أرشيف المقالات

مفاهيم ضائعة (3) نعش الحياة

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
2مفاهيم ضائعة (3) نعش الحياة
حرمان: من الصغر، ربما أنا، ربما أنت، وربما غيرنا، ربَّما الكلُّ لم يذُق أو لم يتذوَّق طعمَ الراحة والسعادة.   منهم من قد يكون قد حُرم منها منذ أن كان طفلًا صغيرًا، ومنهم من قد يكون قد حُرم منها وهو في عمرٍ قريب غير بعيد، ومنهم من قد يكون قد حُرم منها من أيام أو شهور أو سنة أو سنين.   الإنسان: ربما، وقد يكون، بل ومن المؤكد أنَّ من أهمِّ أسباب ما سبق هو أنَّ الحال قد وصل بنا أنْ تغيَّر كثيرٌ ممَّن يسمَّى بالإنسان، ذلك المدعو الذي يَنتمي إلى بني آدم.   نعم لقد تغيَّر، وربَّما قد مات رغم أنه حيٌّ يُرزق، مات بأفعاله وسلوكيَّاتِه غير المقبولة واندثَر، هوَت بكثير من النَّاس الآمالُ والطموحات فدُكَّتْ دكًّا حتى صارَت تحت التراب.   هوَت وتصدَّعَت لدى الكثير من البشَر إنسانيَّتُه وفضائله وقِيَمُه وأخلاقيَّاته، فلم يعُد لها وجود، حتى - للأسف - ممَّن كنتَ تحسبهم أصحاب أخلاق وقِيَم ومفاهيم.   اسودَّت كثير من قلوب البشَر؛ الجار، الصَّديق، الزَّميل، القريب، الغريب، الرَّجل، الأنثى، الكبير، حتى الصَّغير لم يَسلم قلبُه من القسوة والسَّواد في تعامُله، ولم يعُد يعرف قيمةَ الكبير وأدبيَّات التعامل معه.   إجمالًا؛ قسَت النُّفوس، واسودَّت القلوبُ، وخربت الضَّمائرُ، وضاعَت الأخلاقُ، وانعدمَت الذوقيَّات في التعاملات، حتى صار المقام بشمسِ الحبِّ بين النَّاس أنها لم تعُد تسكن طويلًا داخل القلوب حتى ماتت النُّفوس.   نعش الحياة: لماذا نرى الكثيرَ ممَّن ارتموا على نَعش الحياة، وقد استغشوا ثِيابهم وأصَمُّوا آذانهم، وغيَّروا وتغيَّروا، وبدَّلوا واستبدلوا.   ماذا يا تُرى قد حدث؟ هل صار الخوفُ من الله في عداد النِّسيان وعدم الحسبان.   همسَتْ لي نفسي فقالت: يا صديقي، لقد عدتُ أستغرب من حال كثيرٍ من النَّاس حين يُخطئون في حقِّ غيرهم، ورغم ذلك لا يكون لدَيهم سوى الاستعلاء والتبرير، برُدود أو تبريرات لا شَبيه لها ولا مثيل، كأن يقول: ما فعلتُ شيئًا في حقِّك خطأ، وإنَّ ما فعلتُه إنَّما هو أمر طبيعي وعادي، فنحن على الصَّواب وأنت الذي على الخطأ، لقد باتت الموازين مقلوبة يا صديقي لدى الكثير، ماذا حصل للدُّنيا، ولماذا هكذا صارت أنفس الكثير؟ لماذا تهاوَت أخلاق الكثير إلى الهاوية؟ ولماذا لا أرى فيكَ مثلما أرى فيهم من تصرفات مخجِلة وسلوكيَّاتٍ وصفها الشيخُ الغزالي رحمه الله بوصفٍ بليغ حين قال: "إنَّ انتشار الكفر في العالم يَحمل نصفَ أوزاره متديِّنون بغَّضوا اللهَ عزَّ وجلَّ إلى هؤلاء؛ بسوء تصرُّفاتهم، وبُغض تعاملاتهم"؟   فقلتُ لنفسي: هوِّني عليكِ، فالله أكبر من كلِّ تصاريف الحياة، وتنهيدات العناء، وسوء صنيع كل البشَر.   ثمَّ رجعَتْ إليَّ نفسي بنقاش جديد، وقالت: هل تتصوَّر أنَّني قد صرتُ أرى كثيرًا من دِماء الأقرباء والمقرَّبين وكأنَّها صارَت كما يُقال: ماءً.   والله لقد رأيتُ بعضًا من خلْق الله كالفقاعات تَنتفخ في بدايتها كثيرًا ثمَّ لا تَلبث قليلًا من الوقت حتى تأفُل وتذبل، ويَنضُب منها الماء من مَعِينها فلم تعد ماءً كما كانت تَروي، وجفَّ معينُها فلم تعُد تنبع منه ولو قطرة واحدة من قَطرات القِيَم والأخلاق والمعاملة الحسنة.   يا تُرى ماذا جرى؟ هل صارت رغبة الكثير في أن يَسبح في بحرٍ من التِّيه والغموض والبعدِ عن المعاملات الحسنة؟ هل نَسي الناسُ، أم أنَّهم لم يعلموا من الأساس أنَّهم متساوون في دِينهم، وأنَّه إذا علا أحدُهم على الآخر في أخلاقه، فإنَّه يكون بذلك قد علا عليه في الدِّين، وصار عند ربِّه وعند نبيِّه أفضل من الآخرين، هؤلاء الذين لا قِيَم عندهم ولا تعاملات مُرضِيه، لا لله ولا رسولِه ولا للعباد؟   يا تُرى ماذا جرى؟ ألا يدرِك هؤلاء أنَّهم قد يَغرَقون في ذلك البحر الممتلئ بسوء صَنيعهم، حتى يتحوَّلوا إلى جثَّة هامِدة قد قضَت على نفسها بنفسها؛ بالفَناء والضياع بعدما انفضَّ الناسُ من حولهم بسبب سوءِ صنيعهم وبُغض تعاملاتهم؟   يا ترى ماذا جرى؟ ماذا صار للكثير من البشَر، حتى بات الواحدُ منهم عابثًا متفلتًا يتمرَّد على كلِّ شيء، وينكر كلَّ شيء، ولا يهتمُّ بأيِّ شيء، ولا يَعتني بأي شيء، ولا يَكترث بأي شيء؟   هل ماتَت الأرواح؟ ثمَّ أيُّ غنيمة قد اغتنمها هؤلاء، وإلى أيِّ حدٍّ قد وصلَت ظنونهم وآمالُهم بأنفسهم؟   سبحان الله! كثرَت تصرُّفات البشَر المريبة والمخجِلة، فلا هُم من قيود أنفسهم قد نَجَوْا، ولا من حظوظهم التي يَسعَون إليها قد فازوا أو ربحوا.   إيقاع الحياة: قد يكون قد تغيَّر إيقاع حياتك قليلًا، وأنت لا تدري أنَّك على غفلة، بل في نومٍ عميق وتِيه رهيب.   قد تَستهويك أشياء جديدة، أو أفكار جديدة، أو أشخاص جدد من حولك، ثمَّ ما أن تَلبث قليلًا حتى تَعود عليك تلك الأشياء الجديدة والأشخاص الجدد بموتِك أو هلاكِك، أو اقترابك من عتبات النَّار، أو التعرُّض لغضب الله الجبار.   أما يَدري هؤلاء أنَّ الشيطان هو الشيطان نفسه، سواء كان في صورة الجنِّ أو في هيئة الإنسان، وما أكثر شياطين بني آدم اليوم، وما أصعبهم وما أخطرهم!   لكن، أين الواعون؟ لكن أين الواعون، وأين المنتبِهون، وأين الكيِّسون الفطِنون، وأين الذين هم على أخلاقيَّاتهم الطيبة ومواثيقهم ووعودهم يحافِظون، وفي تزكية منظومة قِيَمهم القيِّمة كل يوم يَرتقون ويبدِعون ويتميزون؟!   ألم يَعلم أمثالُ هؤلاء أنَّ نقيق الضَّفادع الهيِّن البسيط حتمًا وبعد فترة لا بدَّ له من أن يلوِّث الماء الصَّافي؟   ألم يدرِك هؤلاء أنَّ قطرة ماء صَغيرة حين تَنسكب على حجرٍ بانتظام كلَّ فترة هي كافية لثقب الحجر؟   لقد وصَل الحالُ بكثير من الناس إلى البكاء سنين طويلة، تائهين هائمين، وسالَت عيونهم سيلًا، وتدفَّقَت كالشلالات تدفُّقًا، حتى أبَى القريب أن يَدنوَ من الوفاء، وأبى العدوُّ أن يَشبَع من الجفاء، يا ألله! رحماك من هذا البلاء.   وكأنِّي أرى الزمان غاضبًا: وكأنَّ الزمان قد غضِب وكشَّر عن أنيابه، فصار الكثرة من النَّاس مفلِسون أيما إفلاس، ومن ثمَّ لم نعُد نحن نبرح الخيبات ليلَ نهار، يومًا يتلوه آخر.   لقد خيَّمَت على كثير من المخلِصين الطيبين كثيرٌ من غيوم التوجُّع والأنين، وحاصرَته لججٌ من النُّواح، كلَّ ليل وكل صباح، وهو معذور في ذلك.   وصار معظم الطيِّبين الخلوقين يَجلسون السَّاعات على أبواب اللَّيالي يَفترشون أمامها الهموم، ثمَّ ينظرون لها يتوجَّعون ويتألَّمون، ولله يبثُّون الحزنَ وله يَشْكون.   لقد صار الحال بأصحاب النُّفوس الطيِّبة كلَّ يوم أن يَرفعوا الدموعَ والأنين قبل أن يَرفعوا أياديهم إلى ربِّهم يَشكون سوءَ أفعال كثيرٍ من عباد الله؛ القريب قبل البعيد.   يشكون إلى ربِّهم وله يقولون: يا رب، إنَّ لدينا آمالًا عالية كعلوِّ المآذن رغم قِصَر قاماتنا وضآلَة عِلمنا وعملنا، فهل تَقبلنا سيِّدنا، وتحقِّق آمالَنا وتكفينا شرَّ عبادك؟   الحياة مع الله: لكن ما دامت حياة الطيِّبين الخلوقين تَنصهر مع الله فسيَبقى هؤلاء يخطون خطوات نحو السَّماء، تترقَّب نفوسهم ذلك اليوم الذي يَسمعون فيه ألحانَ التفاؤل لتتمايل عليهم فرِحة مستبشرة بألحانٍ تخرج من أوتار قلوبهم، وتَعزف لهم أجملَ الألحان، وتطربهم وتسعدهم.   سيظلُّ هؤلاء الطيِّبون الخلوقون يَسعون ويترقَّبون أن يَروا أمام أعينهم سطوعَ الشَّمس وبزوغ القمر.   سيَبقى هؤلاء يترقَّبون بإذن ربِّهم انبهار الأنوار تحتفل بهم، وبجميلِ أخلاقهم، وعودة ذلك الإنسان المستحدَث الجديد إلى إنسانيَّته القديمة وأصالَته وأصلِه ومَعينه الصَّافي ومعدنه القديم والأصيل، هكذا كنَّا، فمتى نعود؟   وسيبقى هؤلاء الطيِّبون الخلوقون يصارعون دوَّامةً بعد دوامة، ألمًا بعد ألم، حتى يَروا نورَ الفجر يتسلَّل في الآفاق يَبتسم لهم ويقول: هأنذا قادمًا فلا تَحزن، هأنا قادِمًا فلا تَحزن، هأنا قادِمًا ومعي الخير كله.   ويبقى في الله الأمل: ورغم هذه المآسي الأخلاقيَّة، وانعِدام القِيَم بين النَّاس التي سبَّبَت الكثيرَ من الآلام والأحزان للكثير من أصحاب القلوب الطيِّبة والنفوس الرَّاقية.   ورغم ذلكم الحزن الذي صِرنا نَمتطيه في دروب الحياة، وصرنا نَمتطي معه كلَّ حزن وهمٍّ وألَم، رغم ذلك وغيره، فسيظلُّ أصحاب النُّفوس الطيِّبة ومحترفو مَنظومة الأخلاق العالية - يَحملون في أيديهم باقةً من الورود.   تتقطَّر عيونهم بقطرات من الدُّموع، لكنَّها تَبقى تسقي الزهرَ والورد؛ يذرفونها، يسكبونها، ثمَّ يحنون بها على ورودهم ويمسحونها.   فيا مولاي، هؤلاء عِبادك الطيِّبون، بين يديك دامعون موجوعون، كن لهم ومعهم، لا تَحرمهم لُطفك وعنايتَك، وجُد بجودك عليهم وامنحهم من رعايتك، وصُبَّ عليهم الكثيرَ والكثير من عفوك وعطفِك، ولطفِك وكرمك، يا خيرَ مَن سُئل، ويا أكرم مَن أعطى.   وصلِّ اللهمَّ على سيدنا محمد، وعلى الصَّحب والآلِ، وبارك وأكرم وسلِّم.



شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير