أرشيف المقالات

اسم الله الرحمن

مدة قراءة المادة : 18 دقائق .
2اسم الله الرحمن   مَن تأمَّل هذا الاسمَ الكريم أثمر ذلك في قلبه أمورًا عظيمة، ومنها: أولًا: الحب: فقد جبلَتِ النُّفوس على حبِّ مَن أحسن إليها، وكيف لا يحبُّ الإنسانُ مَن أفاض عليه رحمتَه وعطفه، ومنَّته وفضله، ومَن هو أرحم به من أمِّه؟ جاء في الصَّحيح أنه قدِم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبيٍ، فإذا امرأة من السبي تَبتغي إذا وجدَت صبيًّا في السَّبي أخذَتْه فألصقَتْه ببطنها وأرضعَتْه، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((أترون هذه المرأة طارحةً ولدها في النَّار؟))، قالوا: لا واللهِ وهي تقدر على أن لا تطرَحه، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لَله أرحَمُ بعباده من هذه بولدها))[1].   ثانيًا: الرجاء وحسن الظن بالله: قال العزُّ بن عبدالسلام: "من عرف سعةَ رحمة الله كان حاله الرَّجاء"[2]، وفي الصَّحيح: ((قال الله تعالى: أنا عند ظنِّ عبدي بي))[3].   وفي الحديث عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم فيما يَحكي عن ربِّه عزَّ وجل: ((قال أذنب عبدٌ ذنبًا فقال: اللهمَّ اغفِر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا فعَلِم أنَّ له ربًّا يَغفر الذَّنبَ ويأخذ بالذنب، ثمَّ عاد فأذنب، فقال: أي رب اغفِر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنبًا فعلِم أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثمَّ عاد فأذنب فقال: أي رب اغفِر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا فعلِم أن له ربًّا يغفر الذنبَ ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئتَ فقد غفرتُ لك))[4].   وفي الحديث: ((أسرف رجلٌ على نفسه))، وفي رواية: ((لم يعمَل حسنةً قط))، ((فلمَّا حضره الموتُ أوصى بنيه، فقال: إذا أنا متُّ فأحرِقوني ثمَّ اسحقوني ثم اذروني في الرِّيح في البحر، فواللهِ لئن قدَر عليَّ ربي ليعذبني عذابًا ما عذَّبه به أحدًا، قال: ففعلوا ذلك به، فقال للأرض: أدِّ ما أخذتِ، فإذا هو قائم، فقال له: ما حملك على ما صنعتَ، فقال: خشْيَتُك يا رب - أو قال: مَخافتك - فغفر له بذلك))[5].   وقد دخل حمَّادُ بن سلمة على الثَّوري، فقال سفيان: أترى أنَّ الله يَغفِر لمثلي، فقال حمَّاد: والله لو خيِّرتُ بين محاسبة الله إيَّاي وبين محاسبة أبوي لاخترتُ محاسبةَ الله؛ وذلك لأنَّ الله أرحَم بي من أبوي.   وممَّا يزيد العبد تعلُّقًا بربِّه وإحسانًا الظَّنُّ به أنَّ الله تعالى يشكر عملَ عبده مع قلَّتِه؛ بل ويغفر لصاحبه بسببه، وفي الحديث: ((بينما رجل يَمشي بطريق اشتدَّ عليه العطش، فوجد بئرًا فنزل فيها فشرب، ثمَّ خرج فإذا كلب يلهثُ يأكل الثَّرى من العطَش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ منِّي، فنزل البئرَ فملأ خفَّه ماء ثمَّ أمسكه بفيه حتَّى رقى، فسقى الكلبَ فشكر اللهُ له فغفر له))، قالوا: يا رسولَ الله، وإنَّ لنا في هذه البهائم لأجرًا، فقال: ((في كلِّ كَبد رطبة أجرٌ))، وفي لفظ: ((أنَّ امرأة بغيًّا رأَتْ كلبًا في يوم حار يطيف ببئر قد أدلع لسانه من العطش، فنزعَت له بموقها، فغفر لها))[6].   وفيه: ((كان على الطَّريق غصن شجرة يؤذي النَّاسَ، فأماطها رجلٌ فأُدخل الجنَّة))[7]. وفيه: ((كان تاجر يداين النَّاسَ، فإذا رأى معسِرًا قال لفتيانه: تجازوا عنه لعلَّ الله أن يتجاوز عنَّا، فتجاوز اللهُ عنه))[8].   وإنَّ من حُسن الظنِّ بالله أن نرى البلاءَ رحمة ونِعمة، فكم من مِحنة محَّصَتِ الذُّنوبَ ونبَّهتْ من الغفلة وذكَّرت بالنِّعمة! وكم من مِحنة أصبحَتْ محنة؛ أعادَتْ إلى الله، وأنقذت من شرك الشيطان: إذا سرَّ بالسراء عمَّ سرورها وإن مسَّ بالضراء أعقَبَها الأجرُ وما منهما إلَّا له فيه نعمة تضيق بها الأوهام والبَرُّ والبحر   فإذا أصابك البلاءُ فهو رحمة، وقد سمَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم الطاعونَ رحمةً، فعن عائشة رضي الله عنها أنها سألَت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الطَّاعون، فأخبرها صلى الله عليه وسلم: ((أنه كان عذابًا يبعثه الله على من يشاء، فجعله الله رحمةً للمؤمنين؛ فليس من عبدٍ يقع الطَّاعون فيمكث في بلده صابرًا يَعلم أنَّه لن يصيبه إلَّا ما كتَب اللهُ له إلَّا كان له مثل أجر شهيد))[9].   ولو لم يكن في البلاء إلَّا تكفير الذُّنوب لكفى في كونه رحمة وفضلًا، وفي الحديث: ((ما يصيب المسلِمَ من نصَبٍ ولا وَصَبٍ، ولا همٍّ ولا حزنٍ، ولا أذًى ولا غمٍّ، حتى الشَّوكة يُشاكها إلا كفَّر الله بها من خطاياه))[10]، وفيه: ((ما من مصيبة تصيب المسلمَ إلَّا كفَّر الله بها عنه حتى الشَّوكة يُشاكها))[11]، وفي الترمذي: ((ما يزال البلاءُ بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولدِه ومالِه، حتى يلقى اللهَ وما عليه خطيئة))[12].   وقد يرى العبد الأمرَ شرًّا وهو خير له؛ كما رأى موسى فعْلَ الخضر شرًّا فكان خيرًا.   ثالثًا: الحياء: إنَّ التأمُّل في إحسان الله ورحمتِه يورث العبدَ حياءً منه سبحانه وتعالى، فيَستحي العبد المؤمن من خالقه أن يعصيه، ثمَّ إن وقع في الذَّنب جهلًا منه استحيا من الله بعد وقوعه في الذَّنب؛ ولذا كان الأنبياء يَعتذرون عن الشَّفاعة للنَّاس بذنوبهم خوفًا وخجلًا، وإنَّ هذا لأمرٌ قَلَّ مَن يَنتبه له؛ بل قد يظن كثير من الناس أنَّ التوبة والعفو قد غَمَرا ذنوبَه فلا يلتفت إلى الحياء بعد ذلك. كان الأسود بن يزيد يَجتهد في العبادة والصَّوم حتى يصفرَّ جسده، فلمَّا احتضر بكى، فقيل له: ما هذا الجزع؟ فقال: ما لي لا أجزع، والله لو أُتيتُ بالمغفرة من الله لأهمَّني الحياء منه ممَّا قد صنعتُ، إنَّ الرجل ليكون بينه وبين آخر الذَّنب الصغير فيعفو عنه فلا يزال مستحييًا منه. و((الله أحقُّ أن يُستحيا منه من الناس))[13].   رابعًا: رحمة الخلق: ومَن استشعر رحمةَ الله تعالى وشاهَد ذلك بقلبٍ صادقٍ أفاض على قلبه رحمةَ الخلق؛ ولذا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم أرحمَ الخَلْق بالخلق، وسمَّاه ربه رحيمًا فقال تعالى: ﴿ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128].   وقد أبصر الأقرعُ بن حابِس النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقبِّل الحسَنَ، فقال: إنَّ لي عشرةً من الولد ما قبَّلتُ واحدًا منهم، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّه مَن لا يَرحم لا يُرحم))[14].   ولما قدِم ناسٌ من الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: أتقبِّلون صبيانَكم؟ فقالوا: نعم، فقالوا: لكن واللهِ ما نُقبِّل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وأملِك إن كان الله نزَع منكم الرَّحمةَ؟))[15].   وتتبيَّن آثار رَحمته صلى الله عليه وسلم حينما رأى ابنَه إبراهيم وهو يصارِع سَكرات الموت، قال أنس: لقد رأيتُه وهو يَكيد بنفسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدمعَتْ عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((تدمع العينُ ويحزَن القلبُ، ولا نقول إلَّا ما يَرْضَى ربَّنا، واللهِ يا إبراهيم إنَّا بك لَمحزونون))، وفي رواية البخاري: فجعلَتْ عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان، فقال له عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسولَ الله؟ فقال: ((يا ابنَ عوف إنَّها رحمة))[16].   وقد حثَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على الرَّحمة؛ بل وجعلها سببًا لرَحمة الله تعالى، وجعل مَن نُزِعتْ منه الرَّحمة شقيًّا، فقال صلى الله عليه وسلم: ((مَن لا يرحَم النَّاسَ لا يرحمه الله عزَّ وجل))[17]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا تُنزع الرَّحمة إلا من شقي))[18]، وكان ابنٌ لبعض بنات النبيِّ صلى الله عليه وسلم يقضي، فأرسلَتْ إليه أن يأتيها فأرسل: ((إنَّ لله ما أخَذ وله ما أَعطى، وكلٌّ إلى أجَلٍ مسمًّى؛ فلتصبِر ولتحتَسِبْ))، فأرسلَتْ إليه فأقسمَت عليه، فقام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ومعه أسامة ومعاذ بن جبل وسعد بن عبادة، فلمَّا دخل ناولوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم الصَّبيَّ ونفسه تقعقع في صدره، فبكى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقال سعدُ بن عبادة: أتبكي؟ فقال: ((هذه رَحمة جعَلَها الله في قلوب عباده، وإنما يَرحمُ الله من عباده الرُّحماء))[19]، وفي الترمذي: ((الرَّاحمون يَرحمهم الرَّحمن، ارحموا مَن في الأرض يَرحمكم مَن في السماء))[20].   قال الطيبي: "أتى بصيغة العموم ليشمل جميعَ أصناف الخَلْق، فيرحم البَرَّ والفاجر، والنَّاطِقَ والبهم، والوحوش والطير"[21].   (رحمة تغيب عن كثير من الأذهان): ومن الرَّحمة التي تغيب عن كثيرٍ من الأذهان رحمة عمومِ الخلق؛ مسلِمِهم وكافرهم، قال ابن تيمية في أهل البِدَع: "ومن وجهٍ آخر، إذا نظرتَ إليهم بعين القدَر - والحيرة مستولية عليهم، والشيطان مستحوذ عليهم - رحمتَهم ورفقتَ عليهم، وأوتوا ذكاءً وما أوتوا زكاءً، وأعطوا فهومًا وما أعطوا علومًا، وأعطوا سمعًا وأبصارًا وأفئدة، ﴿ وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [الأحقاف 26][22].   وقال ابن القيم: وانظر بعينِ الحكمِ وارحمهم بها إذ لا تُردُّ مشيئة الدَّيَّانِ وانظر بعينِ الأمرِ واحملهم على أحكامِه فهما إذًا نظرانِ واجعل لقلبك مقلتَين كلاهما من خشية الرَّحمن باكيتانِ لو شاء ربُّك كنتَ أيضًا مثلهم فالقلب بين أصابِع الرَّحمن   (تنبيهان): وختامًا: للتأمُّل في هذا الاسم الكريم لا بدَّ من التنبيه على أمرين؛ أولهما: أنَّ رحمة الله الخاصَّة إنما تَحصل بطاعة الله واتِّباع مَرضاته، فالله عزَّ وجلَّ يقول: ﴿ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الأعراف: 56].   وليس لِمن عصى الله أن يتعلَّق باسمه الرحمن ليستمرَّ في العصيان، فالله تعالى يقول: ﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ ﴾ [الحجر: 49، 50]، وقد حجَّ عمر بن عبدالعزيز مع سليمان بن عبدالملك، فأصابهم بَرْق ورعدٌ كادت تَنخلع له قلوبُهم، فقال سليمان: هل رأيتَ مثل هذه الليلة قط أو سمعتَ بها؟ قال: يا أمير المؤمنين، هذا صوتُ رحمةِ الله، فكيف لو سمعتَ صوتَ عذاب الله؟ وفي الحديث: ((لو يَعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طَمع بجنَّته أحدٌ، ولو يَعلم الكافرُ ما عند الله من الرَّحمة ما قنط من جنَّته أحد))[23].   ثانيهما: أنَّ ما ذكر من آثار وتأمُّلات في هذا الاسم الكريم إنَّما هي قَطرةٌ من بحر، وزهرة من بستان، فلو سوِّدَتِ الدَّفاتر الأوراق كلها لما أدركَتْ جميعَ ما في هذا الاسم من الأسرار والمعاني، وهكذا كلُّ اسم من أسماء الله تعالى، وإنما هي فتوحات يفتح الله بها لكلِّ عبد بحسبه، ولو اجتمعَتْ فتوحاتُ الخلق جميعًا لما أدركوا جميعَ ما في كلِّ اسمٍ من أسماء الله تعالى.


[1] رواه البخاري (5999)، ومسلم (2754). [2] مختصر الفوائد في أحكام المقاصد (203، 204)، وانظر: شجرة المعارف والأحوال (83). [3] رواه البخاري (7505)، ومسلم (2675). [4] رواه البخاري (7507)، ومسلم (2758). [5] رواه البخاري (7506)، ومسلم (2756). [6] رواه مسلم (2244، 2245)، وروى البخاري قصة البغي (3321). [7] رواه ابن ماجه (3682)، وصحَّحه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (2969). [8] رواه البخاري (2078)، ومسلم (1562). [9] رواه البخاري (5734). [10] رواه البخاري (5641، 5642)؛ واللفظ له، ومسلم (3573).
[11] رواه البخاري (5640)، ومسلم (2572). [12] رواه الترمذي (2399)، وقال: "حديث حسن صحيح"، والحاكم (4 / 314)، وقال: "حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، وأقرَّه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1957). [13] هو قطعة من حديث رواه أبو داود (4017)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود (3391). [14] رواه البخاري (5997)، مسلم (2318). [15] رواه البخاري (5998)، مسلم (2317). [16] رواه البخاري (1303)، مسلم (2315). [17] رواه البخاري (7376)، ومسلم (2319) واللفظ له.
[18] رواه الترمذي (1923)، وقال: "حديث حسن"، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1568). [19] رواه البخاري (7377)، ومسلم (923). [20] رواه الترمذي (1924) وقال: "حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1569)، والسلسلة الصحيحة (925). [21] تحفة الأحوذي (6 / 51). [22] الفتوى الحموية (553)، وانظر كلامًا جميلًا عن ذلك في "مدارج السالكين" (1 / 459). [23] رواه البخاري (6464) بلفظ مقارب، ومسلم (2755) واللفظ له.




شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣