أرشيف المقالات

مخالفات ووعيد آكل الميراث

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
2مخالفات ووعيد آكل الميراث   الحمد لله العزيز الوهاب، الكريم التواب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الهادي إلى سبيل الحق والصواب، وإلى دفع الشكِّ والارتياب، وأشهد أنَّ محمدًا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله والأصحاب، ومن تبعهم بإحسان ليوم المآب، صلاةً وسلامًا متلازمين إلى يوم الحساب.   أما بعد: فإن الإسلام دين الحق والعدالة، ودين لا يقبل الظلم، ووضع أشد العقوبة للظالمين؛ فالظلم ظلمات يوم القيامة، وربنا عز وجل أعطى لكل صاحب حق حقَّه، وجعل حدودًا لا يتعداها إلا من ظلم نفسه، ﴿ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ﴾ [الطلاق: 1]، وإننا اليوم نتحدث عن حدٍّ من حدود الله تعالى، ألا هو حد الميراث.   ربنا عز وجل قال في كتابه: ﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ﴾ [النساء: 11]، وبيَّن ربنا عز وجل أنَّ الميراث أمرٌ من أوامره، وحكمٌ ووصية من عنده عز وجل في غير آية في كتابه سبحانه، ومن الآيات: الأولى: أنه فريضة شرعية: ﴿ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 11].   وفي الآية الثانية: أنه وصية إلهية: ﴿ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ﴾ [النساء: 12].   وفي الآية الثالثة: أنَّ الضلال والزيغ لمن تعدى أمر ربه: ﴿ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [النساء: 176].   والناظر إلى آكل الميراث، فإنه يجده واقعًا في مخالفات وليس مخالفة واحدة.   نذكر من هذه المخالفات أربعًا: أولًا: التمرد على أحكام رب العالمين، ومخالفة أمر من أوامره عز وجل، تقع به الفتنة ويقع به العذاب، كما أخبر ربنا عز وجل: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63]، انتظر الفتنة وانتظر العذاب يا من لم ترض بقضاء الله وحُكمه في الميراث.
كم قرأنا هذه الآية في كتاب الله، وكم سمعناها! ولكن هل وعيناها؟ وهل تنبهنا إلى ما فيها من تحذير ووعيد؟ نعم، إنه تحذير شديد اللهجة، مصدره ليس أحدًا من البشر ولا حتى نبيًّا من الأنبياء، بل هو صادر عن الواحد الأحد رب العالمين تبارك وتعالى، ومِن ماذا يحذرنا؟ إنه يحذرنا من مخالفة أمر الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
إنَّ الميراث أمر وحكم من الله يجب قبوله والانقياد له بالتسليم والعمل؛ لأن الإيمان قول وعمل، وقد قال ربنا عز وجل: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ﴾ [النساء: 65]؛ حتى تكون أنت الحكم بينهم فيما يختلفون فيه، يتحاكمون إليك في خصوماتهم، ويكتفون بذلك، ﴿ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ ﴾ [النساء: 65]، إذا قضى الله وقضى رسول الله عليه الصلاة والسلام، سواء كان القضاء لك أو عليك، ثم وجدت من نفسك انشراحًا وقبولًا وإذعانًا، فإنَّ هذا هو علامة الإيمان، وبعد ذلك ﴿ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65] التحاكم والرضا والاطمئنان، وعدم وجود الحرج والضيق، ثم التسليم الكامل لأمر الله ورسوله؛ لأن ذلك الميراث حد من حدود الله؛ تجد ذلك بعد آيات الميراث في سورة النساء: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ [النساء: 13، 14]، يقول ابن كثير في تفسيره لهذه الآيات: "هذه الفرائض والمقادير التي جعلها الله للورثة بحسب قُربهم مِن الميت، واحتياجهم إليه، وفقدهم له عند عدمه - هي حدود الله؛ فلا تعتدوها ولا تجاوزوها؛ ولهذا قال: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ [النساء: 13]؛ أي: فيها، فلم يزد بعض الورثة ولم ينقص بعضًا بحيلة ووسيلة، بل تركهم على حكم الله وفريضته وقسمته، ﴿ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ [النساء: 13، 14]؛ أي: لكونه غيَّر ما حكم الله به، وضادَّ الله في حكمه، وهذا إنما يصدر عن عدم الرضا بما قسم الله وحكم به؛ ولهذا يجازيه بالإهانة في العذاب الأليم المقيم"؛ انتهى.   ثانيًا: أكل الميراث أكل لأموال الناس بالباطل، وقد نهانا الشرع وحرَّم علينا هذا؛ حيث قال تعالى: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ﴾ [البقرة: 188]، وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ مَن أكل الحرام حرم به من الجنة، فعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ))؛ أي: من حرام؛ أخرجه الترمذي وغيره، وقال: ((لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ بِغَيْرِ حَقِّهِ، إِلَّا طَوَّقَهُ اللَّهُ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))؛ أخرجه مسلم عن أبي هريرة.   وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قالت: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ؛ فإن قَضَيْتُ لِأَحَدٍ مِنْكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ؛ فَلَا يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا))؛ أخرجه الترمذي وقال: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.   فعلى العبد أن يتقي الله تبارك وتعالى، وأن يبتدر الأمر بالطاعة لله تبارك وتعالى؛ فنحن الآن في دار عمل وتوبة، وغدًا سيكون حساب ولا عملَ ولا توبةَ، كما أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم أنَّ الحساب في الآخرة بالحسنات والسيئات، فقال صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا؛ فإنه لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ؛ فإن لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ، أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ))؛ أخرجه البخاري عن أبي هريرة.   ثالثًا: أكل الميراث ظلمٌ؛ لأنَّ الظلم معناه وضع الشيء في غير موضعه، ويطلق على مجاوزة الحد، والتصرف في حقِّ الغير بغير وجه حقٍّ، وهذا كله متوفر فيمَن جحد الميراث ولم يعطه لأصحابه أو أنكره، فهو ظلم لا مغالطةَ فيه، والظلم محرَّم، وربنا توعد الظالم في كتابه بالعاقبة الوخيمة، حيث قال الله تعالى: ﴿ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 40]، وتوعدهم بالعذاب غير المقطوع الدائم المقيم وقال: ﴿ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ ﴾ [الشورى: 45]، قال ابن كثير: "أي: دائم سرمدي أبدي، لا خروج لهم منها، ولا محيد لهم عنها؛ لأنكم بأكلكم للحرام اكتسبتم هذا العذاب ﴿ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ﴾ [الزمر: 24]..
((اتقوا دعوة المظلوم؛ فإنها تُحمَل على الغمام، يقول الله جل جلاله: وعزتي وجلالي، لأنصرنَّك ولو بعد حين))؛ (حسن) الصحيحة، وعن جابر رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح؛ فإن الشح أهلَكَ من كان قبلكم؛ حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم))؛ رواه مسلم.
"ومن الظلم: مَطْلُ الغني، يعني ألَّا يوفي الإنسان ما عليه وهو غني به؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((مطل الغني ظُلم))، وما أكثر الذين يماطلون في حقوق الناس، يأتي عليه صاحب الحق فيقول: يا فلان، أعطني حقي، فيقول: غدًا، فيأتيه من غدٍ، فيقول: بعد غدٍ، وهكذا؛ فإن هذا الظلم يكون ظلمات يوم القيامة على صاحبه"؛ شرح العلامة ابن عثيمين رحمه الله.
رابعًا: أكل أموال الميراث سبب لقطيعة الرحم: لا شك في أن انتقاص الحقوق وأخذها بعدما بينها المشرع عز وجل - يسبب كرهًا وشحناء في الصدور وقطيعةً في الغالب؛ لأن كل صاحب حق أولى بحقه، وخاصةً إذا كانت الأخت أو البنت في حاجة لحقِّها، وقد جعله الشرع لها: ﴿ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ﴾ [النساء: 7]؛ فهو مفروض لها من الله، ومنعُها منه يسبب العداوة والقطيعة، وقاطع الرحم مقطوع من الله عز وجل، ومُفسِدٌ في الأرض، ﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ﴾ [محمد: 22، 23]، قال صاحب الظلال في تفسير هذه الآيات: "وهذا التعبير ﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ ﴾ [محمد: 22] يفيد ما هو متوقع من حال المخاطبين، ويلوح لهم بالنذير والتحذير، احذروا؛ فإنكم منتهون إلى أن تعودوا إلى الجاهلية التي كنتم فيها: تفسدون في الأرض وتقطعون الأرحام، كما كان شأنكم قبل الإسلام".

وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ﴾ [الرعد: 25].

قال ابن كثير: "هذا حال الأشقياء وصفاتهم، وذكر مآلهم في الآخرة ومصيرهم إلى خلاف ما صار إليه المؤمنون".
وأخيرًا: قصة يرويها أحد الدعاة لشاب حرَم أخواته الثلاث من الميراث، فماذا حدث له؟ أخواته الثلاث طلبن منه حقَّهن من أبيهن المتوفى، ووعدهن "في ليلة كذا أعطيكنَّ حقكنَّ ونكتب الأوراق الرسمية"، وجاءت أخواته على الموعد، وكان قد جهز الأوراق والتنازلات، وحينما دخلن: أمرهنَّ بالتوقيع والبصمات، فوقعن وبصمن بحسن نية..
وبعد التوقيع والبصمات، وضع الأوراق في حقيبته وقال: "اخرجن؛ فليس لكُنَّ شيء عندي! فقد أخذتنَّ حقوقكنَّ كاملة، وهذه هي المستندات"؛ فقالت إحداهنَّ بعد أن رفعت يديها إلى السماء: "حسبي الله ونعم الوكيل فيك يا أخي؛ اللهم خذ لي حقي من أخي؛ اللهم أرني فيه يومًا"، وكأن أبواب السماء مفتحة؛ فسقط على الأرض يصرخ ويستغيث، فحملوه إلى المستشفى، فأصيب بشلل؛ شلت يده بدعوة مسكينة مظلومة، وقرر الأطباء أن حالته ميئوس منها، وظل عشرة أيام يصرخ من شدة الألم، وشكته أخته إلى أحد الدعاة، وجاء هذا الشيخ ليذكره بالله ورد الحقوق؛ فقال: "يأخذن كل مالي!".   وأمر الأخ وكيله المحامي بإعطائهنَّ حقهنَّ غير منقوص، وتم تسليمهنَّ حقهنَّ كاملًا؛ فسُرَّ وجه أخته التي دعت عليه قبلُ، ورفعت يديها إلى السماء وقالت: "اللهم اشف أخي ابن أمي وأبي!".   يقسم الشيخ - وقد سمعه بنفسه -: "والله وقف المريض على قدميه بقدرة الله واحتضن أخته، وبكى وبكت أخته وبكى الجميع"؛ من خطبة جمعة للدكتور خالد البدير حفظه الله.   هذا، ونسأل الله السلامة والعافية لنا ولسائر المسلمين.   إنها دعوة مظلومة سَرَتْ بليل، غفلنا عنها ولم يغفل عنها الله! فإياكم وأكل الميراث؛ وإياكم ودعوة المظلوم! لا تظلمنَّ إذا ما كنتَ مقتدرًا فالظلم ترجع عقباه إلى الندمِ تنام عينُك والمظلوم منتبهٌ يدعو عليك وعينُ الله لم تنمِ   والله تعالى أعلى وأعلم.



شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢