أرشيف المقالات

أسرار قرآنية - الإبداع الحرفي (2)

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
2أسرار قرآنية الإبداع الحرفي (2)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبيِّ الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.   وبعد: فقبل أكثر من عشرين سنة تقريبًا، سألني أحدهم سؤالاً شغلني لعدَّة سنوات؛ فقد فتح لي بابًا كنتُ غافلاً عنه، ونورًا كنتُ لا أبصره، وكنزًا لم أدرِك قيمتَه، وبعد البحث عن الإجابة تنبَّهتُ إلى عِظم تقصيري في تدبُّر القرآن، ومدارسةِ كلام ربِّنا المنان، ثمَّ دعوتُ الله أن يرزقني من كنوز كتابه، ويفتح عليَّ من عجائبه وإبداعاته، ومن الإبداع في القرآن "الإبداع الحرفي"، وهو يتضمَّن نوعين: 1 - الإبداع في حروف الجر. 2 - الإبداع في الحروف (إضافة أو حذفًا) بغير حروف الجر.   وقد سبق الحديثُ عن الإبداع في حروف الجرِّ، وهنا نتحدَّث عن النوع الثاني.   ولنعد لسؤال صاحبنا، فقد سألني عن قوله تعالى: ﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ﴾ [الواقعة: 63 - 70].
قال: يا شيخ، عند الحديث عن ﴿ مَا تَحْرُثُونَ ﴾ [الواقعة: 63] قال: ﴿ لَجَعَلْنَاهُ ﴾ [الواقعة: 65]، بينما عند الحديث عن ﴿ الْمَاءَ ﴾ [الواقعة: 68] قال: ﴿ جَعَلْنَاهُ ﴾ [الواقعة: 70] بدون حرف اللام، فما السرُّ؟ أو لماذا حذف القرآنُ حرفَ اللام؟   لعلَّ من الأسرار - والله أعلم - أنَّ الحراثةَ والزِّراعة والوصول إلى الحطام قضيَّة يتدخَّل الإنسان فيها بشكلٍ أو بآخر؛ فأضاف حرفَ اللام، بينما قضيَّة إنزال الماء من المُزن[1] لا يتدخَّل فيها الإنسان؛ وإنَّما قضيَّة تفرَّد الله بها، ومن هنا كان من المناسب حذف اللام، فالأمر لله وحدَه فقط.   ولنأخذ مثالاً آخر: قال الله تعالى: ﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحجرات: 14].
الآية تنكِر على الأعراب الذين أولَ ما دخلوا في الإسلام ادَّعوا لأنفسهم مقامَ الإيمان، ولم يتمكَّن الإيمانُ في قلوبهم بعد[2]، فنفت الإيمان بـ "لَمْ"، وحين انتقل السِّياق إلى إرشادهم لِما يقولون - أردَف معها توضيح "لَمَّا"، فأضاف حرف الألف في دخول الإيمان، فما السرُّ؟   لعلَّ من الأسرار - والله أعلم - إدراك الفَرق بين لم ولَمَّا؛ فـ "لَمْ" نفيٌ للموجود وعدم ارتباطه بالمستقبل، أمَّا "لَمَّا" فهي نَفي مع إمكانيَّة تحقُّقه في المستقبل بجهدٍ وعمل، فالله يقول للأعراب: أنتم غير مؤمنين حاليًّا، لكنكم من الممكن أن تكونوا مؤمنين في المستقبل، فأنتم على الطَّريق سائرون، والإيمان ليس ممنوعًا عنكم، فأضاف حرفَ الألف لعدَّة أمور، أهمها: ♦ تسلية للأعراب بعد نَفي الإيمان عنهم بـ "لم".   ♦ تشجيعهم على المضيِّ في الطَّريق، وأنَّهم يمكن أن يَصلوا إلى تلك المنزلة.   ♦ تسليط الضَّوء على الجانب الإيجابيِّ والمشرِق، من حرصِهم على الخير ورغبتِهم في الوصول إلى "الإيمان".   ♦ وهذا ليس خاصًّا بهم؛ بل لكلِّ الأمَّة من بعدهم، فالعبرةُ بعموم اللَّفظ لا بخصوص السَّبَب، رزقنا الله الإيمانَ، وجعلنا من أهل التقوى والإحسان.   والآن جاء دورك - أخي القارئ - لتفكِّر معنا: اقرأ قولَه تعالى: ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ [يس: 13 - 17].   في الآية (14) ﴿ مُرْسَلُونَ ﴾ [يس: 14]، بينما في الآية (16) ﴿ لَمُرْسَلُونَ ﴾ [يس: 16]، فما السرُّ في إضافة حرف اللام؟   أتركك لتستمتع مع القرآن.   وأدعو الله أن يفتَح علينا من كنوز كتابه، وينير قلوبَنا بنوره، ويشرح صدورَنا بتلاوته وتدبُّره.   والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


[1] المُزن: سَحابٌ يُمطر، أو يمكن أن يؤدِّي إلى سقوط مطر. [2] تفسير ابن كثير.



شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن