أرشيف المقالات

العداوة الأزلية (2)

مدة قراءة المادة : 22 دقائق .
2سلسلة تأملات تربوية في بعض آيات القرآن الكريم العداوة الأزلية ﴿ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ ﴾ [طه: 117] "إبليس" الحلقة الثانية   ثانيًا: مرحلة مشاهدة واستماع آدم للأحداث: (1) سجود الملائكة أجمعين لآدمَ طاعة لله، وعصيان إبليس لله وعدم سجوده لآدم. ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 34]. ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ﴾ [الأعراف: 11]. ﴿ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ﴾ [الحجر: 30، 31]. ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ﴾ [الإسراء: 61]. ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ...
[الكهف: 50]. ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى ﴾ [طه: 116]. ﴿ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ [ص: 73، 74].   قد سجد الملائكة امتثالًا للأمر العُلوي الجليل، وهم الذين لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون؛ فقد سجَدوا مطيعين منفذين لأمر الله، لا يترددون ولا يستكبرون، ولا يفكرون في معصية لأي سبب ولأي تصور ولأي تفكير، هذه طبيعتهم، وهذه خصائصهم، وهذه وظيفتُهم، وإلى هنا تظهر كرامة هذا الكائن الإنساني، كما تظهر طاعة الملائكة المطلقة لله، وعلى النقيض من هذا، امتنع إبليسُ عن السجود مستكبرًا وعاصيًا لله، فهذه خصائصه، وهذه طبيعته التي جُبِل عليها. لنعِشْ بعقولنا وأرواحنا ونستشعر الأحداث كما صوَّرَتْها لنا الآياتُ السابقة.   • آدمُ عليه السلام وقد دبت فيه الحياة بمجرد أن نفخ الله الرُّوحَ فيه. • الملائكة كلهم ساجدون بحشدهم الذي لا يحصيه إلا الله، إنه لمشهد مهيب، مِن كثرة العدد، والكل ساجد مطيع، نموذج للطاعة المطلقة والتسليم التام. • إبليس يقف شاخصًا في هذا الخضم الهائل بين الساجدين، إنه لشذوذ في المشهد، لقد أخلَّ بمشهد السجود، وأصبح بارزًا بشذوذه في هذا المشهد؛ فقد امتنَع عن تنفيذ أمر الله - سبحانه - وعصاه. ولكن لماذا هذا السجود؟ قد يقال: إنه سجود تكريم لآدم؛ كما جاء في بعض التفاسير. ولكن، لماذا هذا التكريم بهذه الصورة وفي هذا الوقت خاصة؟   ولماذا هذا الشذوذ مِن إبليس بعدم سجوده وإخلاله بالنظام؟ ما الذي حاك في صدره؟ وما التصورُ الذي سيطر عليه فمنَعه مِن طاعة ربه، وهو يعرف أنه ربُّه وخالقه ومالك أمره وأمر الوجود كله؟! أليس كل ما يحدُثُ بمشيئة الله؟ بلى.   أين الإجابة؟ لننتظر ونرقب الأحداث التالية؛ لعلنا نصل إلى إجابة مقنعة لنا. لنتصور أننا في موقف آدم عليه السلام، ونفكر. لقد أبصر آدمُ ووقع نظره على هذا المشهد المهيب، الذي يجذب الأبصار، ويثير التفكير، لماذا هذا السجود مِن جانب الملائكة؛ امتثالًا وطاعة مطلقة؟! ولماذا هذا العصيان من جانب إبليس؟ إنها نفس التساؤلات التي سألناها من قبل، هي نفسها التي دارت في عقل آدم. ولنتابع الأحداث.   (2) إثبات الله للملائكة أن هناك علمًا لم يتعلموه. ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ [البقرة: 31 - 33].   لقد نُفِخَتْ في آدم الرُّوحُ، ومن ثم أصبحت لديه في فطرة تكوينه استعدادات ليست لدى الملائكة، استعدادات القدرة على التعلم والتعليم، وأراد الله أن يُظهِرَ ذلك للملائكة في وجود إبليس، فعلَّم آدم الأسماء كلَّها، ثم طلب من الملائكة أن يخبروه بأسماء تلك الأشياء، فاعترفت الملائكة بعجزهم بعدم معرفتهم بذلك، وقالوا: ﴿ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 32]، وهنا أمَر الله آدم أن ينبئهم بهذه الأسماء، فلما فعل آدم ذلك، قال لهم: ﴿ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ [البقرة: 33]، وذلك تعقيبًا على قوله تعالى لهم من قبل: ﴿ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 30].   وهنا انتهى دور الملائكة في هذه القصة. ولكن ما الحاجة من هذا الإثبات من الله عز وجل وهو الذي لا يُسأَلُ عما يفعل؟ إن الملائكةَ لم تكن في حاجة لهذا الإثبات؛ فهي لا تحتاج لهذا في أداء مهامها التي خُلِقت مِن أجلها؛ فهي التي تفعل ما تؤمر، ودورها - كما قدره الله لها - أن تكونَ أداةً لتحقيق مرادِ الله.   أما إبليس فقد علِم مِن هذا الموقف تميُّزَ آدم على الملائكة في جانب القدرة على التعلُّم والتعليم بنفخ الرُّوح فيه، وهو الذي لم تكن تعلمه الملائكة، ولا إبليس بالتالي، وعلم إبليس به الآن إلى جانب علمه سابقًا بخلافة آدمَ في الأرض، وقد كان لهذا وقعٌ شديد على نفسه الحقودة بزيادة حقده على آدم، كما علم إبليس أن استخدام بني آدم لهذا التميز في عبادة الله سيكونُ هو العاصمَ لهم من الغواية؛ ولذلك استثنى إبليس - في قَسَمه لله بغوايتهم أجمعين - الشاكرين والمخلِصين منهم، ﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 16، 17]، ﴿ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾ [الحجر: 39، 40]، ﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾ [ص: 82، 83].   وفي هذا الموقف اكتشف آدمُ التميُّز الذي امتاز به حتى على الملائكة، وهذه ضرورة لمعرفة الذات في تكوين شخصيته، التي بها يحقق الخلافة التي أُوكِلَتْ إليه.   وبعد هذا الموقف انتهى دور الملائكة عند هذا الحد، وبدأ التركيز على دور إبليس، بل أدوار إبليس؛ ليشاهد آدم ويسمع، ونسمع معه ونشاهد بالبصيرة ما يلي: (3) سؤال الله لإبليس عن سبب عدم سجوده لآدم. ﴿ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ﴾ [الأعراف: 12]. ﴿ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ﴾ [الحجر: 32]. ﴿ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ ﴾ [ص: 75].
هنا وجَّه الله توبيخه إلى إبليس: ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي؟ أستكبرت عن أمري أم كنت من العالين الذين لا يخضعون؟ ولكن لماذا هذا التوبيخ لإبليس على مسمع ومشهد من آدم؟ هل هناك ضرورة لسماع ومشاهدة آدمَ لذلك؟ لننتظر ونرقب الأحداث التالية؛ لعلنا نصل إلى إجابة مقنعة لنا. جاء رد إبليس.   (4) تبرير إبليس لعدم سجوده لآدم. ﴿ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴾ [الأعراف: 12]. ﴿ قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ﴾ [الحجر: 33]. ﴿ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ﴾ [الإسراء: 61]. ﴿ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴾ [ص: 76].   لقد برَّر إبليس عدم سجوده لآدم بأنه خير منه؛ لأن آدمَ مخلوق مِن طين، وفي الآية الأخرى: مِن صلصال مِن حمأ مسنون، وهي من نفس مادة الطين، وهذا ما عرَفه إبليس من قبل من إخبار الله للملائكة في قوله: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ﴾ [الحجر: 28]، ﴿ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ﴾ [ص: 71]، وقد قالت الملائكةُ بناءً على ذلك: إنه سيُفسِد في الأرض، ويسفِك الدماء ﴿ ...
قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ...
[البقرة: 30]، ومِن هنا جاءت غَواية الله لإبليس، فظن أنه خير من آدم؛ لأنه مخلوقٌ مِن مادة أخرى، وهي النار، وتجاهل إبليس ما في آدم من تميُّز بنفخ الله فيه مِن رُوحه. لقد كان رد إبليس فيه استعلاء وتكبُّر وتحقير وإهانة لآدم، إنه الحسد ينضح مِن هذا الرد. هذا الرد القبيح الذي يصدر عن الطبيعة التي تجردت من الخير كله في هذا الموقف المشهود. ولكن لماذا هذا الرد بهذا الشكل وآدمُ يسمع ويرى؟ لقد كان تقديرُ الله لذلك؛ حتى يدركَ آدمُ عداوةَ إبليس له، وإن لم يذكر الله له ذلك مباشرة. هنا صدر الأمر الإلهي العالي بطرد هذا المخلوق المتمرد القبيح.   (5) صدور الأمر من الله لإبليس بطرده من الجنة. ﴿ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ﴾ [الأعراف: 13]. ﴿ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ﴾ [الحجر: 34، 35]. ﴿ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ﴾ [ص: 77، 78].
لقد جاء ردُّ المولى عز وجل على إبليس مزلزِلًا؛ إنه الخروج من الجنة، أو الخروج من رحمة الله، ولعنة الله عليه إلى يوم القيامة، والصَّغَار له بين خَلْقه. مذلة هذه؟! وأي احتقار هذا؟! إنه الرد من جنس العمل، لقد تكبر على آدم، ونظر إليه باحتقار أيُّ وصَغار. لماذا جاء رد الله مزلزِلًا بهذه القوة على إبليس؟ لقد جاءت إرادةُ الله قاضية على كل أمل لإبليس في رحمته، وبذلك لم يعُدْ أمام إبليس من عمل خير له على الإطلاق، لا مجال أمامه سوى الشر. ولكن ما هو ميدان عمله لهذا الشر؟ لقد اختار إبليسُ ميدانَ عمله، اختار آدمَ وذريته؛ فقد زاد حنَقُه على آدمَ، وهذا ما سنراه لاحقًا. ولكن ما خطة إبليس لتنفيذ ذلك؟ وما الذي سيفعله؟ سنرى.   (6) طلَبَ إبليسُ مِن ربه أن يُنظِرَه إلى يوم القيامة. ﴿ قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [الأعراف: 14]. ﴿ قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [الحجر: 36]. ﴿ قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 62]. ﴿ قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [ص: 79].
طلب إبليس من ربه أن يؤخره ولا يميتَه إلى يوم بعث آدم وذريته من القبور، وهو وقت النفخة الثانية عند قيام الساعة، وقد أراد بذلك النجاةَ مِن الموت وهو يعلمُ أن الذي يطلبه لا يقعُ إلا بإرادة الله وقدره، ولكن لماذا؟ لقد أراد إبليس بذلك أن يجد فسحة من الإغواء لبني آدم. إن هذا الشِّريرَ العنيد لا ينسى أن آدم هو سبب الطرد والغضب، ولا يستسلم لمصيره البائس دون أن ينتقم، ثم ليؤدي وظيفته وفق طبيعة الشر التي تكونت فيه، فهو الإصرار المطلق على الشر، والتصميم المطلق على الغَواية. هنا تتكشف خصائص طبيعة إبليس، شر ليس عارضًا ولا وقتيًّا، إنما هو الشر الأصيل العامد القاصد العنيد، إنه الدور الذي خُلِق مِن أجله، التربص ببني آدم لغَوايتهم.   (7) استجابة الله لإبليس بإنظاره إلى الوقت المعلوم. ﴿ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ﴾ [الأعراف: 15]. ﴿ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ﴾ [الحجر: 37، 38]. ﴿ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ﴾ [ص: 80، 81]. لقد استجاب الله لملتمَس إبليس بكل وضوح؛ لتتحقق إرادته سبحانه وتعالى بأن يكون للإنسان قرين يُضِلُّه ويُغْويه: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 27]، فهذه سنَّتُه في خَلْقه؛ فمشيئة الله - سبحانه - اقتضت أن يترك الكائن البشري يشق طريقه، بما ركَّب في فطرته مِن استعداد للخير والشر، وبما وهَبه مِن عقل مرجح، وبما أمده من التذكير والتحذير على أيدي الرسل، ومن الضبط والتقويم بهذا الدين، كما اقتضت أن يتلقى الهداية والغَواية، وأن يصطرع في كِيانه الخير والشر، وأن ينتهيَ إلى إحدى النهايتين، فتحق عليه سنَّة الله، وتتحقق مشيئته بالابتلاء، سواء اهتدى أو ضلَّ، فعلى سنَّة الله الجارية وَفْق مشيئته الطليقة، تحقق الهدى أو الضلال.   (8) قَسَم إبليس لله بإغواء بني آدم بكل السبل، إلا عبادَ الله المخلَصين والشاكرين. ﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 16، 17]. ﴿ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾ [الحجر: 39، 40]. ﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾ [ص: 82، 83].
لقد تحوَّل الحسد في نفس إبليس إلى حقد، وإلى تصميم على الانتقام، وإصرار على ملاحقة آدم وذريته مِن بعده، في كل حالة، وعلى إتيانه مِن كل صوب وجهة، وفي كل ساعة ولحظة، إنه يُقسِم بعزة الله ليغوين جميع الآدميين، لا يستثني إلا مَن ليس له عليهم سلطان، لا تطوعًا منه، ولكن عجزًا عن بلوغ غايته فيهم! وبهذا يكشِف عن الحاجز بينه وبين الناجين مِن غَوايته وكيده، والعاصمِ الذي يحول بينهم وبينه، إنه عبادةُ الله التي تخلِصهم لله، هذا هو طوق النجاة، وحبل الحياة.   وبذلك كشَف إبليسُ عن هدفه، ومنهجه، وطريقته في التعامل مع جميع الآدميين، إنها التزيين لهم في الأرض وغَوايتهم، فقد عرَف إبليس من قبلُ أن آدم مخلوق من الأرض، وأن تكوينه الأرضي هو المدخل إلى إغوائه وجعلِه يُفسِد في الأرض، كما قالت الملائكة: ﴿ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ﴾ [البقرة: 30].   إلا أن إبليس عرَف أيضًا أن آدمَ فيه نفخة مِن رُوح الله، ﴿ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴾ [الحجر: 29]؛ لذلك أدرَك أنه لن يستطيع غواية بني آدم في حالة اتصالهم بالله عن طريق هذه الرُّوح، فقرر قائلًا: ﴿ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾ [الحجر: 40]؛ أي: المتصلين بأرواحهم بالله.   ويتضح هنا مِن قول إبليس معرفتُه بدوره وحدود هذا الدور الذي حدده الله له في منظومة خَلْقه، فكان ردُّ إبليس وَفْق إرادة الله وتقديره، وهذا ما قرره الله بعد ذلك في رده على إبليس في قوله: ﴿ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴾ [الحجر: 41، 42].   ولكن لماذا كانت إرادة الله كشف إبليس هذا كله تحت نظر وسمع آدم؟ إنها إرادة الله وتقديره؛ ليعرِفَ آدمُ كلَّ هذا، ويستقر في قناعته عداوة إبليس له، وهذا ما سيعلنه له ربُّه لاحقًا، كما يعرف من الآن وذريته مِن بعده كيفية الخلاص مِن هذا العدو. لننتظر ونرقب الأحداث التالية.   (9) إعطاء الله المشيئة لإبليس للقيام بما توعد به آدم وبنيه، وبيان مصيره ومَن تبعه منهم. ﴿ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [الحجر: 41 - 43].
﴿ قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا ﴾ [الإسراء: 63 - 65]. ﴿ قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [ص: 84، 85].   هنا تأتي إرادةُ الله بإعطاء إبليسَ المشيئة بالقيام بكل ما يستطيع مِن غواية، ولكن مع الوعيد له ومَن يتبعه مِن بني آدم بجهنَّم، كما يبين الله عز وجل تعدُّد وسائل إبليس وجهوده في عمله لإضلال بني آدم. ولكن لماذا جاء هذا البيان مِن الله لإبليس معلَنًا على سمع آدم؟ إن هذا الرد موجه إلى إبليس، لكنه في الحقيقة بيان لآدم وذريته، بيان لطبيعة المعركة، مسارها ونهايتها، إنها المعركة إذًا بين الشيطان وأبناء آدم، يخوضونها على علم، والعاقبة مكشوفة لهم في وَعْد الله الصادقِ الواضح المبين، وعليهم تبعة ما يختارون لأنفسهم بعد هذا البيان، وقد شاءت رحمةُ الله ألا يدَعَهم جاهلين ولا غافلين.   (10) أمر الله إبليس بالخروج من الجنة للمرة الثانية. ﴿ قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [الأعراف: 18]. إن هذا هو الأمر الثاني لإبليس بالخروج من الجنة، ومن رحمة الله، بعد توعُّده بإغواء آدم وذريته، ولكن هذا الأمر كان مصحوبًا بتوعُّد الله لإبليس ومَن تبعه مِن ذرية آدم بدخول جهنم، وهذا فيه تحذير لآدمَ وذريته مِن اتباع إبليس.   ولكن لماذا جاء هذا التحذير لآدمَ في هذه المرة؟ في المرة الأولى لم يكن آدمُ قد تشكَّل في ذهنه عداوةُ إبليس له بشكل واضح، ولكن في هذه المرة مِن المؤكد أن آدم قد أدرك هذه العداوة من الأحداث السابقة، وهذا التحذير يزيد مِن إدراك آدم لهذه العداوة.   (11) بيان الله لآدم وزوجه بحقيقة الأمر (عداوة إبليس لهما) وتحذيره لهما. ﴿ فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى ﴾ [طه: 117 - 119]. هذا هو البيان الأول الواضح من الله لآدم في نهاية عمليات مشاهدات آدم واستماعه للأحداث السابقة؛ حيث توجه الله لآدم وزوجه مباشرة بالخطاب بقوله لهما: إن هذا الشيطانَ عدوٌّ لهما، وهي العداوة التي جُبِل عليها إبليسُ لآدم.   كما حذرهما ربُّهما مِن إبليس بأنه سيكون السببَ في إخراجهما من الجنة، والشقاء بالخروج منها؛ باتباع غَوايته، بعد الهناء فيها بعدم الجوع والتعري، والظمأ والحر.   وهنا بيان أوَّليٌّ لآدم بمنهج الحياة، وطبيعة الطريق فيها. الحلقة التالية.



شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن