أرشيف المقالات

الصاحب ساحب

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
2الصاحب ساحب
علاقة الصاحب الصالح بالسعادة واضحة، فكم من شقي كانت شقاوته بسبب جليس سيئ جالسه! وكم من غويٍّ كانت غوايته بسبب شرير صاحبه فأهلكه! وفي الآخرة كذلك، كم من شخص قد شقي بالجحيم التي لا يموت فيها ولا يَحيى بسبب صاحب سوء. فكم من شخص كاد أن يُسلم ويستقيم ولكن خذَّله المخذلون وأرداه المفسدون، فكان من أصحاب الجحيم! وفي المقابل: كم من شخص قد أسعده الله وأورثه أعالي الجنان، وغُفِرت له ذنوبه، وسُتِرت عليه عيوبه بسبب مصاحبة الصالحين!
فالصاحب ساحب: يسحبك إلى السعادة إن كان سعيدًا وإلى الشقاوة إن كان شقيًّا.
فلا شك أن الجلساء يؤثر بعضهم على بعض، ويقتبس بعضهم من خصال بعض؛ ولذلك جاء في الصحيحين: قال عليه الصلاة والسلام: (إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء، كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة".
وهذا مثل نبوي عظيم محكم: فالجليس الصالح إما أن يعطيك من إرشاداته ونصائحه وعلمه، وإما أن تقتبس منه ما يصلح أحوالك ويدلك على الخير، وإن لم يكن هذا ولا ذاك، فإنك على أقل الأحوال ستكتسب من مجالسته السمعةَ الحسنهَ بين الناس، ولا بد أن تتأثر من سلوكه وأخلاقه.
أما الجليس السوء، فإنه يحرق إيمانك ويعرضك لخطر الانحراف في طريق الفساد، ولو أنك سلمت من ذلك في بادئ الأمر، فإنك لن تسلم من السمعة السيئة والتأثر النفسي الذي هو بداية التأثر السلوكي.
فالصاحب ساحب ولو بعد حين: ومن ادعى أنه لا يتأثر بمصاحبة الأشرار وأصحاب الهمم الدنيئة، فهو مكابر؛ قال ابن الجوزي: "ما رأيت أكثر أذًى للمؤمنين من مخالطة من لا يصلح، فإن الطبع يسرق فلِمَ يتشبه بهم، ولم يسرق منهم فتَر عن عمله".
وقال عليه الصلاة والسلام: (الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل)؛ رواه أحمد، والترمزي، وأبو داود، وصححه الألباني.

فالسحب من الصاحب لصاحبه واضح، فإن كان الصاحب مؤمنًا زاده تمسكًا بالإيمان ومسارعة إلى العمل الصالح، وإن كان من أهل الانحراف انحرف معه إلى طريقه.
فمجالسة الحريص تحرك الحرص، ومجالسة الكريم تحرك الكرم، ومجالسة الزاهد تحرك الزهد ...
وهكذا. وليس الجليس من الناس فحسب هو الذي يؤثر، بل إن مجالسة الحيوان تؤثر.
في البخاري قال صلى الله عليه وسلم: (رأس الكفر نحو المشرق، والفخر والخُيلاء في أهل الخيل والإبل، والفدَّادين أهل الوتر، والسكينة في أهل الغنم).
فالناقة لما كانت تمشي رافعة رأسها إلى أعلى، أورث ذلك من يجالسونها كبرًا وعجبًا، أما الشاة فلكونها ساكنة، أورثت أهلها سكونًا وتواضعًا، ومن ثَم قال صلى الله عليه وسلم: (ما بعث الله نبيًّا إلا رعى الغنم))
؛ رواه البخاري.
ولأن الصاحب ساحب: طلب موسى من ربه أن يفرق بينه وبين القوم الفاسقين الذين ضعف إيمانُهم، وقلَّ يقينُهم بنصر ربهم وعصوا الرسول: ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾ [المائدة: 25].
ولأجل ذلك اعتزل الخليل إبراهيم مجالس قومه وقال لهم: ﴿ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي ﴾ [مريم: 48].
وقال أيضًا: ﴿ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الصافات: 99]، فأكرمه الله وكافأه أحسن مكافأة؛ كما قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا ﴾ [مريم: 49]، وهكذا من يترك مجالسة الأشرار ابتغاء وجه الله، يكرمه الله، ومن ترك شيئًا اتقاء الله، عوَّضه الله خيرًا منه.

وها هي نصيحة العالم الرباني الفقيه للذي قتل مائه نفس: "ومن يحول بينك وبين التوبة، انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بهم أناسًا يعبدون الله، فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك؛ فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق، أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلاً بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي، فجعلوه بينهم، فقال: "قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما أدنى، فهو له، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة، وفي رواية: "فكان إلى القرية الصالحة أقرب منها بشبر، فجعل من أهلها)؛ رواه مسلم.
وهل كان على أبي طالب - عند الوفاة - أضرُّ من قرناء السوء الذين لم يزالوا به، حتى حالوا بينه وبين كلمة توجب له سعادة الأبد، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يا عمِّ، قل: لا إله إلا الله، كلمة أشهد لك بها عند الله، فقال: أبو جهل وعبدالله بن أمية: أترغب عن ملة عبدالمطلب، فلم يزل رسول الله يعرضها عليه، ولم يزالا يُخذِّلانه، حتى قال آخر كلامه: هو على ملة عبدالمطلب.
فقال عليه الصلاة والسلام: "أما والله لأستغفرنَّ لك ما لم أُنْهَ عنك"، فأنزل الله: ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾ [التوبة: 119].
وها هو صاحب السوء كاد أن يُهلك صاحبه ولكن الله سلَّم.
قال تعالى في شأن أهل الجنة: ﴿ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾ [الصافات].
ومن المشاهد أن الماء والهواء يفسدان بمجاورة الجيفة، فما الظن بالنفوس البشرية، ولا تجلس إلى أهل الدنايا، فإن خلائق السفهاء تُعدي.
ولهذا أمر الله تعالى بمصاحبة الصالحين والاقتراب منهم: قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119]. وقال تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [الكهف: 28].
ونهى الله تعالى عن مصاحبة أهل الشر والفساد: قال تعلى: ﴿ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ﴾ [النساء: 140]. وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنعام: 68]. وقال تعالى: ﴿ فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ﴾ [النجم: 29، 30].
  من تصاحب؟ صاحب من تلتمس منهم الإخلاص والصدق والتقوى؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119]. وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقي)؛ رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني. وقال بلال بن سعد: "أخ لك كلما لقِيك ذكَّرك بحظك من الله، خير لك من أخ كلما لقِيك وضَع في كفك دينارًا"؛ صحيح رواه أبو نعيم في الحلية. وقال لقمان لابنه: "يا بُني من لا يملك لسانه يندم، ومن يُكثر المراء يُشتَم، ومن يصاحب صاحب السوء لا يَسلَم، ومَن يصاحب الصالح يَغنَم".
وأخيرًا: خمسة لا تصاحبهم: وصَّى أحد الصالحين ولده، فقال: "يا بُني انظر خمسة لا تصاحبهم ولا تحادثهم، ولا تُرى معهم في طريق، قال: يا أبتِ جُعِلت فداك أبي وأمي، من هؤلاء الخمسة؟ قال: إياك ومصاحبة الفاسق، فإنه يَبيعك بأكلة أو أقل منها، قال: يا أبتِ، ومَن الثاني؟ قال: إياك ومصاحبة البخيل، فإنه يخذلك في ماله أحوج ما تكون إليه، قال: يا أبتِ، ومَن الثالث؟ قال: إياك ومصاحبة الكذاب؛ فإنه يُقرب منك البعيد ويباعد عنك القريب، قال: يا أبتِ، ومَن الرابع؟ قال: إياك ومصاحبة الأحمق، فإنه يريد أن ينفعك فيضرك، قال: يا أبتِ، ومَن الخامس؟ قال: إياك ومصاحبة القاطع لرحمه، فإني وجدته ملعونًا في كتاب الله في ثلاثة مواضع: [في البقرة والرعد ومحمد]. ♦ ♦ ♦
النصيحة: • ابدأ وجاهِد نفسك، واطرد أصدقاء السوء من حياتك. • وابحث عن الصحبة الصالحة في المسجد، وفي صلاة الفجر، وفي مجالس العلم.



شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣