أرشيف المقالات

معنى التنزيه عند الإمام ابن تيمية

مدة قراءة المادة : 16 دقائق .
2معنى التنزيه عند الإمام ابن تيمية   كانت هذه المسألة قد وصلت في عصر ابن تيمية إلى الذروة، حيث تباينت الآراء بين فرق المتكلمين والصوفية والفلاسفة.   يقول الرازي "المتوفى 606 هـ"- وهو من أقرب المتكلمين لهذا العصر- "إن المسلمين قد اختلفوا في صفات الله تعالى اختلافًا شديدًا، وكل واحد يدعي أنه على الحق، وإن مخالفه هو المبتدع"[1].   ونحن نعلم أن الخلاف في بدايته كان في حدود طرفي النفي والإثبات، أي بين أهل الحديث من جهة، والجهمية والمعتزلة من جهة أخرى.
وربما كانت المصادر المتقدمة في الزمن أدق في نقلها لأوجه الخلاف بينهما: منها ما أورده ابن قتيبة (276 هـ) بكتابه (تأويل مختلف الحديث) حيث ينعي على المتكلمين أمثال غيلان وعمرو بن عبيد (142 هـ) ومعبد الجهني (80 هـ) خوضهم في معانى الكتاب والحديث بواسطة العقل والنظر واتخاذ وسائل مستحدثة لفهم هذه المعاني، بينما لا تدرك بالطفرة والتولد والجوهر والغرض والكيفية والكمية والأينية وإنما هي من الأمور التي لا يعلمها نبي إلا بوحي من الله تعالى"[2] إنه لا يقبل منهم العذر في الاختلاف في هذه الأمور - محاولين التشبه بالفقهاء عندما اختلفوا في الفروع والسنن - لأن نقاشهم يدور حول مسائل غيبية كالتوحيد وصفات الله وقدرته ونعيم أهل الجنة وعذاب النار إلخ[3].   إن هذه العبارة تدعونا إلى بحث الجذور التاريخية ومتابعتها حتي يتبين لنا مدى صحة موقف ابن تيمية، لأن هذه المشكلة الكلامية كانت من المسائل التي أثارت خصومة عليه عندما كتب رسالتيه؛ أحدهما المسماة بالحموية الكبرى، والثانية: العقيدة الواسطية، إذ أشتد بسببها معارضوه ورموه بالضلال.   "والضلال يعني حينذاك حرية الفكر"[4]، بينما لم يكن للشيخ من دور في هذه الرسالة إلا أنه أعاد على مسمع المسلمين أقوال السابقين منذ عصر الصحابة والتابعين ومن تلاهم.
إننا نقرأ له ما يدلنا على طريقته في البحث في مثل قوله: "والله يعلم إني بعد البحث التام، ومطالعة ما أمكن من كلام السلف، ما رأيت كلام أحد منهم يدل، لا نصًا ولا ظاهرًا ولا بالقرائن، على نفي الصفات الخبرية"[5].
والصفات الخبرية تعنى أفعال الله عز وجل التي أخبرنا بها الله بالكتاب والسنة.   والظاهر أن الإسراف في التأويل - ونعني به هنا التحريف - والغلو في الأخذ بالتفسيرات المختلفة: الكلامية منها والصوفية، قد حجب أقوال السلف، فلم يعد يعرفها إلا القلة، مع أن المصادر تذخر بما أعلنوه من ضرورة التقيد بما كان عليه أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-.
ومن المفيد أن نذكر هنا نصيحة ابن مسعود رضى الله عنه للمسلمين (من كان منكم متأسيًا فليتأسى بأصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-، فإنهم كانوا أبر قلوبًا، وأعمق علمًا، وأقل تكلفًا، وأقوم هديًا، وأحسن أخلاقًا، اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم فإنهم كانوا على هدى مستقيم"[6].   ولكن الاختلافات في الأصول - كما يذكر الشهرستاني - حدثت في أواخر أيام الصحابة[7].
ولكن أول من قال بخلق القرآن هو الجعد بن درهم (قتل 124هـ) وأخد عنه الجهم بن صفوان.
ويورد ابن كثير سلسلة الأشخاص المخالفين لما كان عليه الصحابة والتابعين كما يلى: الجعد بن درهم ثم الجهم بن صفوان الذي أخذ عنه بشر المريسي (وأخذ أحمد بن أبى دوواد عن بشر)[8].   كذلك ذكر ابن عساكر أن جعد بن درهم كان يتردد على وهب بن منبه ليسأله عن صفات الله عز وجل فنصحه وهب بالكف عن ذلك، قال "ويلك يا جعد أقصر المسالة عن ذلك، إني لأظنك من الهالكين" ثم عدد الصفات التي وردت بالقرآن من العلم والكلام وغير ذلك، مرددًا في كل صفة منها قوله: "لو لم يخبرنا الله في كتابه أن له سمعًا ما قلنا ذلك"[9].
وكرر العبارة في باقي الصفات الواردة بالكتاب.   أما جهم بن صفوان: "قتل عام 130هـ وقيل عام 132هـ" الذي ينتسب إليه الجهمية النافون للصفات - فإنه "كان أول من اشتق هذا الكلام من كلام السمّنية وكانوا شككوه في دينه حتى ترك الصلاة أربعين يومًا، وقال لا أصلي لمن لا أعرفه، ثم اشتق هذا الكلام وبنى عليه من بعده"[10].   وقد اتخذ جهم بن صفوان من أقوال الجعد بن درهم أساسًا لمذهبه.   وكان الجعد "قد زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلًا، ولم يكلم موسى تكليمًا"[11].   وفي هذا النص إشارة إلى نفى الصفات جملة، فظهر الاتفاق بينهم وبين المعتزلة، إذ يرى الذهبي أن المعتزلة أيضًا تقول هذا (وتحرف التنزيل في ذلك، وزعموا أن الرب منزه عن ذلك"[12]، وكذلك الشهرستاني في وصفه للجهم يقول "وكان السلف كلهم من أشد الرادين عليه.
ونسبته إلى التعطيل المحض.
وهو أيضًا موافق للمعتزلة في نفي الرؤية وإثبات خلق الكلام وإيجاب المعارف بالعقل قبل ورود السمع"[13].   يتبين لنا من هذا أن نفى الصفات كان مخالفًا لما اتفق عليه المسلمون في عصر الصحابة والتابعين، حيث تمدنا المصادر من كتب التاريخ والفرق وغيرها بما يجل عن الحصر في هذا الحيز من البحث - من أقوال الأئمة السابقين المؤيدة للإثبات[14].   ويمكنا هنا الاكتفاء بعبارات موجزة توضح إجماع علماء السلف على الإثبات: قال الأوزاعي "كنا - والتابعون - متوافرون - نقول: إن الله عز وجل فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة عن صفاته"[15].   وسئل كل من أبى حنيفة وعبد الله بن المبارك عن تفسير حديث النزول فاتفقت إجابتهما.
قالا: "ينزل بلا كيف"[16].   ويطول بنا المقام لو استطردنا في الاستشهاد بأقوال الأئمة.
فإن مالكًا.   أجاب عن سؤال كيفية الاستواء بعبارته المشهورة "الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه، ولا يقال كيف فالكيف عنه مرفوع"[17].   ولما سئل الأوزاعي ومالك وسفيان الثوري والليث بن سعد عن الأحاديث الواردة في التشبيه اتفقوا في الإجابة على القول "أمروها كما جاءت بلا كيفية"[18].
وهو نفس الرد الذي أجاب به الإمام أحمد في تفسير قوله تعالى ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]،- إذ سئل "ما أردت بقولك سميع بصير"؟ فكانت إجابته الحاسمة: أردت منها ما أراده الله منها وهو كما وصف نفسه، ولا أزيد على ذلك"[19].   وكان الشافعي شديد التمسك بمن رآهم مثل سفيان ومالك وغيرهما، مقرًا بأن "الله على عرشه في سمائه يقرب من خلقه كيف شاء، وينزل إلى السماء الدنيا كيف شاء.."[20].
وقد تمسك بهذا المنهج في مواجهته لبشر المريسي فكان يسأله (أخبرني عما تدعو إليه: أكتاب ناطق، وفرض مفترض، وسنة قائمة، ووجدت عن السلف البحث فيه والسؤال؟".
ولما أجابه بشر بالنفي ألزمه الإقرار على نفسه بالخطأ[21]..   ومن الحجج التي برهن بها أصحابها على الأخذ بالأحاديث النبوية المتصلة بالصفات أنها نُقلت بواسطة العلماء الثقات، أي نفس الذين نقلوا ما روي عن الطهارة والغسل والصلاة والأحكام، ولا يجوز إذن أن ترد أحاديث النزول "وإلا فقد ارتفعت الأحكام وبطل الشرع"[22].   ومن الآراء التي توضح موقف المسلمين الأوائل من أخبار الصفات، ما يقوله ابن هبيرة الوزير العالم الحنبلي (متوفى في 560 هـ): "تفكرت في أخبار الصفات فرأيت الصحابة والتابعين سكتوا عن تفسيرها، مع قوة علمهم، فنظرت السبب في سكوتهم، فإذا هو قوة الهيبة للموصوف، ولأن تفسيرها لا يتأتى إلا بضرب الأمثال، وقد قال تعالى: ﴿ فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ ﴾ [النحل: 74][23].   هناك إذن الغالبية العظمى تثبت الصفات فأطلق عليهم "الصفاتية"، للتفرقة بينهم وبين المعتزلة.
يقول الشهرستاني: "ولما كانت المعتزلة ينفون الصفات والسلف يثبتون سمى السلف صفاتية والمعتزلة معطلة"[24].   ولكن ما دور ابن تيمية في كل ما تقدم؟ أنه لم يأت بمقولات جديدة من عنده بل عكف على المصادر التي نقلت هذه الآراء وأخذ يؤلف بينها لكي يدعم أسانيده في فتواه، فجاءت خلاصة لمذهب السلف حيث تتبع أقوال شيوخهم حتى عصره[25].   وقد أعلن أمام المخالفين له أنه يمهلهم ثلاث سنين فإن جاء أحدهم "بحرف واحد عن القرون الثلاثة يخالف ما ذكرته فانا أرجع عن ذلك، وعلى أن آتي بنقول جميع الطوائف عن القرون الثلاثة يوافق ما ذكرته: من الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية والأشعرية وأهل الحديث وغيرهم"[26].   فلم يكن شيخنا في الحقيقة إلا ناقلًا للنصوص الواردة في هذا الكتاب حيث خلص منها إلى القول الشامل وهو "أو يوصف الله بما وصف به رسوله وبما وصفه به السابقون الأولون لا يتجاوز القرآن والحديث"[27].   ويسوقنا البحث إلى محاولة الإلمام بالشبهات التي تثار حول مسألة الصفات التي تناولها كل من فريقي التعطيل (أو النفي) والتمثيل أو التشبيه.   كذلك اختلافه مع الآخرين بالتأويل ولا سيما أتباع المدرسة الأشعرية.   وسنحاول أن نعرض فيما يلى لما وصفه به خصومه حيث عدوه من المجسمة، وهذا يتطلب بحث العلاقة بين النظريات الكلامية للكرامية وبين آراء ابن تيمية.   وسنبحث في النهاية عن الأثر الذي يعكسه موقفه الكلامي الذى يقال إنه يؤدي إلى التجسيم - ومن ثم يصبح طريقه الشبيه بالصوفي مؤديًا إلى أسمى الغايات وهو رؤية الله في الجنة، ويمكن أن تفسر هذه الرؤية - في ضوء مذهبه - بأنها تتم بنظرة حسية[28]..


[1] الرازي.
مناقب الإمام الشافعي ص 35. [2] ابن قتيبة.
تأويل مختلف الحديث ص 17. [3] نفس المصدر ص 17. [4] عبد العزيز المراعي.
ابن تيمية ص 5. [5] ابن تيمية.
مجموعة الرسائل الكبرى ج 1 ص 470- 471. [6] السيوطي.
صون المنطق ص 52. [7] الشهرستاني.
الملل ج 1 ص 32 ط صبيح 1347هـ. [8] ابن كثير.
البداية والنهاية ج 9 ص 350. [9] نفس المصدر والصفحة. [10] الملطى.
التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع ص 99. [11] الذهبي.
العلو ص 100. [12] الذهبي: العلو ص 100. [13] الشهرستاني.
الملل والنحل ج 1 ص 81 تحقيق بدران. [14] من أهم هذه المصادر.
الأسماء والصفات للبيهقي، والعلو للعلي الغفار للذهبي وصون المنطوق الكلام عن فن المنطق والكلام للسيوطي وخلق أفعال العباد للبخاري وينظر أيضًا كتاب عقائد سلفية تحقيق د.
النشار وعمار الطالبي. [15] الذهبي.
العلو ص 102. [16] البيهقي.
الأسماء والصفات ص 456. [17] الذهبي.
العلو ص 103. [18] البيهقي.
الأسماء والصفات ص 453.
العلو ص 102 مع اختلاف بعض الألفاظ حيث أورد النص كالآتي.
فكلهم قالوا أمروها كما جاءت بلا تفسير أو أمضها بلا كيف ص 105. [19] ابن كثير.
البداية والنهاية ج 1 ص 273. كما وردت العبارة بصيغة أخرى قال (الكيف غير معقول والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة) ص 104 العلو..
للذهبي ويقول ابن تيمية (قال ربيعة ومالك وابن عيينة وغيرهم المقالة التي تلقاها العلماء بالقبول.
الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة) مجموعة الرسائل الكبرى ج 1 ص 416. [20] الذهبي.
العلو ص 120. [21] السيوطي.
صون المنطق ص 63 و 64. [22] السيوطي.
صون المنطق ص 6.
وقد جاءت هذه العبارة على لسان إسحق بن راهويه (238هـ) في إجابته عن استفسار عبد الله بن طاهر (230 هـ) فعلق الثاني في النهاية بقوله: "شفاك الله كما شفيتنى". [23] العليمي.
المنهج الأحمد ج 2 ص 304. [24] الشهرستاني: الملل والنحل ج 1 ص 95 ط صبيح 1347هـ. [25] يقول ابن تيمية.
وكلام السلف في هذا الباب موجود في كتب كثيرة لا يمكن أن نذكرها هنا إلا قليلًا وأخذ يذكر الكتب مع أسماء مصنفيها على سبيل التحديد (الفتوى الحموية الكبرى ص 17 وما بعدها). [26] مجموعة الرسائل الكبرى ج 1 ص 417. [27] الفتوى الحموية ص 21. [28] دكتور النشار.
نشأة الفكر ج 1 ص 415 وكان هذا رأيه في ابن تيمية.



شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير