أرشيف المقالات

حقوق غير المسلمين في الإسلام

مدة قراءة المادة : 30 دقائق .
2حقوق غير المسلمين في الإسلام   الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وأتم علينا نعمته، ورضِي لنا الإسلام دينًا، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد، الذي أرسله الله هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إليه بإذنه وسراجًا منيرًا، أما بعد: فإن أحكام الإسلام قد جاءت شاملة ومناسبة لجميع نواحي الحياة، وصالحة لكل زمانٍ ومكانٍ، إن مبادئ الإسلام تسمو على كل المبادئ والقيم التي وضعها الناس من عند أنفسهم؛ لأن مبادئ الإسلام تشريع من لدُنْ حكيمٍ عليمٍ بما يصلح الناس في الدنيا والآخرة، وهذا ظاهر لكل منصفٍ تأمَّل أحكام الإسلام؛فالشريعة الإسلامية المباركة هي عدل الله ورحمتُه سبحانه بين جميع عباده،لقد ذاق الناس - على اختلاف جنسياتهم وعقائدهم الدينية، في ظل إنسانية الحضارة الإسلامية - من الحرية والعدل والمواساة ما لم تذقه البشرية في أي حضارةٍ أخرى،فأقول وبالله تعالى التوفيق:   بسم الله الرحمن الرحيم حرية عقيدة غير المسلمين: يقول الله تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 256].
• قال الإمام ابن كثير (رحمه الله): يقول تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ [البقرة: 256]؛ أي: لا تُكرهوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام؛ فإنه بيِّن واضح جليٌّ دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يُكرَه أحدٌ على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونوَّر بصيرته دخل فيه على بينةٍ، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرَهًا مقسورًا؛ (تفسير ابن كثير جـ 2 صـ 444).   • قال أسلم (مولى عمر): سمعت عمر بن الخطاب يقول لعجوزٍ نصرانيةٍ: أسلمي أيتها العجوز تسلَمي، إن الله بعث محمدًا بالحق،قالت: أنا عجوز كبيرة والموت إليَّ قريب! فقال عمر: اللهم اشهد، وتلا: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ [البقرة: 256]؛ (تفسير القرطبي جـ 3 صـ 278).   عدم ظلم غير المسلمين: قال سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المائدة: 8].   قال ابن جرير الطبري (رحمه الله): يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا بالله وبرسوله محمدٍ، ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام لله، شهداء بالعدل في أوليائكم وأعدائكم، ولا تجوروا في أحكامكم وأفعالكم، فتجاوزوا ما حددت لكم في أعدائكم؛ لعداوتهم لكم، ولا تقصروا فيما حددت لكم من أحكامي وحدودي في أوليائكم؛ لولايتهم لكم، ولكن انتهوا في جميعهم إلى حدي، واعملوا فيه بأمري؛ (تفسير ابن جرير الطبري جـ 10 صـ 95).   وأما قوله: ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا ﴾ [المائدة: 8] فإنه يقول: ولا يحملنكم عداوة قومٍ على ألا تعدلوا في حكمكم فيهم وسيرتكم بينهم، فتجوروا عليهم من أجل ما بينكم وبينهم من العداوة؛ (تفسير ابن جرير الطبري جـ 10 صـ 95).   وأما قوله: ﴿ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المائدة: 8].   فقال ابن جرير الطبري: يعني جل ثناؤه بقوله: اعدلوا أيها المؤمنون على كل أحدٍ من الناس، وليًّا لكم كان أو عدوًّا، فاحملوهم على ما أمرتم أن تحملوهم عليه من أحكامي، ولا تجوروا بأحدٍ منهم عنه؛ (تفسير ابن جرير الطبري جـ 10 صـ 96).   • روى أبو داود عن صفوان بن سليمٍ عن عدةٍ من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آبائهم دِنْيةً (متَّصِلي النسب) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا مَن ظلم معاهَدًا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفسٍ - فأنا حَجيجه (خَصمه) يوم القيامة))؛ (حديث صحيح) (صحيح أبي داود للألباني حديث 2626).   الإحسان إلى غير المسلمين: قال تعالى: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة: 8].   قال ابن جرير الطبري: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين من جميع أصناف الملل والأديان أن تبَرُّوهم وتصِلوهم، وتُقسطوا إليهم، إن الله عز وجل عم بقوله: ﴿ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ﴾ [الممتحنة: 8] جميعَ مَن كان ذلك صفتَه، فلم يخصص به بعضًا دون بعضٍ؛ (تفسير ابن جرير الطبري جـ 25 صـ 611).   وقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة: 8] يقول: إن الله يحب المنصِفين الذين ينصفون الناس، ويعطونهم الحق والعدل من أنفسهم، فيبَرُّون مَن بَرَّهم، ويُحسنون إلى من أحسن إليهم؛ (تفسير ابن جرير الطبري جـ 25 صـ 612).   قال الإمام القرطبي (رحمه الله): دخل ذمي (رجل من غير المسلمين) على إسماعيل بن إسحاق القاضي فأكرمه، فأخذ عليه الحاضرون في ذلك، فتلا هذه الآية عليهم: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة: 8]؛ (تفسير القرطبي جـ: 18 صـ 59: 58).   الإحسان إلى الوالدينِ الكافرينِ: إن شريعتنا الغراء لا تُهْمل الإحسان إلى الوالدين، ولو كانا كافرين، فضلًا عن الوالدين العاصيين، ولقد حثنا القرآن العظيم بأسلوب رائع بليغ على بر الوالدين، وإن كانا مشركين، عسى أن تكون هذه المعاملة الطيبة سببًا في هدايتهما.   قال الله عز وجل: ﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [لقمان: 15].   قال ابن كثير (رحمه الله): إن حرَصَا عليك كل الحرص على أن تتابعهما على دينهما، فلا تقبل منهما ذلك، ولا يمنعنَّك ذلك من أن تصاحبهما في الدنيا معروفًا؛ أي: محسنًا إليهما؛ (تفسير القرآن العظيم لابن كثير جـ 11 صـ 54).   قال الإمام القرطبي (رحمه الله): الآية دليل على صلة الأبوين الكافرين بما أمكن من المال، إن كانا فقيرين، وإلانة القول والدعاء إلى الإسلام برفقٍ؛ (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي جـ 14 صـ 66).   روى الشيخان عن أسماء بنت أبي بكرٍ قالت: قدِمَتْ علَيَّ أمي وهي مشركة في عهد قريشٍ إذ عاهَدهم، فاستفتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، قدِمَتْ عليَّ أمي وهي راغبة، أفأصِلُ أمي؟ قال: ((نَعم، صِلِي أمَّكِ))؛ (البخاري حديث 2620 / مسلم حديث 1003).   قال ابن حجر العسقلاني: (وهي راغبة)؛ أي: طالبة في بر ابنتها لها، خائفة من ردها إياها خائبة؛ (فتح الباري لابن حجر العسقلاني جـ 5 صـ 277).   الإحسان إلى الجيران غير المسلمين: كان جيرانُ نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم بالمدينة وما حولها أصحابَ ديانات مختلفة، فكان منهم اليهود والنصارى والمشركون الذين يعبدون الأصنام، وعلى الرغم من ذلك كان يدعوهم إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، ولم يجبرهم على الدخول في الإسلام، ولم يعتدِ على حرماتهم وأموالهم، وترك لهم حرية العبادة، مع أن المسلمين كانوا أصحاب الكلمة العليا في المدينة، ولم يسفك دم أحدٍ منهم بغير حق، وكذلك فعل أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم مع جيرانهم من غير المسلمين.   روى البخاري (في الأدب المفرد) عن مجاهد بن جبرٍ قال: كنت عند عبدالله بن عمرٍو - وغلامه يسلخ شاةً - فقال: يا غلام، إذا فرغت فابدأ بجارنا اليهودي، فقال رجل من القوم: اليهودي أصلحك الله؟ قال: إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يوصي بالجار، حتى خشينا أو رُئِينا أنه سيورِّثه؛ (حديث صحيح) (صحيح الأدب المفرد للألباني حديث 95).   هكذا كانت معاملة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لجيرانهم غير المسلمين في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد موته في البلاد الجديدة التي فتحوها، فعاش غير المسلمين في دولة الإسلام في أمان شريعة الله تعالى، وشهد لهذه المنقبة العظيمة كل مؤرخٍ منصِفٍ من غير المسلمين.   سهل بن عبدالله التستري: كان لسهل بن عبدالله التستري (رحمه الله) جارٌ ذِمي، وكان قد انبثق مِن كنيفه (مرحاضه) إلى بيت سهل ثقب، فكان سهل يضع كل يوم الجَفنة (الوعاء) تحت ذلك الثقب فيجتمع ما يسقط فيه من كنيف المجوسي ويطرحه بالليل حيث لا يراه أحد، فمكث رحمه الله على هذه الحال زمانًا طويلًا إلى أن حضرت سهلًا الوفاة، فاستدعى جاره المجوسي، وقال له: ادخُلْ ذلك البيت وانظر ما فيه، فدخل فرأى ذلك الثقب والقذر يسقط منه في الجفنة،فقال: ما هذا الذي أرى؟! قال سهل: هذا منذ زمان طويل يسقط من دارك إلى هذا البيت وأنا أتلقاه بالنهار وألقيه بالليل، ولولا أنه حضرني أجلي وأنا أخاف ألا تتسع أخلاق غيري لذلك، وإلا لم أخبرك، فافعل ما ترى،فقال المجوسي: أيها الشيخ، أنت تعاملني بهذه المعاملة منذ زمان طويل وأنا مقيم على كفري؟ مد يدك فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ثم مات سهل رحمه الله؛ (الكبائر للذهبي صـ 252).   ذبائح أهل الكتاب: يجوز للمسلم أن يأكل من ذبائح أهل الكتاب (اليهود أو النصارى)، وهي التي يحل أكلها شرعًا من الإبل والبقر والغنم والدواجن، بشرط أن يتم ذبحها على الطريقة الإسلامية، وذلك باستخدام آلة ذبح شرعية (سكين)، وإذا لم نعلم حال الذابح من أهل الكتاب هل ذكر اسم الله على الذبيحة أم لا، فذبيحته حلال؛ لأن الله تعالى قد أباح لنا أكل الذبيحة التي يذبحها اليهودي والنصراني، وقد علم الله أننا لا نقف مع كل ذابح؛ (فتاوى دار الإفتاء المصرية جـ 10 فتوى رقم 1312، 1313، 1314، 1315 صـ 3618: 3599).   قال سبحانه: ﴿ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [المائدة: 5].   قال ابن جرير الطبري: يعني جل ثناؤه: اليوم أحل لكم أيها المؤمنون الحلال من الذبائح والمطاعم، دون الخبائث منها،قوله: ﴿ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ ﴾ [المائدة: 5]، وذبائح أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وهم الذين أوتوا التوراة والإنجيل، وأنزل عليهم، فدانوا بهما أو بأحدهما ﴿ حِلٌّ لَكُمْ ﴾ [المائدة: 5]، يقول: حلال لكم أكله دون ذبائح سائر أهل الشرك الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب وعبدة الأوثان والأصنام، فإن من لم يكن منهم ممن أقر بتوحيد الله عز ذكره ودان دين أهل الكتاب، فحرامٌ عليكم ذبائحهم؛ (تفسير ابن جرير الطبري جـ 9 صـ 573: 572).   روى ابن جرير الطبري عن ابن عباسٍ، قوله: ﴿ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ ﴾ [المائدة: 5]، فإنه أحَلَّ لنا طعامهم ونساءَهم؛ (تفسير ابن جرير الطبري جـ 9 صـ 579).   روى ابن جرير الطبري عن قتادة قوله: ﴿ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ ﴾ [المائدة: 5]؛ أي: ذبائحهم؛ (تفسير ابن جرير الطبري جـ 9 صـ 579).   روى ابن جرير الطبري عن الضحاك قال في قوله: ﴿ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ ﴾ [المائدة: 5] قال: أحَلَّ الله لنا طعامهم ونساءَهم؛ (تفسير ابن جرير الطبري جـ 9 صـ 579).   روى ابن جرير الطبري عن مجاهد في قوله: ﴿ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾ [المائدة: 5]، قال: العفائف؛ (تفسير ابن جرير الطبري جـ 9 صـ 585).   روى ابن جرير الطبري عن الشعبي في قوله: ﴿ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾ [المائدة: 5] قال: (إحصانها: أن تغتسلَ مِن الجنابة، وأن تحصِّنَ فَرْجَها من الزنا)؛ (تفسير ابن جرير الطبري جـ 9 صـ 585).   إهداء غير المسلمين من الأضاحي: يجوز إعطاء غير المسلمين من لحوم الأضاحي؛ لفقرهم أو لقرابتهم أو لجوارهم، أو تأليفًا لقلوبهم، بشرط ألا يكونوا محاربين لنا؛ وذلك لأن النسك إنما هو في ذبح الأضحية تقربًا إلى الله تبارك وتعالى، وكذلك الحكم في صدقات التطوع؛ وذلك لعموم قوله تعالى: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة: 8].   ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أسماء بنت أبي بكر الصديق أن تصل أمها بالمال، وكانت أمها مشركة في فترة الهدنة التي كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم وأهل مكة،روى الشيخان عن أسماء بنت أبي بكرٍ قالت: قدِمَتْ عليَّ أمي وهي مشركة في عهد قريشٍ إذ عاهدهم، فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، قدِمَتْ عليَّ أمي وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال: ((نعم، صِلِي أمَّك))؛ (البخاري حديث 2620 / مسلم حديث 1003).   أما الصدقات الواجبة كالزكاة وكفارة اليمين فلا يجوز إعطاؤها لغير المسلمين؛ (المغني لابن قدامة جـ 13 صـ 381)، (فتاوى اللجنة الدائمة جـ 11 صـ 424).   حرمة دماء وأموال غير المسلمين: (1) روى البخاري عن عبدالله بن عمرٍو رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قتل معاهدًا، لم يَرَحْ رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عامًا))؛ (البخاري حديث 3166).   • قال الإمام ابن حجر العسقلاني: قوله صلى الله عليه وسلم: (مَن قتل معاهدًا) المراد بالمعاهد: هو من له عهد مع المسلمين، سواء كان بعقد جزيةٍ أو هدنةٍ من سلطانٍ، أو أمانٍ من مسلمٍ؛ (فتح الباري لابن حجر العسقلاني جـ 12 صـ 271).   (2) روى النسائي عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن قتل نفسًا معاهدةً بغير حلِّها، حرَّم الله عليه الجنة أن يَشَمَّ ريحها))؛ (حديث صحيح) (صحيح سنن النسائي للألباني جـ 2 صـ 284).   (3) روى النسائي عن عمرو بن الحمق الخزاعي رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من آمن رجلًا على دمه، فقتله، فأنا بريء من القاتل، وإن كان المقتول كافرًا))؛ (حديث صحيح) (صحيح الجامع للألباني حديث: 6103).   هديُ نبينا صلى الله عليه وسلم في معاملة غير المسلمين: إن الله تعالى قد أرسل نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم بالهُدى ودين الحق، والرسالة الإسلامية الخاتمة، فكان رحمة للعالمين، ولقد كانت الدولة الإسلامية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم رحمة وأمانًا للناس جميعًا، فعاش اليهود والنصارى بجوار المسلمين آمنين على أنفسهم وأموالهم وأماكن عبادتهم، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يعرض عليهم الدخول في الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، ولم يُجبر أحدًا منهم على الدخول في الإسلام، وهؤلاء الذين بقُوا على دينهم كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث المسلمين على حسن معاملتهم، وعدم التعرض لهم بالأذى، ولم يسفك النبي صلى الله عليه وسلم دم أحد منهم بغير حق.   روى البخاري عن أنسٍ رضي الله عنه قال: كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: ((أسلِمْ))، فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له: أطِعْ أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ((الحمد لله الذي أنقذه من النار))؛ (البخاري حديث: 1356).   وهكذا كان حسن معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لجاره اليهودي سببًا في إسلام ولده، فليحرص كل منا على أن يسلك منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حسن معاملته لجيرانه غير المسلمين.   نبينا صلى الله عليه وسلم يوصي بأهل مصر خيرًا: روى مسلم عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنكم ستفتحون مصر، وهي أرض يسمى فيها القيراط، فإذا فتحتموها فأحسِنوا إلى أهلها؛ فإن لهم ذمَّةً ورحمًا))؛ (مسلم حديث: 2543).   • قال الإمام النووي (رحمه الله): قال العلماء: القيراط جزء من أجزاء الدينار والدرهم وغيرهما، وكان أهل مصر يكثرون من استعماله والتكلم به، وأما الذمة فهي الحرمة والحق، وهي هنا بمعنى الذمام، وأما الرحم فلكون هاجرَ أمِّ إسماعيل منهم، وأما الصِّهر فلكون ماريةَ أمِّ إبراهيم منهم، وفيه معجزات ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، منها: إخباره بأن الأمة تكون لهم قوة وشوكة بعده بحيث يقهرون العَجَم والجبابرة، ومنها أنهم يفتحون مصر؛ (مسلم بشرح النووي جـ 8 صـ 338).   روى الحاكم عن الزهري، عن كعب بن مالكٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا افتتحتم مصرًا، فاستوصوا بالقبط خيرًا؛ فإن لهم ذمةً ورحمًا))، قال الزهري: فالرحم أن أم إسماعيل منهم؛ (حديث صحيح) (السلسلة الصحيحة للألباني حديث 1374).   عبدالله بن رواحة واليهود: روى أحمد عن جابر بن عبدالله أنه قال: أفاء الله عز وجل خيبر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقرَّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كانوا، وجعلها بينه وبينهم، فبعث عبدَالله بن رواحة فخرصها عليهم، ثم قال لهم: يا معشر اليهود، أنتم أبغض الخلق إليَّ؛ قتلتم أنبياء الله عز وجل، وكذَبتم على الله، وليس يحملني بغضي إياكم على أن أحيف عليكم (أظلمكم)، قد خرصت عشرين ألف وسقٍ من تمرٍ، فإن شئتم فلكم، وإن أبيتم فلِي، فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض، قد أخذنا، فاخرجوا عنا؛ (إسناده قوي) (مسند أحمد جـ 23 صـ 210).   ابن تيمية يطلق الأسرى النصارى: قال الإمام ابن تيمية (رحمه الله): خاطبت غازان (ملك التتار) في إطلاق الأسرى، فسمح بإطلاق الأسرى المسلمين، ثم قال غازان: معنا نصارى أخذناهم من القدس، فهؤلاء لا يطلقون،فقلت له: بل جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا، فإنا نفتكُّهم ولا ندع أسيرًا، لا من أهل الملة، ولا من أهل الذمة،وأطلقنا من النصارى من شاء الله،فهذا عملنا وإحساننا والجزاء على الله،وكذلك السبي الذي بأيدينا من النصارى يعلم كل أحدٍ إحساننا ورحمتنا ورأفتنا بهم؛ كما أوصانا خاتم المرسلين حيث قال في آخر حياته: ((الصلاةَ وما ملكت أيمانكم))، قال الله تعالى في كتابه: ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ﴾ [الإنسان: 8]؛ (مجموع فتاوى ابن تيمية جـ 28 صـ: 618: 617).   التجارة مع غير المسلمين: كان نبينا صلى الله عليه وسلم والصحابة يشترون من غير المسلمين ما يحتاجون إليه من الطعام وغيره.   روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعًا من شعيرٍ؛ (البخاري حديث 2916).   هدايا غير المسلمين: يجوز للمسلم أن يقبل هدايا غير المسلمين، أو يرسل إليهم الهدايا، تأليفًا لقلوبهم: (1) أهدى المقوقس، حاكم مصر، للنبي صلى الله عليه وسلم أم إبراهيم القبطية، واسمها: مارية بنت شمعون، وأختها معها، واسمها سيرين، وهي أم عبدالرحمن بن حسان بن ثابتٍ، وغلامًا اسمه مأبور، وبغلةً اسمها دلدل، وكسوةً، وقدحًا من قوارير كان يشرب فيه النبي صلى الله عليه وسلم؛ (الروض الأنف للسهيلي جـ 4 صـ 390).   (2) بعثت أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، زوجة الخليفة عمر بن الخطاب، إلى ملكة الروم (امرأة هرقل) بطيب ومشارب وأوانٍ خاصة بالنساء، فجمعت امرأة هرقل نساءها، وقالت: هذه هدية امرأة ملك العرب، وبنت نبيهم، وكاتبتها وكافأتها، وأهدت لها، وفيما أهدت لها عِقد فاخر،فلما انتهى به البريد إلى عمر بن الخطاب أمر بإمساكه، ودعا: الصلاة جامعة، فاجتمعوا، فصلى بهم ركعتين، وقال: إنه لا خير في أمر أبرم عن غير شورى من أموري، قولوا في هدية أهدتها أم كلثوم لامرأة ملك الروم، فأهدت لها امرأة ملك الروم، فقال قائلون: هو لها بالذي لها، وليست امرأة الملك بذمة فتصانع به، ولا تحت يدك فتتقيك،وقال آخرون: قد كنا نهدي الثياب لنستثيب، ونبعث بها لتباع، ولنصيب ثمنًا،فقال: ولكن الرسول رسول المسلمين، والبريد بريدهم، والمسلمون عظموها في صدرها،فأمر بردها إلى بيت المال، ورد عليها بقدر نفقتها؛ (تاريخ الطبري جـ 2 صـ 601).   معاهدة عمر بن الخطاب مع نصارى بيت المقدس بسم الله الرحمن الرحيم "هذا ما أعطى عبدالله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء (بيت المقدس) من الأمان، أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصُلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيزها، ولا من صليبهم، ولا من شيءٍ من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود، وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص، فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بيعهم وصلبهم فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم، حتى يبلغوا مأمنهم، ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلانٍ، فمن شاء منهم قعدوا عليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله، فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم، وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله، وذمة رسوله، وذمة الخلفاء، وذمة المؤمنين، إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية" شهد على ذلك خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبدالرحمن بن عوفٍ، ومعاوية بن أبي سفيان،وكتب وحضر سنة خمس عشرة؛ (تاريخ ابن جرير الطبري جـ 2 صـ 449).
معاهدة عمرو بن العاص مع أهل مصر معاهدة الصلح مع المصريين: كتب عمرو بن العاص كتاب أمانٍ للمصريين، قال فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم، وبرهم وبحرهم، لا يدخل عليهم شيء من ذلك ولا ينتقص، ولا يساكنهم النوبة (أي أهل صعيد مصر)، وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح، وانتهت زيادة نهرهم، خمسين ألف ألفٍ درهم، وعليهم ما جنى لصوصهم، فإن أبى أحد منهم أن يجيب، رفع عنهم من الجزاء بقدرهم، وذمتنا ممن أبى بريئة، وإن نقص نهرهم من غايته إذا انتهى، رفع عنهم بقدر ذلك، ومن دخل في صلحهم من الروم والنوبة (أي أهل صعيد مصر)، فله مثل ما لهم، وعليه مثل ما عليهم، ومن أبى واختار الذهاب، فهو آمن حتى يبلغ مأمنه أو يخرج من سلطاننا، عليهم ما عليهم أثلاثًا، في كل ثلث جباية ثلث ما عليهم، على ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخليفة أمير المؤمنين، وذمم المؤمنين،وعلى النوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأسًا، وكذا وكذا فرسًا، على ألا يغزوا، ولا يمنعوا من تجارةٍ صادرةٍ ولا واردةٍ،فدخل في ذلك أهل مصر كلهم، وقبلوا الصلح، واجتمعت الخيول بمصر، وعمروا الفسطاط، وظهر أبو مريم وأبو مريام فكلَّما عمرًا في السبايا التي أصيبت بعد المعركة، فأبى عمرو أن يردها عليهما، فلما بلغ ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، أمره أن يخيروا من في أيديهم من السبي بين الإسلام وبين أن يرجع إلى أهله، فمن اختار الإسلام فلا يردوه إليهم، ومن اختارهم ردوه عليهم وأخذوا منه الجزية، وأما ما تفرق من سبيهم في البلاد ووصل إلى الحرمين وغيرهما، فإنه لا يقدر على ردهم، ولا ينبغي أن يصالحهم على ما يتعذر الوفاء به،ففعل عمرو بن العاص ما أمر به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وجمع السبايا وعرضوهم وخيروهم، فمنهم من اختار الإسلام، ومنهم من عاد إلى دينه، وانعقد الصلح بينهم،شهد على ذلك العقد الزبير بن العوام وعبدالله ومحمد ابنا عمرو بن العاص،فدخل في ذلك أهل مصر كلهم، وقبلوا الصلح، وبنى عمرو بن العاص مدينة الفسطاط، ونزل بها المسلمون؛ (تاريخ ابن جرير الطبري جـ 2 صـ 515: 514).   وختامًا: أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفع به طلاب العلم.   وآخر دعوانا أن الحمدُ لله رب العالمين.   وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله، وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.



شارك الخبر

مشكاة أسفل ١