أرشيف المقالات

الفلسفة الشرقية

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
8 بحوث تحليلية بقلم الدكتور محمد غلاب أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين - 4 - الديانة المصرية - التوفيق بين الديانة والفلسفة إن ذيوع عقيدة تأليه الملك أو حلول روح القدس في جسده الذي حدثناك عنه في الكلمة السابقة قد خلق أمام العقل المصري مشكلة معقدة عويصة يمكن أن تعتبر اللبنة الأولى من بناء الفلسفة المصرية، وأن تعد محاولة حلها أقدم المحاولات الفلسفية التي عرفها تاريخ العقل البشري.
لأن عهدها يصعد في سلم الماضي أكثر من ستة آلاف سنة، وأين من هذه الفلسفات الأخرى التي لا يتجاوز أقدمها بضعة عشر قرنا قبل المسيح؟ تلك المشكلة التي نشأت عند المصريين من تأليه الملك هي: (إننا نشاهد أن الملك يموت كما تموت عامة الناس فكيف يموت الإله الذي أولى صفاته الخلود؟!). لم تكد هذه المشكلة تأخذ مكانها في الحياة الفكرية المصرية حتى وجد المتفلسفون الأولون لها حلا وهو أن فرعون لا يموت كما يموت الناس، وإنما حين يعجز جسمه المادي عن النشاط العملي يخرج منه السر الإلهي أو الروح القدس، ليحل في جسم ابنه الشاب الممتلئ قوة ونشاطاً.
وإذاً فروح (هوروس) هي التي تحكم في كل هذه الأجساد المختلفة المسماة بالفراعنة والتي أطلق على كل جسد منها اسم خاص في الظاهر فحسب، ولكن هذا الجواب لا يشفي غليل المتفلسفين الباحثين عن خفايا الكون وأسرار الوجود، لأنهم لا يكادون يتلقون هذا الجواب حتى يصطدموا بالتقاليد الدينية التي تصرح بأن فرعون وهو في قبره يعين ابنه على الحكم وينصحه في المواقف الحرجة.
ومن هذا تنشأ مشكلة فلسفية أخرى وهي (كيف تقولون إن روح (هوروس) تغادر جسم فرعون المائت بعد عجزه عن النشاط إلى جسم ابنه الشاب النشيط ثم تعودون فتقولون: إن فرعون بعد رحيله إلى العالم الآخر يظل متصلاً بابنه يعاونه وينصحه؟ فالتصريح الأول يفيد أنه ليس هناك إلا شخصية روح واحدة تغادر الجسم الضعيف العاجز إلى الجسم القوي النشيط، والتصريح الثاني يفهم منه أن فرعون بعد موته تبقى له شخصية روحية مستقلة تنصح الملك الجديد وتعاونه.
ولا ريب أن هذا تناقض ظاهر يدعو العقول الفلسفية إلى البحث والتنقيب، وهذا هو الذي كان بالفعل، إذ بدأت الروح الفلسفية تسري بين البيئات المصرية المفكرة منذ ذلك العهد المتغلغل في غيابات الماضي فاهتدت إلى حل خيل إليها أنه مقبول من الوجهة العقلية، وهو أن (هوروس) له عدة شخصيات إحداها الشخصية الدنيا التي تتقمص جسد فرعون؛ وثانيتها الشخصية العليا الحاكمة في عالم الآخرة؛ وثالثتها الشخصية الوسطى وهي التي تقوم بنصيحة الشخصية الدنيا في جسدها الجديد، وبهذا تنحل المشكلة ويزول التناقض. لم يكن المصريون كغيرهم من الأمم القديمة يعتقدون أن الجسم الفرعوني بعد مغادرة الروح إياه يصبح جيفة كأجسام بقية البشر والحيوانات، وإنما كانوا يرون أن حلول روح القدس فيها تكسبها شرفا خالدا وبركة أبدية.
ولهذا فبقدر ما يبقى جسم الملك محفوظاً في قبره تنتشر السعادة ويعم الخير في مصر، وهذا هو الإدراك الأول الذي كان يعاصر مبدأ الملكة القديمة، أما بعد هذا العهد بقليل فقد أنتقل تقديس الروح من دائرة الملوك الضيقة إلى جميع الأرواح البشرية وأخذ المفكرون يترقون في الروحية حتى بلغوا فيها الأوج الذي سنشير إليه فيما بعد. وقد كانت الروح تعنى بأن يترك في الجسم فرجة، لتستطيع العودة إليه منها متى شاءت الرجوع من عالم (أوزوريس) إلى عالم الدنيا، ولكن هذه العودة لم تكن محبوبة عند الروح إلا إبان صلاحية الجسم لها، فإذا يبست (المومياء) وتقلص جلدها وانكمشت أعصابها وفقدت هذه الصلاحية تأخرت الروح عن المجيء إلى الجسم، وهذه خسارة كبرى كانت أحد الدوافع التي حملت المصريين على الدقة في صنع التماثيل بعد التحنيط. وكان عالم (أوزيريس) في أول عهد المصريين بهذه العقيدة عالماً قاسياً محفوفاً بالأشواك والمخاطر حتى على فرعون نفسه، إذ كانت روحه لا تمر إلى مملكة (أوزيريس) إلا بعد أن تجتاز عدة عقبات ومصاعب تنشأ من أسئلة دقيقة ومحاسبات عسيرة يوجهها الحارس المكلف بمحاسبة المارة، وكانت هذه المملكة في عقيدة المصريين تحت الأرض وكان يجب أن يمر إليها الفراعنة، ومن في حكمهم، ليستمتعوا بعد اجتياز عقباتها بالنعيم المقيم في عالم الخلود. ولما رأى الكهنة أن فرعون يقاسي قبل الوصول إلى إمبراطورية (أوزيريس) أهوالا صعابا أشاروا بأن تتلى عند دفن المومياء الملكية التعاويذ التي تلتها (إيزيس) على جسم زوجها أوزيريس فأعادته إلى الحياة، أو أن تكتب هذه التعاويذ وتوضع مع المومياء في مقرها الأخير، ليعود فرعون في سهولة إلى الحياة ليجتاز العقبات إلى مملكة الآخرة ولما ارتقت الديانة المصرية تطورات هذه الشعيرة فانتقل فرعون من مملكة (أوزيريس) إلى مملكة (رع) كبير الآلهة وترك الأولى لأفراد الشعب الذين يجب أن يجتازوا الصراط جميعاً إلى المملكة وأن يمر بهم ما كان في العهد القديم خاصاً بفرعون أما فرعون فقد أصبح في العقيدة الجديدة قميناً بأن يذهب إلى المملكة الساطعة كما كان يسمونها، وكان يستعين على الصعود إليها في السماء تارة بجناحي (هوروس) وأخرى بجناحي (توت) وثالثة بسلم يحضره إليه الآلهة، وهو سلم طويل يتصل أوله بمملكة (أوزيريس) تحت الأرض وتلامس قمة مملكة (رع) في السماء فإذا وصل إلى هذا المقر الإلهي ظل فيه زمناً يحمل أسم (هوروس) ويستمتع بامتيازاته، ثم ارتقى بعد ذلك إلى منزلة (رع) نفسه وامتزج به واتحد فيه اتحاداً كلياً.
ومنذ أن ظهرت في الديانة المصرية هذه الصلة بين (رع) وفرعون حصل فيها تطور وانقلاب عظيمان إذ أصبح (رع) هو الذي يطوف بالملكة ليلاً ثم يتغشاها قبل حملها بالملك المقبل.
وهكذا اصبح (رع) هو الأب المباشر لفراعنة الدنيا وهو الكل الأعظم الذي يتلاشون فيه في الآخرة هل نشأ التطور الديني الجديد من الفلسفة أو الفلسفة هي التي نشأت من هذا التطور؟ اختلف الباحثون من العلماء في هذه النقطة في الإجابة على هذا السؤال اختلافاً شديداً، فأجاب الفريق الأول وهم الأكثرية العظمى من الباحثين بأن الأصل هو التطور الديني وأن الفلسفة ناشئة عن هذا التطور ووليدة احتكاك الأفكار حوله كما حدث في مسألة تعدد شخصيات روح (هوروس) التي أسلفنا لك الحديث عنها.
وأجاب الفريق الثاني إجابة مباينة لرأي الفريق الأول تمام المباينة فقرروا أن التفكير الحر هو الذي سبق إلى إنشاء نظريات فلسفية لم يجد الدين بداً من أن يتجه نحوها ويصبغها بلونه.
وإليك بيان هذين المذهبين: المذهب الأول لما سرت عقيدة امتزاج الآلهة التي ترجع بالتعدد إلى أصل واحد وقالت بالثالوث المكون من: (أوزيريس) و (إيزيس) و (هوروس) الثلاثة الراجعين إلى واحد، ثم تطورت من التثليث الموحد إلى التتسيع الموحد كذلك، فقالت بتسعة آلهة يرجعون في النهاية إلى إله واحد، حدث اضطراب في الأفكار، وتناقضت العقيدة مع العقل وكاد يحدث بينهما تناقض خطير لولا أن أخذ المفكرون يفلسفون ويسلكون الممكن والمستحيل من السبل ليوفقوا بين العقل والعقيدة ولكنهم أخضعوا العقيدة للعقل، بل وللعقل الواقعي أو الطبيعي حيث قرروا أن الماء هو (الكاؤوس) المبهم أو العنصر الأول المشتمل على جميع ما في الكون من عناصر، وأنه كان ولا شيء معه لا آلهة ولا أناسي، وأول من ظهر من الماء هو (رع) الذي لم يلبث أن تمركز وكون الشمس، ذلك الكوكب العظيم الذي من فعله ظهر إلهان عظيمان هما: (سو) أي الهواء و (تيفنيه) أي الفراغ.
ومن اجتماع هذين الإلهين تولد إلهان آخران هما: (جيب) أي الأرض و (نوت) أي السماء، ومن اجتماع هذين الإلهين أيضاً نشأ أربعة آلهة كل اثنين منها على طرفي نقيض من الآخرين، فأما الزوج الأول فهو (أوزيريس) أي النيل، و (إيزيس) أي الأرض المخصبة؛ وأما الزوج الثاني، فهو (سيت) أي الصحراء، و (نيفتيس) أي الأرض القاحلة، وهذه هي الآلهة التسعة الراجعة إلى واحد والتي كان المصريون يطلقون عليها: , أي المتسع أو التاسوع المقدس.
ولم يكن هذا التاسوع هو كل ما عند المصريين من آلهة وإنما كان هيئة رياسة عليا لجمهور كبير من صغار الآلهة وأنصافها المذهب الثاني ذهب جماعة من العلماء نخص منهم بالذكر الأستاذ (ألكسندر موريه) المستمصر الكبير إلى أن التاسوع لم يكن هو الأصل كما فهم العلماء الآخرون، وإنما اكتشف العقل المصري القوي المتمدين تسع قوى من قوى الطبيعة هي الشمس والهواء والفراغ والأرض والسماء والنيل والخصوبة والجدب والصحراء ثم أسندوا إلى هذه القوى كل أفاعيل الكون، ولما رأوا أن هذا التفكير الفلسفي ليس في متناول أذهان العامة لم يسعهم إلا أن يؤلهوا هذه القوى، وأن يطلقوا عليها أسماء مقدسة لتفهمها الجماهير هي نفسها حين رأت هذا التقدير العظيم من جانب العلماء لتلك القوى أولته تأويلاً دينياً يتفق مع عاطفتها الفطرية التي لا تقدس إلا المعبودات؛ وفي كلتا الحالتين يكون العقل المصري العلمي هو الذي أوجد التاسوع، لا التتاسوع هو الذي أوجد التفكير في قوى الطبيعة كما يذهب الفريق الأول)
(يتبع) محمد غلاب

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن