أرشيف المقالات

وجل القلب

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
2وجل القلب
معنى الوجل: الوجل: لغة: الخوف والفزع، ويقال: وَجَل وجَلًا، وفي الحديث: وعظنا موعظة وجلت منها القلوب، ووجلت توجل وتيجل[1]، ويقول الألوسي: قوله تعالى ﴿ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ أي خشعت استعظامًا لشأنه الجليل وتهيبا منه جل وعلا، والاطمئنان المذكور في قوله تعالى: ﴿ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28] [2] لا ينافي الوجل والخوف لأنه عبارة عن ثلج الفؤاد وشرح الصدر بنور المعرفة والتوحيد..
ووفق بعضهم بين الآيتين بان الذكر في إحداهما ذكر رحمة، وفي الأخرى ذكر عقوبة فلا منافاة بينهما) [3].   ومن هنا فإن الوجل إنما يكون في القلب وهو الخوف مع التعظيم ولا يكون إلا لله عز وجل .
قال تعالى ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ [الأنفال: 2][4]، فوجل القلب من أخص صفات المؤمنين؛ وإنما يكون عند ذكر الله تعالى؛ سواء كان المؤمن ذاكرًا لله تعالى أم ذكر الله تعالى عنده، إذ ليس كل من ذكر الله تعالى أو ذكر عنده لان قلبه، واقشعر جلده، وفاضت عيناه، وانتابته حالة من الخوف والرهبة، والتعظيم والإجلال والافتقار، ومع ذلك الرغبة والحب والرجاء، وخالط ذلك كله الرضا والسكينة والأمن والطمأنينة وسيطرت عليه المراقبة، والنظر في العواقب، وكان دائم الفكر في الموت، والقبر والحساب، والجنة والنار؛ فتلك بعض معاني الوجل، وهي حالة قلبية ونفسية تتحقق للمؤمن عند ذكر الله عز وجل.   وتتحقق حالة الوجل - أيضًا - عند التفكر في آيات الله - وهو أفضل أنواع الذكر- قال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 190، 191][5].   فإن النظر في خلق السماوات والأرض، للوقوف على عظمة الله تعالى وقدرته وحكمته، والتفكر في آيات الله الكونية كالنجوم والكواكب والمجرات وأفلاكها ومساراتها مما يبعث على وجل القلب، واعترافه بدقة وبراعة الصنع وإحسان الخلق وإتقانه، وهذا يبعث على زيادة الإيمان وحسن الطاعة، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم حينما يقوم في ثلث الليل الأخير، ينظر إلى السماء ويتفكر، ويقرأ تلك الآيات، ثم يتوضأ ويصلي حتى الصبح؛ فقد روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما[6] قال: بت عند خالتي ميمونة، فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة، ثم رقد.
فلما كان ثلث الليل الأخير قعد فنظر إلى السماء فقال (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات أولي الألباب) ثم قام فتوضأ واستن، فصلى إحدى عشرة ركعة، ثم أذن بلال فصلى ركعتين ثم خرج فصلى الصبح) [7]، وفي الحديث ثلاثة أمور تجدر الإشارة إليها: 1- القيام في الليل خصوصًا الثلث الأخير (التهجد). 2- التفكير والنظر في آيات الله الكونية والآيات القرآنية. 3- صلاة الفجر في جماعة المسجد. فهذه الأمور الثلاثة من أعظم العبادات التي يتقرب بها العبد إلى ربه، والتي تحدث الوجل في القلب استحضارًا واستشعارًا لعظمة الله عز وجل، ولعل الذكر في الخلوة، خصوصًا إذا كان في جوف الليل، وبعيدًا عن أعين الناس، ومجافاة المضاجع وترك الفرش والدفء مما يحدث الوجل في القلب ويزيد الإيمان؛ قال تعالى: ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [السجدة: 16، 17] [8]، فهؤلاء أخفوا العمل عن الناس؛ فأخفى الله لهم عظيم الجزاء.   ومن أهم علامات الوجل وأماراته الوقوف عند أوامر الله، والرجوع إلى طاعته والحذر من معصيته، قال تعالى ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 135] [9].   ومن علامات الوجل وأماراته كذلك البكاء من خشية الله تعالى، فقد بوب البخاري بابا سماه: "باب البكاء من خشية الله"، وروى فيه عن أبي هريرة[10] عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، رجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه) [11]، فالذي انشأ فيضان العين بالدمع هو ذكر الله تعالى والخلوة بعيدًا عن أعين الناس وهذا دليل الإخلاص، والتخلص من الرياء ومدح الناس..
أما الذكر فهو دليل تعلق القلب بالله عز وجل وبرهان المحبة والخوف..
وهو كما يقول ابن القيم (قوت قلوب القوم الذي متى فارقها صارت الأجساد لها قبورًا.
وعمارة ديارهم التي إذا تعطلت عنه صار بورا، وهو سلاحهم الذي يقاتلون به قطاع الطريق.
ودواء أسقامهم الذي متى فارقهم انتكست منهم القلوب.
والسبب الواصل، والعلاقة التي كانت بينهم وبين علام الغيوم.
به يستدفعون الآفات، ويستكشفون الكربات، وتهون عليهم به المصيبات.
إذا أظلهم البلاء، فإليه ملجؤهم، وإذا نزلت بهم النوازل، فإليه مفزعهم.
فهو رياض جنتهم التي فيها يتقلبون، ورؤوس أموال سعادتهم التي بها يتجرون، يحول القلب الحزين ضاحكًا مسرورًا..
وهو جلاء القلوب وصقالها ودواؤها إذا غشيها اعتلالها..
وبالذكر: يصرع العبد الشيطان، كما يصرع الشيطان أهل الغفلة والنسيان..
وهو روح الأعمال الصالحة؛ فإذا خلا العمل عن الذكر كان كالجسد الذي لا روح فيه..) [12]   وذكر الله تعالى ثلاثة أنواع - بينها ابن القيم - وهي: 1- ذكر الأسماء والصفات ومعانيها، والثناء على الله بها، وتوحيد الله بها. 2- ذكر الأمر والنهي، والحلال والحرام.. 3- ذكر الآلاء والنعماء والإحسان والأيادي؛ وأنه ثلاثة أنواع أيضًا: ذكر يتواطأ عليه القلب واللسان؛ وهو أعلاها، وذكر بالقلب وحده، وهو في الدرجة الثانية (أي النوع الثاني)، وذكر باللسان المجرد، وهو في الدرجة الثالثة[13] (أي النوع الثالث)..   ويقول ابن القيم: الذكر: على ثلاث درجات: 1- الدرجة الأولى: الذكر الظاهر: أي الجاري على اللسان المطابق للقلب، لا مجرد الذكر اللساني؛ فإن القوم لا يعتدون به، وهو إما ذكر ثناء: فنحو: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
وإما ذكر دعاء؛ نحو (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) [14]، و (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث) ونحو ذلك، وإما ذكر الرعاية؛ فمثل قول الذاكر: الله معي.
الله ناظر إلي.
الله شاهدي، ونحو ذلك مما يستعمل لتقوية الحضور مع الله، وفيه رعاية لمصلحة القلب. 2- الدرجة الثانية: الذكر الخفي: وهو الذكر بمجرد القلب وهو ثمرة الذكر الأول. 3- الدرجة الثالثة: الذكر الحقيقي: وهو ذكر الله لعبده بأن جعل عبده ذاكرًا له.
[15]   ومن هنا يتبين أن قوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) [16] يشير إلى ما يلي: 1- أن أسلوب الحصر في الآية يشير إلى أن المراد المؤمنون الكاملون في الإيمان[17]. 2- أن الآية الكريمة "تحريض على إلزام طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أمر به من قسمة الغنائم"[18]. 3- استجابة الصحابة رضي الله عنهم لحكم الله عز وجل ورضاهم وتخليهم عن مطالبتهم بالغنائم. 4- أهمية الذكر والتذكير بالله عز وجل عند التنازع وفي الشدائد وفي كل الأحوال. 5- أن وجل القلوب مرجعه إلى حب الله تعالى ومعرفته وتعظيمه؛ "وهو حال العارفين بالله؛ الخائفين من سطوته وعقوبته؛ لا كما يفعله جهال العوام والمبتدعة من الزعيق والزئير ومن النهاق الذي يشبه نهاق الحمير؛ فيقال لمن تعاطى ذلك وزعم أن ذلك وجد وخشوع: لم تبلغ أن تساوى حال الرسول ولا أصحابه في المعرفة بالله والخوف منه، والتعظيم لجلاله: ومع ذلك كانت حالهم عند المواعظ الفهم عن الله، والبكاء خوفًا من الله..
فمن كان مستنًا فليستن، ومن تعاطى أحوال المجانين فهو من أخسهم حالًا؛ والجنون فنون"[19]. هذا والعلم بالله تعالى والخوف منه ومداومة الذكر من أخص صفات الداعي إلى الله عز وجل، وباعث على الإخلاص والصدق في الدعوة، والتأثير في الناس.


[1] لسان العرب لابن منظور. [2] سورة الرعد (28). [3] روح المعاني بتصرف، ج5، ص465، المكتبة التوفيقية، تحقيق أبو عبد الله الرحمن فؤاد بن سراج عبد الغفار. [4] سورة الأنفال (2). [5] سورة آل عمران (190-191). [6] عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، ولد قبل الهجرة بثلاث سنين وهو حبر الأمة ويسمى البحر لغزارة علمه ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالحكمة مرتين، ترجمان القرآن ورباني هذه الأمة، توفى بالطائف سنة 68هـ وهو ابن إحدى وسبعين سنة. [7] فتح الباري، ج8، ص189. [8] سورة السجدة (16-17). [9] سورة آل عمران (135). [10] أبو هريرة: سبقت ترجمته. [11] فتح الباري، ج11، ص 261 باب البكاء من خشية الله. [12] مدارج السالكين، المجلد الثاني- المكتب الثقافي ضبط وتحقيق رضوان جامع رضوان، ص142. [13] مدارك السالكين، ج2، ص149. [14] سورة الأعراف (23). [15] المرجع السابق، ص 152. [16] سورة الأنفال (2). [17] روح المعاني- الألوسي، ج5، ص 465. [18] تفسير القرطبي، ج4، ص 2801، 2802. [19] المرجع السابق.



شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢