريخها في القرنين السادس عشر والسابع عشر؛ ولا شبهة في أنه كان محيطاً بتاريخ العصر الذي عاش فيه.
وكان شديد العناية بدرس تاريخ إنجلترا، مشغوفاً بمسائله ومشكلاته.
ولكن نظرته فيه كانت شاذة بالرغم من طرافتها ولم يهمل (منتسكيو) التاريخ العام، الذي يعتبر تاريخ رومية وفرنسا وإنجلترا، أجزاء منه ونتفاً؛ بل زوده بعناية الدرس والتحصيل.
فإن تاريخ مصر وبابل والهند والصين واليابان وشعوب خط الاستواء، وشعوب الجمد الشمالي، كانت ماثلة له حية في مخيلته.
ولكن لم يكن الزمان قد زود المشتغلين بالتاريخ بعد بمادة يستخرجون بها من ماضي الشعوب صوراً واضحة جلية يظهرنا هذا على أن عنايته بالتاريخ كانت كبيرة ولكن من الخطأ أن نتصور أن فلسفته السياسية كانت مستمدة من معرفته بالتاريخ، أو مستندة إليها؛ فإنك إذا مضيت تماثل بين ما كتب أرسطوطاليس أو لادويرابس، وبين ما كتب (منتسكيو) وقعت على الفارق العظيم، والصدع النائي الذي يفصل (منتسكيو) في العصور التي تقدمته، والعصور التي تلته، وجملة الفارق بين الأساليب التي اتبعها القدماء والأساليب التي انتحاها المحدثون.
فإن (منتسكيو) كان يتخذ من التاريخ مضربا للأمثال والمثلات، ليؤيد وجهة نظره، ولكنه لم يستمد من التاريخ بالذات تلك الآراء التي قامت عليها نظرياته السياسية، وليس عندنا من دليل على هذا أقوم من الدليل الذي ترجع فيه إلى الفصل الثامن من كتابه (روح القوانين) إذ يقول: (كما أن الديمقراطيات تفسد وتنهار باعتداء الأمم على المحاكم العليا - البرلمان - والحكام والقضاة، واستلاب حقوقهم وخصائصهم، كذلك تسقط الملوكيات، أو هي تأخذ في الانحلال إذا مضت تسلب النقابات والجمعيات والمدن امتيازاتها الطبيعية والحالة الأولى مظهر لاستبداد الجماعات، والثانية مظهر لاستبداد الفرد.) (إن السبب الذي اسقط أسرتي (تسن) و (سووي) كما يقول مؤلف صيني، إنما يرجع إلى أن أمراء الأسرتين لم يكتفوا من الحكم بالأشراف الأعلى على شؤون الدولة، كما كان شأن الأمراء في الأسر اللواتي سبقت في الحكم، وكما هو طبيعي أن يكون في ملوكيات رشيدة؛ بل حاولوا أن يتحكموا ويحكموا في كل شأن من الشئون بأنفسهم، وبغير واسطة.
وكلمات هذا المؤلف الصيني، تعبر عن الأسباب التي يعود إليها سقوط الملوكيات في كل الأزمان.)
(إنما تسقط الملوكيات بأن تقوم في نفس الملك شهوة أن يظهر جبروته وسلطانه، فيحرِّف النظم المقررة ويفسدها، بدل أن يحافظ عليها ويرعاها.
ومثل ذلك أن يغتصب الحقوق والامتيازات التي تقوم عليها بعض النظم من يد فئة، ويهبها باختياره، ولمجرد إشباع شهوته، لفئة أخرى، وان يحكم خياله وتصوراته في شؤون الدولة؛ دون عقله ونهاه.)
(تنهار ملوكية عندما يقدم ملك يحاول أن يحصر كل شيء في ذاته.
فيركز الحكومة في عاصمته، ويركز العاصمة في بطانته وحاشيته، ويركز البطانة في ذاته؛ وفوق كل هذا يكون سقوط الملوكية سريعاً مروعِّاً، عندما يسيء الملك فهم سلطته ومركزه، وحب شعبه له، وعندما يغيب عن فهمه أنه يجب أن يشعر دائما بأنه في أمن وسلام، قدر ما يشعر المستبد القاهر أنه دائماً في خطر)
أهـ فهل من شك في أن (منتسكيو)، وهو رئيس محكمة (بوردو) العليا إنما يعبر بهذا عما قام في ذهنه عن ملوكية لويس الرابع عشر وخلفه، وأنه ذلك المؤلف الصيني، الذي يخيل إلينا أنه لم يوجد إلا في مخيلة مؤلف (روح القوانين) لم يقحم في هذا الموقف إلا ليكون مادة لضرب المثل، وإظهار المثلة؟ ليس هذا ببعيد.
ذلك بأن (منتسكيو) يعرف تمام المعرفة، كما ذكر في غير الموطن الذي نقلنا عنه هذا القول، أن الملوكيات كثيراً ما فسدت وانحلت متأثرة بأسباب تختلف كل الاختلاف عن الأسباب التي ذكرها. كذلك لا يستطيع المؤرخ أن يعزو كبير قيمة لنزعة هذا العبقري إلى الاستعانة بالعلوم الطبيعية.
فإن قوله بأثر البيئة الطبيعية كان أمراً له في البحوث الاجتماعية والسياسية، إلى جانب الجدة والحداثة، خطره العلمي.
غير أن هذا البحث مجلُواً في الصورة التي لابسته في ما كتب (منتسكيو)، وفي الصورة المحرفة التي ظهر بها في بحوث (روسو) لن يجد فيه المفكر الحديث مقنعاً، أو يقع فيه على حقيقة تنقع الغلة.
فلقد عالج تطبيق العلوم الطبيعية على الاجتماعيات من وجهة هي على غرابتها وبعدها عن مناحي الفكر الحديث، تثير عند المحدثين اللذين يعرفون مرامي العلم العملي ومنازعه.
كثيراً من الاستخفاف بها، والسخرية منها.
ومثلنا على ذلك ما عالج به حالات إنجلترا الاجتماعية من الآراء التي بثها في فصلين من (روح القوانين) فإن آراؤه التي بثها في ذينك الفصلين، تحمل على القول بأن (منتسكيو) كان فيها إلى الهزل والمجانة.
اقرب منه إلى الجد.
ويزيدني بهذا الأمر ثقة أن فلاسفة القرن الثامن عشر لم يتعففوا عن النزعة إلى المجون، بجانب ما كان فيهم من حب النفع العلمي، والاستقامة في التفكير.
وعندي أن (منتسكيو) لم يرم بما كتب في الفصلين السالفين إلا إلى الاستخفاف بقرائه الإنجليز.
وما قولك في رجل يبدأ البيان عن حالات الإنجليز الاجتماعية بالكلام في تأثير طقس بلادهم، فيعزو إليه نزعة الإنجليز إلى الانتحار! ثم يحاول أن يعلل الصورة التي تلابس ميولهم القومية، فيقول أنها ترجع إلى صف الاستعداد الطبيعي على ترشح العصارة العصبية.
وهذا قول لا يكفي أن يكون سبباً في تعليل ميول الإنجليز القومية لا غير، بل يكفي للقول بأن الشعب الإنجليزي مقضي عليه بالفناء جميعاً. وهو يحاول في فصل تال أن يفسر تأثير ذلك الأمر على شكل الحكومة الإنجليزية فيقول أن سلالة لها استعدادها في التأثر بالاستثارات المختلفة وقلة ثباتها على شيء، لن تصبر على حكومة تلقي مقاليدها في يد فرد واحد، فلا لقوم خارجة على سلطان الحكومة وعلى سلطانه، وإنه من الطبيعي أن تحلم أمة غرس فيها طقس البقعة التي تسكنها من كرة الأرض خليقة القلق والجزع، بحيث لا تحتمل البقاء على حالة بعينها، أو الصبر على شيء بذاته، بقوانين مستخلصة من التجارب، فيكون من الصعب نبذها والنزوع إلى غيرها.
ويخلص (منتسكيو) من هذا إلى رأي أعجب من كل آرائه الآخر، مؤداه أن الدستور الإنجليزي، إنما هو جني الضباب الذي يحط على بلادهم.
أضف إلى ذلك أنه يعزو دين الإنجليز إلى السبب عينه، في موضع آخر من ذلك الكتاب. إسماعيل مظهر

شارك الخبر

مشكاة أسفل ١