أرشيف المقالات

الغبطة في الأخلاق لا في الأرزاق

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
2الغبطة في الأخلاق لا في الأرزاق   إنَّ الحمدَ لله تعالى نحمَده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهدِه الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمَّدًا عبدُه ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومَن تبِعَه بإحسان إلى يوم الدين.   بين يدي المقال: كثيرٌ من الناس مَن يعيش في همٍّ وغمٍّ لِما في أيدي الناس من مال ومتاع الدنيا، وتراهم يتمنَّون أن يكونَ لديهم ما عند غيرهم. وقد يكون هؤلاء المُترَفون الذين تمنَّى هؤلاء ما عندهم - مِن شرِّ خلق الله، وبالتالي فعند الله من الأرزاق ما هو خير من الدنيا وما فيها.   يقول المتنبي: ذلَّ مَن يَغبِطُ الذَّليلَ بعيشٍ ♦♦♦ رُبَّ عَيشٍ أَخَفُّ منه الحِمَامُ المفردات: يغبط: غبَط؛ أي: تمنَّى مثلَ ما له من النعمة. الذليل: المُهان. رُب: حرف جرٍّ يفيد التقليل. الحِمَامُ: قضاء الموت وقدره.   المعنى: قد تجد مِن الناس مَن تفضَّل اللهُ عليه بالمال والمتاع، والغنى والثَّراء، والعيش الرَّغيد؛ لكن قد تجد هؤلاء حُرموا من جميل الأخلاق والصفات؛ كالكرم، والعزِّ، والشرف، وحتى الدين. فلربما تمنَّى العبدُ الضعيف ما لهؤلاء من متاعٍ، وقال كما قال الله تعالى فيمن ذكر من قوم موسى عليه السلام لمَّا رأَوا قارونَ وزينتَه من الخدم والعز والحشم: ﴿ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [القصص: 79]، وفي الحقيقة هو ذو حظٍّ عظيم من مَقْتِ الله وغضبه وعذابه، وقد خسف اللهُ به الأرضَ فهو يتجَلجَلُ فيها إلى يوم القيامة، فهذا التمنِّي جهلٌ من هؤلاء بحقيقة الأمور، والجهل يقود للذُّلِّ والمهانة؛ ففي الحقيقة أن حِمْلَ هؤلاء وثِقَلَ ما هم فيه من المهانة - رغم غناهم وثرائهم - هو أشد من الموت؛ فَغُصَّةُ الموت أهونُ من غصة الذل.   الفوائد: 1- قال الله تعالى: ﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [المؤمنون: 55، 56].   أيحسب هؤلاء - من الكفرة والفجرة والمنعَّمين والمترفين - أنما نعطيهم من أموالٍ وأولاد ومتاع هو لمحبَّتِنا لهم ولفضلهم عندنا؟! كلا، فقد أخطؤوا في ذلك؛ بل نفعل بهم ذلك استدراجًا لهم وإملاء؛ ليزدادوا عُتُوًّا وفسادًا، ثم نأخذهم أخذَ عزيزٍ مقتدر.   2- لا يتمنى المسلم حياةَ وعَيشَ الكفرة والفجرة؛ فهذه مذلة له، فعزُّه بين يديه، فيكْفِيه الإسلام والإيمان عزًّا وشرفًا؛ قال الله تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [المنافقون: 8]، فهي لهم وليست لغيرهم.   3- قد يخفِّف العبدُ من حِدَّةِ فَقْرِه وما هو فيه من مِحنٍ وشدائدَ بذكرِ الموت الذي يتساوى فيه كلُّ الناس؛ فلا عيش إلا عيشُ الآخرة.   4- ضرورة الإيمان بقدر الله وقضائه، وأن الله أعطى هذا ومنع هذا لحكمةٍ اقتضت ذلك، ولا يعلمها إلا هو؛ قال الله تعالى: ﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [الزخرف: 32]، فقد يعطي الكافرَ والفاجرَ، ويحرِم المؤمن والتَّقيَّ.   الوصية: • فنعم الله كثيرة، وهي ليست محصورةً في المال، والحسب والنسب، ورَغَدِ العيش؛ بل قد تكون فيما هو خير وأبقى من الأرزاق: الدين، والعلم، ومكارم الأخلاق؛ فمعظمُ أنبياء الله عاشوا عيشَ الكَفَافِ؛ ولكن كانوا على خُلُقٍ عظيم، فاصطفاهم الله واجتباهم، ولنعيم الآخرة هداهم.   • بجميلِ الأخلاق تعمُر الديار ولو كان أهلُها فقراء؛ عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: ((صلةُ الرحم، وحُسن الخُلُق، وحسن الجِوار: يعمرن الديار، ويزِدْن في الأعمار))؛ رواه أحمد (6/ 159) (25298)، وحسَّنه السيوطي في (الجامع الصغير) (5001)، وصحَّح إسناده الألبانيُّ في (السلسلة الصحيحة) (519) - رحمهم الله.   اللهمَّ اهدنا لأحسن الأخلاق؛ لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرفْ عنا سيِّئَها؛ لا يصرفُ عنا سيئها إلا أنت. اللهم ارزقنا علمًا نافعًا، وقلبًا خاشعًا، وعملًا متقبَّلًا.



شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير