أرشيف المقالات

خلق التواضع

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
2خلق التواضع
الحمد لله رب الأرض ورب السماء، خلق آدم وعلمه الأسماء، وأسجد له ملائكته وأسكنه الجنة دار البقاء، وحذره من الشيطان ألدِّ الأعداء، ثم أنفذ فيه ما سبق به القضاء، فأهبطه إلى الدنيا دار الابتلاء، وجعل الدنيا لذريته دارَ عمل لا دار جزاء، وتجلَّت رحمته بهم فتوالت الرسل والأنبياء، وما منهم أحد إلا وجاء معه تنزيل وضياء، ثم خُتمت الرسالات بالشريعة الغرَّاء، ونزل القرآن لما في الصدور شفاء، فأضاءت به قلوب العارفين والأتقياء، وترطبت بآياته ألسنة الذاكرين والأولياء، ونهل من فيض نوره العلماء والحكماء، نحمده تبارك وتعالى على النعماء والسرَّاء، ونستعينه على البأساء والضراء، ونعوذ بنور وجهه الكريم من جَهْد البلاء، ودَرَك الشقاء، وعضال الداء، وشماتة الأعداء، ونسأله عيشَ السعداء، وموت الشهداء، والفوز في القضاء، وأن يسلك بنا طريق الأولياء الأصفياء، وأشهد أن سيدنا محمدًا خاتم الرسل والأنبياء، وإمام المجاهدين والأتقياء.   أما بعد: فأيها الإخوة الكرام، نتحدث اليوم إن شاء الله تعالى عن التواضع، وأسأل الله العظيم الكريم أن يجعلنا من أهله بحوله وكرمه.   أيها الإخوة الكرام، إن التواضع في اللغة هو: التذلُّل، وتواضَعَ الرجل: إذا تذلَّل، وقيل: ذلَّ وتَخاشَع، وهو صفة خُلقية من أجمل الصفات التي ينبغي على المسلم أن يتحلَّى بها، وأن تكون متعلِّقة به تعلُّقًا تامًّا؛ وذلك لعدة أمور: أولًا: لأن النبي كان متواضعًا، وهو صلى الله عليه وسلم قدوتنا وأسوتنا ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21]، ونحن نسير على ما كان عليه صلى الله عليه وسلم، فنلزم التواضع؛ لأنه خلُق نبينا.   ثانيًا: لأن التواضع صفة عباد الرحمن، وإذا لم يكن العبد من عباد الرحمن، فمع من يكون؟ قال تعالى: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ﴾ [الفرقان: 63]، قال الشيخ السعدي رحمه الله: (ذكر أن صفاتِهم أكملُ الصفات، ونعوتهم أفضل النعوت، فوصَفهم بأنهم: ﴿ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ﴾؛ أي: ساكنين متواضعين لله وللخَلق، فهذا وصف لهم بالسكينة والوقار والتواضع"؛ تفسير كلام المنان (5/493).   ثالثًا: لأننا معاشر المسلمين طلابُ آخرة، والآخرة لا تكون إلا لمن توفر فيه التواضع؛ قال الله تعالى: ﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [القصص: 83]، وعن عبدالله بن مسعود عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كِبْر، ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان))، قال: فقال له رجل: إنه يعجبني أن يكون ثوبي حسنًا، ونعلي حسنة؟ قال: ((إن الله يحبُّ الجمال، ولكن الكِبر مَن بطَر الحق، وغَمَص الناس))، والحديث صحَّحه الألباني في صحيح الترمذي.   رابعًا: لأن الكبر من صفات أهل النار؛ عن حارثة بن وهب الخزاعي رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((ألا أخبركم بأهل الجنة؟))، قالوا: بلى، قال صلى الله عليه وسلم: ((كلُّ ضعيف متضعِّف، لو أقسم على الله لأبره))، ثم قال: ((ألا أخبركم بأهل النار؟))، قالوا: بلى، قال: ((كل عُتل جوَّاظ مستكبر))؛ رواه البخاري ومسلم.   خامسًا: لأن التواضع صفة أهل الإيمان، وهو وسيلة لحب الرحمن لعبده المتواضع؛ قال الله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِين ﴾ [المائدة: 54].   سادسًا: عدم التواضع سبب للطبع على القلب؛ قال جل وعلا: ﴿ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ﴾ [غافر: 35].   سابعًا: لأن التواضع دعوةُ النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم أَحْيني مسكينًا، وأَمِتْني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين))؛ أخرجه الترمذي.   ثامنًا: لأن العز والرفعة في التواضع؛ روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا، وما تواضَعَ أحد لله إلا رفعه الله)).   تاسعًا: صاحب السعادة صاحب تكريم الآخرة؛ عن معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ترك اللِّباس تواضعًا لله وهو يقدر عليه، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيِّره من أيِّ حُلَل الإيمان شاء يلبسها))؛ رواه أحمد في المسند، والترمذي، وحسنه الألباني.   عاشرًا: لأن الله عز وجل لا يحب المتكبرين ﴿ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [لقمان: 18].   قال القرطبي: "الصَّعَر هو الميل؛ أي: لا تُمِلْ خدك للناس كبرًا عليهم، وإعجابًا بنفسك، واحتقارًا لهم، ولا تمشِ متبخترًا متكبِّرًا"؛ الجامع لأحكام القرآن.   وقال ابن كثير: "لا تتكبر فتحتقر عبادَ الله، وتُعرِض عنهم بوجهك إذا كلَّموك، وأصل الصعر داء يأخذ الإبل في أعناقها أو رؤوسها حتى تفلت أعناقها من رؤوسها، فشبه به الرجل المتكبر، ﴿ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ﴾ [لقمان: 18]؛ أي: متكبرًا جبارًا عنيدًا، لا تفعل ذلك يبغضك الله؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [لقمان: 18]؛ أي: مختال معجب بنفسه، فخور على غيره"؛ تفسير القرآن العظيم.



شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣