أرشيف المقالات

دالت دولة الشعر

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
8 للأديب هلال احمد شتا تصاحب هذه الحقيقة المرة رأسي منذ زمن بعيد، ويقوم بيني وبين نفسي من أجلها جدال عنيف؛ فلا أنا قادر على أن أفلتها لتجد لها مكاناً عند غيري، ولا على أن أدعها تقض مضجعي وتلهب رأسي.
.
وليس شك في أني تركتها تؤرقني طوال هذا الزمن، فلم أفض بها إلى مثل هذه السطور، خوفاً على نفسي وإشفاقاً وفرقاً.
.
فكلما تمثل في خيالي وصح في ذهني أن مئات من الناس يبقون على هذه الصناعة - صناعة الشعر - ويخلصون لها، ويؤمنون بها، ترددت في الكتابة، ثم أحجمت.
. على أنني - وقد آمنت بهذه الحقيقة منذ كان شوقي قائماً بيننا يملأ الدنيا صدحاً وتغريداً، ومنذ كان غيره من فحول الشعر لا يزالون في الميدان صوالين جوالين - أحسبني اليوم قادراً على أن أبوح بما آمنت به، بعد أن خلت عرائن الأسود إلا من الأشبال، وبعد أن تقدم بنا العصر بضع خطوات كفيلة بأن تقصي على دولة الشعر أي قضاء.
. ذلك أن الشعر لم يصبح مما يسيغه ذوق عصرنا هذا، ولا أصبح قادراً على أن ينهض على قدميه أو يواصل سيره في سبيل البقاء.
وسأحاول على هذه الصفحات على أن أبسط ذلك بعض البسط، مترفقاً في محاولتي عازفاً عن المبالغة.
وفي يقيني أنني سأخرج من هذه الكلمة الهادئة، وإلى جانبي غير قليل من القراء الكرام.
.
فأما الشعراء والمؤمنون بهم، فلست أخشى اليوم نقمتهم أو أشفق مما عساهم يفعلون. ولقد يدرك القارئ أني لا أحاول أن أنتقص من قدر الشعر القديم أو أكفر برسالته، فأنا عن مثل ذلك عزوف عفيف.
.
ولكن الذي أقول: هو أن رسالة الجمال والفن في ذلك الشعر القديم ليست خالدة ولا باقية على الأيام؛ وبحسب الشعراء الأقدمين أنهم قاموا على تأدية هذه الرسالة في عصورهم وأزمانهم، وأنهم صوروا بشعرهم صوراً بهرت نفوس ذويهم وأقوامهم ومعاصريهم؛ بل إن تقدير الزمن قد امتد بآثارهم عصوراً أخرى غير تلك العصور.
.
ولكن نتاجهم هذا لم يعد راوياً لظمأنا نحن إلى الجمال، مصوراً في صور تهز نفوس أبناء هذا العصر الحديث الناظرين إلى الحياة بغير منظار السادة الأولين.
.
وكل ما بقي لنا من آثار ذلك السلف الكريم لا يعدو أن يكون ثروة لفظية ولغوية تقوم منا اللسان وتبسط أمامنا سبل الحديث المستقيم، ولا يعدو أن يكون موضوعاً لدراسات أدبية، أو اجتماعية، أو نفسية، يفيد منها التاريخ، ويفيد منها رواد الأدب والباحثون في حياة الجماعات الأولى.
.
كيف كانت، وكيف سارت بها السنون نحو الرقي والكمال، أو نحو التدهور والقعود وهذه اللغة العربية التي جمعت على هيكلها شعوباً وقبائل في شبه الجزيرة، كانت في حاجة إلى الشعر وهي ما زالت طفلة تحبو، شأنها في ذلك شأن كل اللغات اليافعة القريبة المولد؛ فالشعر يكاد يكون هو المظهر الأوحد للأدب أو الفن في البيئات الأمية التي تتقطع فيها أسباب الكتابة والتدوين.
وكل جماعة من الجماعات الأمية محتاجة أشد الحاجة إلى وسيلة تسجل بها خواطرها المشتركة، وتعبر عن مشاعرها، وتتحدث بمفاخرها؛ ولابد من أن تكون هذه الوسيلة قادرة على إذاعة رسالتها بين الأفراد، وحثهم على أن يتلقنوها؛ ولا يستطيع كل ذلك إلا الشعر، فإن اتزانه، وتقفيته، وموسيقاه، تسوقه إلى ذاكرة سامعيه من أيسر طريق وأقصد سبيل ولاشك في أن علم الناس بالقراءة والكتابة - بعد ذلك - يحمل عن كاهل الشعر بعض هذه الأعباء، ويحد كذلك من سلطانه شيئاً، ويسلبه بعض نفوذه العريض، ولكنه يوجهه توجيهاً سامياً نحو الفن الرفيع، وتلمس ألوان الجمال، التي تختفي في ثنايا الوجود، وتتوارى وراء أغشية الجمود على أن الشعر لا يمكن أن يكون متفرداً بهذا التوجيه الجديد الذي دفعته إليه معرفة الناس القراءة والكتابة، لأن هذه المعرفة خلقت النثر الواسع الأجواء، الذي يلعب بسائر فنون القول، والذي أصبح بعد قليل أقدر عليها من الشعر وأقوى ساعداً.
ولست بحاجة إلى أن أثبت قدرة النثر على التعبير، وتفوقه على الشعر في هذا السبيل، فذلك أمر بديهي؛ ولن يجد الكاتب الذي يسجل خواطره، أو يترجم أحاسيسه، أو يعبر عما يختلج في ذهنه من المعاني - أفسح من النثر مجالاً، ولا أوسع ميداناً لقلمه الجوال.
ولن يتقيد فيما يكتب بوزن يتحتم عليه أن يرعاه، ولا بقافية تأخذ بخناق قلمه أخذاً وأخشى أن يتحدث المفتونون بالشعر - في هذا المجال - عن روحانية الشعر، وسمو أجوائه، وروعة أخيلته، وفتنة موسيقاه، وما إلى ذلك مما يجيدون في الحديث؛ وألا يدركوا أن روحانية المعنى، وسمو الجو، وروعة الخيال، ليست قاصرة على الشعر ولا هي وقف عليه؛ فما أجمل ما يكتب الناثرون أصحاب النفوس الشاعرة، وما أروع ما ينتجون.
.
وفي جنبات سطورهم المنثورة تسفر الفتنة الخالدة التي تلعب بالمشاعر لعباً.
.
ولن يسيء إلى هذه الفتنة الرائعة أنها محاطة بجلال الصمت، وأنها عارية عن موسيقى الشعر التي لم تعد إليها بحاجة، فلقد كانت هذه الموسيقى تهز النفوس يوم كانت النفوس لا تزال على فطرتها طفلة رخوة؛ ولكنها اليوم لم تهز نفوساً تنصت كل يوم لموسيقى الأوتار. لقد دار الزمن دورة قصيرة المدى، فإذا الشعر يصبح قاصراً عن أداء رسالة الفن والجمال، التي وجهه إليها علم الناس بالقراءة والكتابة؛ وليس عمر الشعر العربي الصحيح الذي أدى رسالته هذه فأحسن الأداء سوى لمحة خاطفة من عمر الزمان، فلقد وقف بعد ذلك حيناً فأطال الوقوف، ولم يخط إلى الأمام خطوة واحدة، بل إنه سار إلى الوراء خطوات وخطوات، ليصبح ترديداً معوجاً لما قال الأقدمون ولقد ذهب الباحثون يتلمسون أسباب وقفته، ويخلقون المعاذير، وراحوا يوغلون في مسالك من القول متشعبة لا تنتهي إلى مصير؛ يضرب الأكثرون منهم على وتر واحد هو وتر الخطوب السياسية التي هدت كاهل العرب والعربية والتي طوحت بآثارهم إلى مهاوي الفناء.
.
ومهما يكن في ذلك من الصدق أو سلامة المنطق، فإنه لا ينهض سبباً لوقفة الشعر العربي في أيامنا هذه التي شملتنا فيها موجة من الرقي في مناحي التفكير جميعاً، إلا ناحية الشعر.
.
والتي بلغ نثرنا فيها مكاناً فوق مكان الأولين وفي يقيني أن وقفة الشعر هذه، وتخاذله، وسيره نحو الفناء، لا سبب له سوى أنه قد أدركته الكهولة، فلم يبق ثمة أمل في شفائه من أهوال السنين التي تستشري اليوم في عظامه وخلاياه، والتي سوف تحيله أثراً وذكرى.
فليست عقولنا كهلة ولا مريضة، وإنما الشعر هو المريض المهيض؛ وما أجدبت منا القرائح ولا زايلتنا خصوبة الخيال، وإنما الشعر هو الذي يضيق عما خلفت قرائحنا المصقولة بمعول التفكير الحديث من آفاق واسعة ممدودة الأطراف.
وهاهم الأوربيون - وهم من تتحدث معجزات العصر بعبقريتهم ونبوغهم في شتى جوانب التفكير، وسائر ضروب الفن الجميل - قد أدركوا منذ زمن بعيد قصور الشعر وضيق ذات نفسه، وتوجه شعراؤهم إلى ألوان من القصة والمسرحية وغيرهما.
وهاهو شعرهم آخذ سمته نحو الهزيمة القاتلة والفناء الذريع. ويلوح أن شعراءنا المحدثين قد آمنوا بهزيمة الشعر فيما بينهم وبين أنفسهم - ولو من حيث لا يشعرون - ويلوح كذلك أن جهود شوقي الأخيرة في سبيل المسرحية الشعرية كانت مظهراً من مظاهر هذا الإيمان.
وإننا لنلمس أن النثر في نتاج العقاد عشرة أضعاف الشعر أو يزيد، وأن القصة وحدها والمقالة القصيرة هما قبلة جهود المازني جميعاً - وقد كان شاعراً - وأحمد الله على أن شعراءنا الشبان، أمثال: ناجي، والخفيف، وفتحي موسى، والطرابلسي، وغيرهم، قد وجهوا عنايتهم إلى القصة وما إليها من فنون الكتابة والبحث، قبل أن يبعثر الشعر أيامهم الغر، وهي أعز علينا من أن تلقى في الهراء.
. ولا حاجة بعد هذا القول بأن دولة الشعر قد دالت، فذلك ما انتهيت إليه، وما أظن القراء إلا منتهين إليه أيضاً.
.
وإذا كان الشعر قد استطاع أن يحافظ على بقائه طوال هذه السنين، وأن يعارك الزمن فتياً وكهلاً، فلن يستطيع البقاء في عصر الطباعة والصحافة، ولن يستطيع البقاء في عصر القصة - وقد سلبته ما تبقى له من بعض الفتنة والجمال.
ولكنني لن أنسى أن أقول أن نوعاً واحداً من الشعر لا يزال قادراً على البقاء، هو شعر الغناء، ليكمل جانباً من فن الموسيقى، كما يكمل أدب المسرحية فن التمثيل. ويستطيع الشعراء بعد ذلك أن ينظموا لأنفسهم ما يشاءون، وأن يقرءوا لأنفسهم كذلك ما يشاءون.
.
فأما المجد الأدبي، وأما رسالة الجمال والفن، فليبحثوا عنها من طريق غير هذا الطريق.
. هلال احمد شتا بمجلس الشيوخ

شارك الخبر

مشكاة أسفل ١