أرشيف المقالات

ندرة البطولة

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
8 للأستاذ أحمد أمين كتب الكاتب القدير الأستاذ عباس محمود العقاد مقالاً رد فيه على مقالتي في (ندرة البطولة)؛ وأنا سعيد حقاً بهذا الرد الممتع، فقد أبان فيه جانباً من جوانب الموضوع، وأوضحه أيما إيضاح، ودعمه بالحجج والبراهين القوية وحبذا لو اتخذ هذا المقال مثلاً للناقدين، فيناقشون ما يعرض من الأفكار في هدوء وجد وتفكير عميق وأسلوب مهذب، ولا يكون لهم غرض إلا الوصول إلى الحق وتجليته ثم نعود بعد إلى موضوعنا، فيخيل إلي أن ليس بيني وبين الأستاذ العقاد خلاف إلا في مسألة واحدة متى حددت ظهر وجه الصواب وانكشف جانب الحق تلك هي تحديد ما نريد بالنابغة أو البطل، وما نريد بالمقارنة بين العصر الماضي والعصر الحاضر. مقياس النابغة في نظري أن يفوق أهل زمانه ويسبقهم في فنه أو علمه أو أدبه حتى لا يدركوه إلا بعد أزمان؛ وعلى مقدار هذا السبق يكون النبوغ.
فسيبويه نابغة في النحو لأنه رأى من قواعده ما عجز أهل زمانه عن النظر إليه، وفاقهم في ذلك بمراحل؛ واسحق الموصلي نابغة لأنه ابتدع من الفن ما لم يعرفه فنانو عصره، وكان في ذلك هو السباق وهم المقلدون.
وقل مثل ذلك في الجاحظ وأبن الرومي وشكسبير وجوته.
فأما إن هو عرف ما يعرفه أهل زمانه، أو أتى من الفن بما يأتيه أهل زمانه، فلسنا نسميه نابغة وإنما نسميه عالماً أو فناناً هذه مسألة، والمسألة الأخرى أننا إذا أردنا أن نقارن عصراً بعصر في كثرة النبوغ وندرته، فلا نقارن معلومات عصر بمعلومات عصر، ولا فن عصر بفن عصر، إنما نقارن مسافة البعد بين النابغين في عصر وبين عامة المتعلمين فيه؛ ونفعل مثل ذلك في العصر الذي نريد أن نقارن به.
فإذا أردنا المقارنة بين العصر العباسي الأول - مثلا - وبين عصرنا الحاضر في الأدب، وازنا بين ابن المقفع والجاحظ وبشار وأبي نواس، وبين الكتاب العاديين والشعراء العاديين في ذلك العصر، وقسنا مسافة البعد بينهم؛ ثم فعلنا مثل ذلك في عصرنا الحاضر، فإن كانت مسافة البعد بين البارزين والعاديين في العص العباسي أطول منها بين البارزين والعاديين في عصرنا حكمنا بأن البارزين في العصر العباسي أنبغ هذا في رأيي أعدل في الحكم، وأقرب إلى الصواب؛ وإلا لم يعد أي نابغة من نوابغ العصر الماضي نابغة؛ فتلميذ المدارس الثانوية اليوم يعرف من قواعد النحو ما لم يكن يعرفه سيبويه، ويعرف من الطبيعة ما لم يكن يعرفه (نيوتن)؛ وتلميذ الهندسة اليوم يعرف من نظريات الهندسة ما لم يكن يعرفه إقليدس، ويعرف من الهندسة التحليلية ما لم يكن يعرفه ديكارت؛ وقد يكون من كتابنا اليوم من يجيد الكتابة خيراً من ابن المقفع والجاحظ، ولكن قيمة سيبويه ونيوتن وإقليدس وديكارت وابن المقفع والجاحظ ليست في مقارنتهم بأمثالهم في عصرنا، ولكن بمجموعة المتعلمين في عصرهم، ثم بموازنة ذلك في عصرنا على هذا النمط وهذا المنهج.
فنقطة المقارنة هي مسافة البعد، لا مجموع المعارف ولا المقدرة الفنية أو السياسية أو الحربية.
هذه هي نظريتي، فأنا أدعي أن العصر الحاضر تندر فيه البطولة ويقل فيه النبوغ بهذا المعنى فلا يسألني الأستاذ بعد ذلك (ما كتاب الجاحظ الذي يعجز أبناء عصرنا عن الإتيان بمثله؟) ولا يقل: (إن الموصلي وإبراهيم بن المهدي لا يبلغان شأو سلامة حجازي والسيد درويش وأم كلثوم) ولا يذكر أن فوش وهندنبرج ومصطفى كمال أتوا من الواقع ما يفوق ما أتى به يوليوس قيصر وإسكندر المقدوني وجنكيزخان.

الخ فكل الذي ذكره الأستاذ حق، ولكنه لا ينقص ما ادعيت.
قد كان ينقضه لو أنني ادعيت أن النبوغ هو إتيان الآخر بخير مما أتى به الأول؛ ولو ادعيت ذلك لكانت دعوى ظاهرة البطلان، ولكان ابني في المدارس الثانوية خيراً من رياضيي القرون الوسطى، فهو يعرف ما لم يعرفوا، وأنبغ من كل علماء البلاغة في العصر العباسي الأول لأنه يعرف من مصطلحات البلاغة ما لم يعرفوا؛ وهكذا في كل علم وكل فن أخشى أن أكون في مقالي السابق لم أوضح القصد، ولم أجلِّ الغرض؛ أما الآن فأظن أن الأستاذ يوافقني بعد هذا التحديد على نظريتي؛ فعندنا كتاب قديرون يفوقون الجاحظ في كتبهم وفي تأليفهم، ولكنهم مع ذلك لم ينبغوا نبوغ الجاحظ، فقد كان بصيراً بين عميان، وصاحياً بين سكارى، وفي القمة ومن حوله في القاع؛ ولكن كتابنا إن فاق منهم عدد قليل فحولهم كثير مقاربون؛ وإن نبغ في عصرنا قانوني فليس هو في السماء ومن عداه في الأرض كما كان الشأن في القرون الماضية، ولكنك ترى قانونيين مثله أو قريبين منه ومسافات البعد ليست واسعة والعالم الآن متخم بالعلماء المتبحرين، والساسة الماهرين، والفنانين المبدعين، والحربيين القادرين، والصناع الحاذقين، ولكن من العسير جداً أن تعد منهم نوابغ لأن كل طائفة منهم تكاد تكون كأسنان المشط في الاستواء، وإن فاق واحد منها فتفوق قليل ظهر نابليون فاستعبد الناس، وأجرى الدماء أنهاراً، وقلب الممالك رأساً على عقب، ودوخ الدنيا، فكان نابغة حقاً في ناحية؛ وبيننا الآن في عصرنا من هم أعلم منه بفنون الحرب ومن هم أقوى منه إرادة، وأبعد نظراً، ولكن من الصعب أن نسميهم نوابغ، لأن الناس ليسوا مغفلين كما كانوا أيام نابليون، ولأنه وحده كان هو القاهر المريد ومن حوله كانوا هم المنفذين المأمورين، فظهر ولم يظهروا، ونبغ ولم ينبغ بجانبه إلا قليل لقد أتى عصرنا بالعجائب - كما يقول الأستاذ - (وأتى بالحقائق التي تشبه الخيال، وبالعبر التي تشبه نوادر الأمثال) ولكن كل ذلك - مع الأسف - لا يسمى نبوغاً بالمعنى الذي نقصده، لأنها قد كثرت حتى صارت مألوفة معتادة.
هل إذا كثر الصناع الماهرون في بلدة سميتهم كلهم نوابغ؟ أم هل إذا كثر القانونيون البارعون في فرنسا سميتهم كلهم نوابغ؟ أو هل إذا كثر الفلاسفة المتعمقون في ألمانيا كانوا كلهم نوابغ؟ كلا ليس هذا هو مصطلحنا في الحياة، فالبلدة التي يكثر فيها الجمال يكون الجمال فيها عادياً مألوفاً، والحقل الذي تطول أكثر أشجاره وتنمو نمواً جيداً لا يمكننا أن نسبغ صفة التفوق عليها جميعاً وهكذا فكثرة العلماء والفنانين في عصرنا الحاضر حجة لي لا عليَّ، وهي السبب في أننا لا نعدهم نابغين ولا أبطالا.
ولو كان واحد منهم في الزمن القديم، وكان وحده هو البارز وهو السائد لكان وحده هو النابغ.
فلو كانت المسألة مسألة تقدم عصرنا وتفوقه على الاعصر الماضية في سياسة جميع العلوم والفنون لوافقتك على ذلك كل الموافقة، ولكن المسألة هي مسألة النبوغ في العصر.
فلو قارنت مزرعة بمزرعة وكانت كل أشجار إحدى المزرعتين ضعيفة وكل أشجار الأخرى قوية نامية لقلت بلا تحرج وبالبداهة إن المزرعة الثانية خير من الأولى، وإنها تفوقها بمراحل؛ ولكن لو سئلت هل في المزرعة الثانية شجرة متفوقة على أقرانها لقلت بالبداهة أيضاً (لا) بملء فيَّ. فعصرنا كذلك غني بكل مرافق الحياة، غني بالرجال في كل علم وفن، ولكن هذا الغنى سلبه النبوغ أيضاً، فكان عجيباً أن نرى الغني علة الفقر، والتخمة سبب الجوع. لقد انقسم كل مجتمع إلى طوائف، وكان من نتائج المدنية الحديثة زيادة التخصص، فكما تخصص الصناع في جزء خاص من الصناعة تخصص علماء كل علم لفرع منه، فصار من المضحك أن يكون الرجل قانونياً في كل فروع القانون، أو طبيباً في كل فروع الطب، أو أديباً في كل فنون الأدب؛ ونشأ عن هذا التخصص توفر العدد الكثير على كل فرع من فروع العلم والفن وإتقانهم له؛ فحيثما تلفت وجدت العدد الذي لا يحصى في الأمم المتمدنة في كل نوع وكل فرع وكل صناعة.
ونتج من ذلك أن ما كان يسمى نبوغاً في العصور الماضية أصبح اليوم شيئاً عادياً مألوفاً، فعز النبوغ وندرت البطولة - ولم نعد نرى أمثال الجاحظ الذي يؤلف في الأدب والاجتماع والجغرافيا والتاريخ والمذاهب الدينية والطب والنفس والحيوان والاقتصاد؛ وصار الاقتصار على مادة واحدة بل فرع من مادة بل جزء من فرع هو المنهج العلمي الصحيح، وهذا أغنى العلم وسهل للعدد الوفير أن يصل إلى شأو بعيد وفي الوقت نفسه كان سبباً لقلة النبوغ، فالنبوغ يكثر حيث يعز الشبيه هذا من ناحية العلماء أنفسهم وكثرتهم، وهناك ناحية أخرى وهي ناحية الناس الذين يحكمون بالنبوغ، فلابد للنبوغ من نابغ وحاكم بالنبوغ، كما لا بد للجميل من ناظر ومنظور.
فهؤلاء الناس أصبحوا - على العموم - مثقفين ثقافة عامة خيراً مما كانوا عليه في العصور الماضية.
اتسعت معارفهم ودقت أنظارهم، وكان لهم أيضاً شبه تخصص، فمنهم من يميل إلى الأدب، ومنهم من يميل إلى العلم، ومنهم من يميل إلى الفن.
وأصبح الفرق بينهم وبين العلماء المتخصصين أقل بكثير من الفرق الذي كان بين العامة والعلماء في العصور الماضية؛ وكذلك شأنهم في السياسة، بل شأنهم في السياسة خير من شأنهم في العلم، كل يعرف حقوقه وواجباته السياسية، ويستطيع أن يزن قادته وزناً صحيحاً إلى حد ما. كل ذلك أنتج نتيجتين بعيدتي الأثر، أولاهما أنهم أصبحوا يتطلبون من النابغة ما يشبه المستحيل حتى يعد في نظرهم نابغة، وقد كان ذلك فيما مضى سهلاً يسيراً، فمن عاش في الظلماء يبهره نور القنديل، ومن عاش في ضوء الكهرباء لا يبهره ضوء الشمس؛ والثانية أن الناس أصبحوا متسائلين مدققين باحثين لا يستطيع السياسي القدير أن يتلاعب بهم وأن يجعلهم آلة صماء كما كانوا من قبل.
من أجل هذا لا نرى كبار الساسة اليوم يستطيعون أن يخضعوا الناس لأمرهم كما فعل نابليون ويوليوس قيصر وجنكيزخان وأمثالهم، وعدم الخضوع وكثرة السؤال والتدقيق يقلل من مجد الساسة، ولا يرفعهم إلى درجة الآلهة وأنصاف الآلهة كما كان في سالف الزمان؛ ومثل هذا يقال في كل علم وكل فن فعصرنا الحاضر (طابعه طابع المألوف والمعتاد لا طابع النابغة والبطل) وإن كان مألوفنا ومعتادنا أرقى من نابغة القرون الماضية وبطل القرون الماضية إن كان هذا - يا أخي - هو الذي أردتُ فأظن أنه لا يرد علي بمزايا العصر الحاضر، وعلم العصر الحاضر، وفن العصر الحاضر؛ وإذا كان النبوغ في السبق وكانت المقارنة بين عصرين بقياس مسافتي البعد، فأرجو أن نكون على وفاق فيما ذكرتَ وذكرتُ، وسلامي عليك ورحمة الله أحمد أمين

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢