أرشيف المقالات

الجباية في الإسلام

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
8 للأستاذ فارس بك الخوري أستاذ علمي المالية والمرافعات المدنية ورئيس المجلس النيابي السوري استندت الجباية عند العرب على الأسس الآتية: 1 - على القواعد المستنبطة من الكتاب والسنة؛ 2 - على ما استنه الخلفاء الراشدون؛ 3 - على ما أخذوه عن الدول التي غلبوها على أمرها فلم تكن أموال الدولة في أيام الرسول سوى الغنائم يخرجون خمسها للنبي وأهل بيته ويقتسمون الباقي بين المسلمين.
وكانت الخزينة في عهده قائمة على ما يجتمع لديه من الصدقات والزكوات من ماشية ونقود وحبوب وعروض يتصرف بها في وجوه المصلحة العامة.
ثم عندما اتسع أمر الإسلام عمد إلى وضع الخراج.
فجعل على سكان جزيرة العرب من المسلمين خراج مقاسمة على حاصلات أرضهم من العشر إلى نصف العشر بحسب درجة الأرض من الخصب ونصيبها من الري، فكانت أرض الجزيرة بتمامها عشرية ماعدا خيبر فقد صالح يهودها على نصف حاصلات أرضهم.
وكان يسم الماشية العائدة لبيت المال بميسم خاص ويتولى ذلك بنفسه؛ وبلغت هذه الماشية في عهده نحو أربعين ألفاً.
وبقى خمس الأفياء يعطي لأهل البيت حتى تولى الخلافة عمر بن الخطاب فعين الرواتب لمستحقيها من أهل البيت ومن القائمين بخدمة الخليفة من الحاشية والبطانة وأجراها عليهم شهراً بشهر، ورد الأخماس على بيت المال لتقسم على المسلمين. وعندما توسع الفتح لإسلامي واستولى المسلمون على بلاد الروم والفرس في العراق والشام اختلف زعماء العرب في الخطة الواجب اتباعها باستحواز الأرض و (العلوج) الذين عليها، فأراد قوم من الصحابة وزعماء العرب أن يقتسموا الأرضين التي يفتحونها غنيمة بينهم ويكون لكل منهم نصيبه منها مع من عليها من السكان فيبقى السكان اقناناً أي أرقاء ملحقين بالأرض يباعون معها وينتقلون بانتقالها.
فقال عمر: فكيف بمن يأتي بعدكم من المسلمين فيجدون الأرض قد اقتسمت بمن عليها وحيزت إرثاً عن الآباء؟ ما هذا برأي.
فقال عبد الرحمن ابن عوف: فما الرأي إذن؟ ما الأرض والعلوج إلا مما أفاء الله على المسلمين.
قال عمر: إذا اقتسمت ارض العراق بعلوجها وارض الشام بعلوجها فبماذا تسد الثغور وما يكون للذرية؟.
وما زالوا به حتى جمع ندوة من المهاجرين والأنصار قوامها عشرون رجلا من أهل الحنكة والعقل واستشارهم في الأمر وقال لهم: سمعتم كلام هؤلاء القوم الذين زعموا إني اظلمهم حقوقهم وإني أعوذ بالله أن اركب ظلماً؛ لئن كنت ظلمتهم شيئاً هو لهم وأعطيته غيرهم لقد شقيت، ولكن رأيت انه لم يبق شيء يفتح بعد ارض كسرى وقد غنمنا أموالهم وأرضهم وعلوجهم فقسمت ما غنموا من أموال بين أهله وأخرجت الخمس فوجهته على وجهه، وأنا في توجيهه، وقد رأيت أن احبس الأرضين بعلوجها واضع عليهم فيها الخراج فتكون فيئاً للمسلمين المقاتلة والذرية ولمن يأتي بعدهم.
أرأيتم هذه الثغور لا بد لها من رجال يلزمونها؟ أرأيتم هذه المدن العظام كالشام والجزيرة والكوفة والبصرة ومصر لابد لها من أن تشحن بالجيوش وإدرار العطاء عليهم؟ فمن أين يعطى هؤلاء إذا قسمت الأرضون والعلوج؟ فقالوا جميعاً: الرأي رأيك فنعما قلت وما رأيت، إن لم تشحن هذه الثغور وهذه المدن بالرجال ولم تجر عليهم ما يتقوون به رجع أهل الكفر إلى مدنهم.
وكان عثمان وعلي وطلحة بين القائلين بقول عمر.
فقال: من لي برجل له جزالة وعقل يضع الأرض مواضعها ويضع على العلوج ما يحتملون؟ فاجتمعوا له على عثمان بن حنيف وقالوا تبعثه إلى أهم ذلك فان له بصراً وعقلا وتجربة.
فولاه مساحة ارض السواد من العراق فمسح سواد الكوفة وجباه مائة مليون درهم، وفعل بالشام كما فعل بالعراق فترك أهله ذمة يؤدون الخراج إلى المسلمين.
قال أبو يوسف القاضي: إن الذي رآه عمر من ترك الأرض في أيدي أصحابها وفرض الخراج عليها هو توفيق من الله فيه الخيرة لجميع المسلمين؛ ولو لم يفعل ذلك لما شحنت الثغور وقويت الجيوش على السير في الجهاد. وفي عهده وضعت القاعدة القائلة (أيما دار من دور الأعاجم ظهر عليها الإمام وتركها في أيدي أهلها فهي ارض خراج؛ وإن قسمها بين الذين غنموها فهي ارض عشر.
وكل ارض من أراضي الأعاجم صالح الإمام أهلها عليها وجعلهم ذمة فهي ارض خراج) فضرب على الأرض الخراجية مالاً مقطوعاً يستأداه أصحابها العاملون بها في حالتي الخصب والجدب؛ وجعل هذا الخراج يختلف باختلاف خصب الأرض وأسلوب الري والقرب من المدن الحافلة بما في ذلك من العون على كثرة الاستغلال وبيع الغلة؛ وجعل العشر في الأراضي العشرية على ما يشرب من ماء المطر ونصف العشر على ما يسقى بالدلو، وجباه على ما يبقى في أيدي الناس من الغلة الأرضية كالحبوب ووضعه أي رفعه عما لا يبقى كالبطيخ والخضر، كما وضعه عن المسلمين في البلاد التي فتحها وأقطعهم إياها، وقال ليس على المسلمين عشر وإنما العشر على اليهود والنصارى.
وقال: يا معشر العرب احمدوا الله الذي وضع عنكم العشور.
فهو أول من مسح الأرض ودون الدواوين ووضع أصول الجباية ورقم الداخل إلى بيت المال والخارج منه.
وهو الذي رتب الجزية على الرجال من غير المسلمين وكلف غنيهم بثمانية وأربعين درهماً، ومتوسطهم بأربعة وعشرين، وفقيرهم باثني عشر في السنة، وقال درهم في الشهر لا يعوز أحداً.
وجعل المعادن لمخرجها على أن يؤخذ منه خمس المستخرج لبيت المال؛ وكذلك ما يخرج من البحر من حلية وعنبر.
وهو الذي وضع اكثر القواعد المالية فلم يجرؤ من جاء بعده على مخالفتها، فبقي جانب عظيم منها نافذاً في عهد الأمويين والعباسيين واستمر بعضها حتى الزمن الحاضر. كانت منابع بيت المال في عهد الخلفاء الراشدين منها المقرر ومنها الطارئ؛ فالمقرر هو الخراج والعشر والصدقات والجزية، والطارئ هو العشور والغنائم والافياء والأموال المستخرجة من العمال وعوائد المصادرة وأمثال ذلك.
فالخراج هو ما كان يوضع على الأرض التي استولى عليها المسلمون وتركوها في أيدي أهلها ملكا لهم، فكانوا يجعلونه أحياناً خراجا موظفاً ثابتاً كما جرى في سواد العراق، وأحياناً خراج مقاسمة.
وبقيت ضياع البطارقة والأمراء المنهزمين ملكا لبيت المال يقبلها العمال ويستثمرونها لحساب الخزينة العامة.
والعشر هو الحصة الشائعة المضروبة على حاصلات الأرض التي اسلم أهلها عليها من ارض العرب أو العجم كالمدينة واليمن، لو ملكها المسلمون عنوة من قوم لا تقبل منهم الجزية كعبدة الأوثان والمجوس؛ ومثلها الأرض التي احتازها المسلمون وقسموها بين الغانمين. والصدقات هي ما يعطيه المسلمون من أموالهم المنقولة ومكاسبهم؛ وكانت في الغالب بمعدل واحد في الأربعين أي ربع العشر؛ وتجبى على الأكثر من الماشية، فكانوا يعينون لأهل البادية مصدقين يجبون الصدقات ويردونها على بيت المال لتصرف في مصالح الخلافة.
ولعل هذا الأساس بقي معتمداً عليه في الإسلام وتجلى في عهد الخلافة العثمانية بأموال الأغنام والسائمة التي مازالت إلى اليوم تجبى على هذه النسبة نفسها توسعت منابع الجباية بعد ذلك فتناولت مطارح أخرى من ذلك المكوس (الجمارك) التي كانوا يسمونها العشور لأنها كانت تؤخذ بمعدل واحد من العشرة، وأول ظهورها في الإسلام على عهد عمر بن الخطاب عندما كتب إليه أبو موسى الاشعري عامله في العراق يستشيره بما يأخذه الأجانب من تجار المسلمين الذين يدخلون بلادهم لبيع بضاعتهم، فكتب إليه عمر أن خذ أنت منهم كما يأخذون من تجارنا وخذ من أهل الذمة نصف العشر ومن المسلمين ربع العشر بقدر الزكاة المفروضة عليهم فانتشرت قاعدة التعشير في ثغور المسلمين وحدودهم واستمرت طول أيام دولتهم.
ليس لدينا إحصاء يعرف منه ما كان يدخل بيت المال في عهد الراشدين من الخراج أو العشور أو الزكوات أو الأخماس أو غيرها من منابع الخزينة، وجل ما نعلمه من هذه الجهة أن الدخول كانت جسيمة جداً وجميعها تنفق في المصالح العامة ولا يختزن شيء منها قدم أبو هريرة على عمر بمال من البحرين فقال له عمر: ما معك؟ قال: (خمسمائة ألف درهم) فدهش عمر لكثرته وقال له: (أتدري ما تقول؟) قال (نعم مائة ألف خمس مرات) فصعد المنبر وقال: (أيها الناس جاءنا مال كثير، فان شئتم كلنا لكم كيلاً، وان شئتم عددنا لكم عداً، وهذا مثال على دهشة العرب بوفرة الأموال التي كانت ترد عليهم من فتوحاتهم ذهبا وفضة وعلى الإسراع في توزيعها بين المسلمين.
وكان أبو بكر وعلي لا يقلان عن عمر في الزهد بالمال وتقسيمه بين الناس بالعدل كان العرب قبل الإسلام يتعاملون بالنقود الكسروية والرومية من الدراهم والدنانير وبقى هذا حالهم إلى عهد عمر فضرب الدرهم وجعل وزنه من الفضة أربعة عشر قيراطاً من قراريط المثقال العشرين، فكانت كل عشرة دراهم من دراهمه تزن سبعة مثاقيل؛ ثم ضرب دراهم أخرى جعل وزن الواحد منها اثني عشر قيراطاً.
وكان يضربها على نقش الدراهم الكسروية ويزيد في بعضها عبارات إسلامية كعبارة التوحيد أو عبارة الحمدلة.
وضرب بعده عثمان دراهم نقش عليها عبارة التكبير.
وحذا الخلفاء والأمراء حذوهما فضربوا الدراهم والدنانير بعبارات وأوزان مختلفة.
وكان أعظم الذين ضربوا النقود معاوية وعبد الله بن الزبير وعبد الملك بن مروان ويزيد بن عبد الملك وغيرهم.
وإنما كان عبد الملك بن مران أول من ضرب الدنانير الإسلامية الصرفة بدون نقوش كسروية، فكان وزن ديناره يتراوح من أربعة غرامات وخمس الغرام إلى أربعة غرامات وثلثي الغرام، فهو بذلك يقارب نصف الجنيه الإنكليزي الذي وزنه أربعة غرامات وربع الغرام من الذهب وأما الدرهم الفضي فكان وزنه اقل من ثلاثة غرامات، واكثر عبد الملك من ضرب هذه النقود العربية في أيامه في الشام ومصر والعراق، وانتشر استعمالها فاستغنى العرب بها عن نقود الروم والفرس، وصار للعرب نقود خاصة بدولتهم تم بها استقلالها المالي. فارس الخوري

شارك الخبر

المرئيات-١