أرشيف المقالات

ضوابط المزاح في الإسلام

مدة قراءة المادة : 15 دقائق .
2ضوابط المزاح في الإسلام[1]
1) أن يكون صِدقًا: في مجتمعنا نسمع كثيرًا مِن الناس يتكلَّم بكلماتٍ شِبه مضحكة، وهي في حقيقتها كاذِبة، بدعوى أنَّنا نمزح ونفرح أنفسَنا، وهم بذلك يقعون في شيءٍ خطير؛ وذلك بحَصْد كثيرٍ من السيئات والافتراء على الأبرياء، لماذا نذهب بعيدًا عن قدوتِنَا أجمعين إلى يوم الدين، كما حَكَم ربُّ العالمين في قوله: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21]؟   • لقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يمزح؛ فقد أخرج الترمذيُّ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسولَ الله، إنك تداعبنا[2]؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((إنِّي لا أقول إلاَّ حقًّا))؛ (صحيح الترمذي: 1990).   أخي المسلم، يا مَن تريد أن تمزحَ وتضحك، عليك بالصِّدقِ وأبشِر ببيتٍ في وسط الجَنَّة إذا تركتَ الكذبَ في المزاح؛ فقد أخرج أبو داود عن أبي أُمامة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((أنا زعيم[3] ببيتٍ في ربضِ الجَنَّة لمَن ترك المراءَ ولو كان محقًّا، وببيتٍ في وسط الجَنَّة لمَن ترك الكذبَ ولو كان مازحًا، وببيتٍ في أعلى الجَنَّة لمَن حسن خلقه))؛ (الصحيحة: 273).   • وتوعَّد النبيُّ صلى الله عليه وسلم كلَّ مَن يُحدِّث الناسَ بالكذب ليُضْحِكهم؛ فقد أخرج الإمامُ أحمد وأبو داود من حديث معاوية بن حيدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ويلٌ للذي يُحَدِّث فيكذبُ ليُضحِك به القومَ، ويلٌ له، ويلٌ له!))؛ (صحيح الجامع: 7136).   2) أن يكون نادرًا: لو أنَّ إنسانًا دار مع أهل الحبشة ليلاً ونهارًا ينظر إلى لعبهم، ويحتجُّ بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وقف لعائشة وأذِن لها أن تنظرَ للحبشة وهم يلعبون، لكان هذا الإنسان مخطئًا؛ لأنَّ ما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم كان نادرًا، وحُكم النادر ليس كحكم الدائم.   • يقول المباركفوري رحمه الله كما في "تحفة الأحوذي"(5/ 232): "كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يفعله على النُّدرة؛ لمصلحة تطيِيب نفس المخاطَب ومؤانسته، وهو سنَّة مستحبَّة، فاعلم هذا فإنَّه ممَّا يعظم الاحتياج إليه".اهـ.   • وأنشد أبو الفتح البستي رحمه الله: أَفِد طَبْعَك المكْدُودَ بالجدِّ راحةً يَجِمَّ وعَلِّلْهُ بشيء من المَزْحِ ولكن إذا أعطيتَهُ المزحَ فليَكُنْ بمقدارِ ما تُعطي الطعامَ من الملحِ   فالمزاح في حياة الإنسان كالملح في الطَّعام؛ إذا زاد عن حدِّه انقلبَ إلى ضدِّه، فإذا أكثر من المزاح تحوَّلَت حياته إلى هزلٍ لا جدَّ فيه، وتذهب هيبتُه، ويُستخفُّ به.   • يقول جابر بن عبدالله رضي الله عنهما في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: "كان طويلَ الصمتِ، قليل الضَّحك"؛ (رواه الإمام أحمد، وهو في صحيح الجامع: 4698).   فعلى الإنسان أن يقتصدَ في المزاح؛ فلا يتركه بالكليَّة، ولا يفرِط فيه ويداوم عليه.   • يقول سعيدُ بن العاص لابنه: "اقتصد في مزاحك؛ فإنَّ الإفراط فيه يُذهب البهاء، ويُجَرِّئ عليك السُّفهاء، وإنَّ التقصير فيه يفضُّ عنك المؤانسين، ويوحِش منك المصاحِبين".   • ويقول الخطيب البغدادي كما في "الجامع لأخلاق الراوي"(1/ 156): "يجب على طالب الحديث أن يتجنَّب اللَّعبَ والعبث والتبذُّل في المجالس بالسخف، والضحك والقهقهة، وكثرة التنادر، وإدمان المزاح والإكثار منه؛ فإنما يُستجاز من المزاح يسيرُه ونادره وطريفُه الذي لا يَخرج عن حدِّ الأدب وطريقة العلم، فأمَّا متَّصِلُه وفاحِشه وسخيفه وما أوغر منه الصُّدور وجَلب الشرَّ، فإنَّه مَذموم، وكثرة المزاح والضحك يضَع من القَدْر، ويزيل المروءة".   • ويقول بدر الدين أبو البركات محمد الغزِّي رحمه الله كما في "المراح في المزاح"(ص5): "فقد ورد في ذمِّ المزاح ومدحِه أخبار، فحمَلنا ما ورد في ذمِّه على ما إذا وصل إلى حدِّ المثابرة والإكثار" .اهـ.   • ويقول الفيض الزبيدي رحمه الله كما في "تحفة الأحوذي" (5/ 232): "وقد قال الأئمَّة: الإكثار منه والخروج عن الحدِّ مُخِلٌّ بالمروءة والوقار، والتَّنزُّه عنه بالمَرَّةِ والتَّقبُّض[4] مخِلٌّ بالسُّنَّة والسيرة النبوية المأمور باتِّباعها والاقتداء بها، وخير الأمور أوسطها".
اهـ.   3) اختيار الوقت المناسب والمكان المناسب: يقول المناوي رحمه الله كما في "فيض القدير"(3/ 18): "المداعبة مطلوبة مَحبوبة؛ لكن في مواطن مخصوصة، فليس في كلِّ آنٍ يصلح المزاح، ولا في كلِّ وقتٍ يحسن الجدُّ، قال: أُهازِل حيث الهَزْلُ يحسُن بالفتى ♦♦♦ وإنِّي إذا جدَّ الرجالُ لذو جدِّ   • وهذا ما كان عليه السلف الصالح؛ فقد أخرج البخاريُّ في "الأدب المفرد" عن بكر بن عبدالله المزني قال: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبادحون[5] بالبِطِّيخ، فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال"؛ (الصحيحة: 435).   • وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إنِّي ليعجبني أن يكون الرَّجل في أهله مثل الصَّبي، فإذا بُغي منه حاجة وُجد رجلاً"؛ (المراح في المزاح: ص24).   4) أن يكون الممازح على فقه من المزاح: قال الماوردي رحمه الله كما في "فيض القدير" (3/ 13): "العاقل يتوخَّى بمزاحه أحدَ حالين لا ثالث لهما: أحدهما: إيناس المصاحِبين، والتودُّد إلى المخالطين، وهذا يكون بما أنس من جميلِ القول وبسط من مستحسنِ الفعل، كما قال حكيم لابنه: "يا بنيَّ، اقتصِد في مزاحك؛ فإنَّ الإفراط فيه يُذهب البهاء، ويجرِّئ السُّفهاء، والتقصير فيه نقصٌ بالمؤانسين، وتوحُّش بالمخالطين"، والثاني: أن يبتغي من المزاح ما طرأ عليه وحدَث به من همٍّ، ومزاحُ النَّبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج عن ذلك.   5) ألا يخرج عن حدِّ المستحب أو المباح: قال الإمام النووي رحمه الله كما في كتابه "الأذكار" (ص343): "قال العلماء: إن المزاح المنهي عنه هو الذي فيه إِفراطٌ ويداوَم عليه؛ لأنَّه يورِث قسوةَ القلب، ويشغل عن ذِكر الله، ويَؤول في كثيرٍ من الأوقات إلى الإيذاء، ويورِث الأَحقاد، ويُسقط المهابةَ والوَقار، وما سلِم من ذلك، فلا مانع منه، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعله نادرًا للمصلحةِ وتطيِيب النَّفس والمؤانسة، وهذا لا مانع منه قطعًا؛ بل هو سنَّة مستحبَّة إذا كان بهذه الصِّفة، فاعتمِد ما نقلنَاه عن العلماء وحقَّقناه في هذه الأحاديث وبيان أحكامها؛ فإنَّه مما يعظم الاحتياج إليه، وبالله التوفيق" .اهـ.   6) ألا يمازح غير جنسه: • قال ابن حبان رحمه الله: "مَن مازح رجلاً من غيرِ جنسه، هان عليه، واجترأَ عليه، وإن كان المزاح حقًّا؛ لأن كلَّ شيء لا يجب أن يُسلك به غير مَسْلَكه، ولا يظهر إلاَّ عند أهله، على أنِّي أكره استعمالَ المزاح بحضرة العامَّة، كما أكره تركه عند حضور الأشكال" .اهـ (روضة العقلاء: 80).   • قال ابن الغزِّي رحمه الله: "فالعاقل يربأ بنفسِه عن سفاسف الأمور وعن مخالطة السفلة ومزاحهم مطلقًا، وكذلك عن مزاح مَن هو أكبر منه؛ لِما ذكرنا مِن الحِقد وخرق الحرمة"اهـ؛ (المراح في المزاح)؛ فإنَّ البعض يمزح مع الكلِّ بدون اعتبار؛ فللعالِم حقُّه، وللكبير تقديره، وللشَّيخ توقيره، ولهذا يجب معرفة شخصيَّة المقابل، فلا يمازِح السَّفيه ولا الأحمَق ولا مَن يعرف.   • يقول سعيد بن العاص رضي الله عنه لابنه: "يا بنيَّ، لا تمازح الشريفَ فيحقد عليك، ولا تمازح الدنيء فيجترئ عليك"؛ (أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت: ص444).   • وقال محمد بن المنكدر رحمه الله: "قالت لي أمي: يا بني، لا تمازح الصِّبيان فتهون عندهم"؛ (ذكره الغزالي في الإحياء: 3/ 128).   7) ألاَّ يخرج المزاح إلى حد الخلاعة: فإذا خرج المزاح إلى حدِّ الخلاعة، فهو عيبٌ ومذمَّة، والله لا يحبُّ الجهر بالسوء من القول؛ يقول الشافعي رحمه الله: "والمُزاحُ لا تُردُّ به الشَّهادة ما لم يخرج في المزاح إلى عَضَّةِ النَّسَب، أو عَضَّةِ لَحْدٍ أو فاحشة"؛ (السنن الصغرى للبيهقي: 3/ 308).   فالنفس البشريَّة تحتاج من وقتٍ لآخر إلى شيءٍ من الترويح المنضبط البريء، والمزاحِ الهادف، الذي يجدِّد النشاطَ ويعمل على مواصلة السَّير على الطريق.   8) ألا يمزح العلماءُ أمام عامَّة الناس: سبق أن ذكرتُ آثارًا عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والسلَف في المزاح، إلاَّ أنَّ مزاحهم كان بصورةٍ فرديَّة مع نوعٍ خاصٍّ من الناس، ولم يكن هذا المزاح على المنبرِ ولا في الأسواق العامَّة؛ وذلك صيانة لعلمِهم ورعاية لجنابهم ومكانتهم.   • قال الإمام أحمد رحمه الله: "فلا ينبغي للعَالِم أن يتبسَّط عند العوامِّ حفظًا لهم، ومتى أراد مباحًا فليستتر به عنهم"؛ (الآداب الشرعية لابن مفلح: 2/ 217).   • وقال ابن الجوزي رحمه الله: "وإذا رأى العوامُّ أحد العلماء مُتَرخِّصًا في أمرٍ، هان عندهم، فالواجب عليه صيانةُ علمِه، وإقامَة قَدْر العلم عندهم، فقد قال بعض السلَف: "كنَّا نَمْزح ونَضْحك، فإذا صرنا يُقتدَى بنا، فما أُرَاه يسعنا ذلك"؛ (صيد الخاطر: 183).   وأخيرًا...
يقول ابن الغزي رحمه الله كما في "المراح في المزاح" (ص37): "ولا بأس به بين الإخوان بما لا أَذى فيه، ولا ضرر، ولا غِيبة، ولا شين في عِرْضٍ أو دين، قاصدًا به حُسن العِشرة والتواضع للإخوان، والانبساط معهم، ودَفْع الحشمة بينهم من غير استهتارٍ أو إخلال بمروءة أو نحوه استنقاصًا بأحدٍ منهم، فقد قيل للخليل بن أحمد: إنَّك تمازِح النَّاسَ، فقال: النَّاس في سجن ما لم يتمازَحوا، وفي الاقتداء بمَن ذُكر والاقتفاء بآثارهم أعظم بركة، وفي الخروج عن ذلك الحدِّ أشد عناءً وأبلغ هلكة، وخير الأمور أوساطها" اهـ.   2- المزاح المباح: وهو يختلف عن المزاح المستحبِّ في كونه يُقصد به الترويحُ عن النَّفس، وليس له علاقة بتطيِيب نفسِ المخاطَب ومؤانسته "كالمزاح المستحبِّ"، ويُشترط فيه خلوه مِن المزاح المكروهِ أو الحرام، وهذا هو المَقصَد من قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم لحنظلة رضي الله عنه: ((ولكن سَاعةً وساعة)).   وعلى هذا يكون المقصود من المزاح المباح هو: الترويح عن النَّفس لتجديد نشاطها في طاعةِ الله.   • وكان عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: "روِّحوا القلوبَ، واطلبوا لها طرائف الحِكمة؛ فإنَّها تملُّ، كما تملُّ الأبدان".   ويقول أيضًا: "لا بأس بالمُفاكهة؛ يَخرج بها الرَّجل عن حدِّ العبوس"؛ (المراح في المزاح: ص24).   ويقول عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "أريحوا القلوبَ؛ فإن القلبَ إذا أُكره عَمِي".   ويقول أسامة بن زيد رضي الله عنهما: "روِّحوا القلوبَ تعي الذِّكر".   يقول بدر الدين أبو البركات محمد الغزي رحمه الله في كتابه "المراح في المزاح": "يُندب إلى المزاح بين الإخوان والأصدقاء والخلان؛ لِما فيه من ترويحِ القلوب، والاستئناس المطلوب، بشرط ألاَّ يكون فيه قَذْف، ولا انهِمَاك فيه يُسقط الحِشْمة، ويقلِّل الهيبة، ولا فحش يورِث الضَّغينة، ويحرِّك الأحقادَ الكمينة".   وقد أبرز ابن الجوزي في مقدمة كتابه "أخبار الحمقَى والمغفَّلين" دوافع أساسيَّة لتأليف مؤلَّفه، ومن جملتها: "أن يروِّح الإنسانُ قلبَه بالنَّظر في سِيَر هؤلاء المبخوسين حظوظًا يوم القسمة؛ فإنَّ النَّفس قد تملُّ من الدؤوب في الجدِّ، وترتاح إلى بعضِ المباح من اللَّهو..."؛ (أخبار الحمقى والمغفلين: ص16).   وفي هذا يقول أبو العتاهية رحمه الله: لا يُصْلِحُ النَّفسَ إذ كانت مُصَرَّفَةً ♦♦♦ إلاَّ التَّنَقُّلُ من حالٍ إلى حالِ


[1] المزاح آداب وأحكام؛ لأبي عبدالله السيد بن حمودة، بتصرف واختصار. [2] تداعبنا: تمازحنا. [3] زعيم: كفيل وضامن. [4] التَّقبُّض؛ أي: الكف عن المزاح بالكلية. [5] التبادح: الترامي بشيء رخو؛ (القاموس المحيط: 1/ 223).



شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢