أرشيف المقالات

شاعر الإسلام

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
8 محمد عاكف بقلم الدكتور عبد الوهاب عزام - 1 - كنت أقرأ اسم محمد عاكف بين أعلام الأدب التركي الحديث، وكنت لا اعرف ألا طرفاً من أخباره وأشعاره.
فلما سافرت إلى استنبول منذ سبع سنين، وكان عاكف قد هاجر إلى مصر، عرفت من سيرته وأدبه ما حببه إلي وشاقني إلى لقائه.
فلما عدت إلى مصر بادرت إلى زيارته، وكان من سعادة الجد حينئذ أن ألفيته على مقربة مني في حلوان نازلاً في كنف الأمير عباس حليم باشا رحمه الله ذهبت إلى داره، فطرقت الباب رجل ناهز الستين اشمط ربعة قوي البنية، عليه سيما الحياء والتواضع.
وجلست فتحدثنا قليلاً، فافتتحنا عهداً من المودة المؤكدة والصداقة المخلصة وكان صديقي حيياً، نزر الكلام، كثير التفكر، طويل الصمت، نزاعاً إلى العزلة، نفوراً من المجامع؛ فتوفر حظي من لقائه والأنس به، قلما زرته فلم ألفه في داره وكان أنسه أن أزوره أو يزورني، فنفرغ للحديث نصرفه بين الماضي والحاضر، ونمزج فيه الجد بالفكاهة.
ونطوف به في أرجاء الأدب والتاريخ، ونتعرف بها أحوال المسلمين.
وكان إذا أنس بالمجلس انطلق في الحديث وتبسط واستزاد المحدث بحسن استماعه واهتمامه.
فإذا قاسمنا مجلسنا غيرنا صمت حياء أو انقباضاً، أو إصغاء أو إنكارا؛ فإذا سألته لأشركه في الحديث هز رأسه متجاهلاً، أو ابتسم أو أجاب موجزاً، ثم راجع صمته.
فإذا انفض المجلس أبدى لي رأيه مخالفاً أو موافقاً، ساخطاً أو راضياً وكان احب شيء إليه أن نلتقي في عشايا الصيف، فنطوف في حلوان نتعطف في شوارعها كما تتعطف بنا شجون الحديث، فلا ننتبه لمكاننا حتى نخرج من ابنيه المدينة فنرجع إليها، ويلهينا الحديث حتى ننتهي إلى طرفها الآخر.
وكان قوياً على المشي محباً له لا يذكر الدار ألا أن شكوت إليه التعب، فيشكني عائداً إلى داره أو داري لنقطع الحديث بشرب الشاي. وكم تحدثنا وقرانا في سيرنا وجلوسنا في الآداب الثلاثة: العربية والفارسية والتركية.
وكنت احب أن أقرأ عليه شعره؛ وكان يسره أن يستمع له.
وكانت كل أحاديثنا وقراءتنا متعة، نجتمع فيه على الفكر والذوق والأمل والألم.
وكان أطيب المجالس مجلساً نفزع فيه إلى شعر محمد إقبال.
وهو (رحمه الله) عرفني بإقبال يوم أعارني ديوانه (بيام مشرق) فإذا صفا الوقت عمدت إلى أحد كتب إقبال فقرأت واستمع مقبلاً مستغرقاً يقطع إنشادي في الحين بعد الحين بالاستعادة أو الاستحسان أو التعجب أو التأوه.
وشد ما كان يثير إقبال نفسه، أو يثلج صدره! وشد ما كان يحزنه أو يفرحه! وأذكر أننا بدأنا كتاب إقبال (أسرار خودي) فوالينا الجلسات حتى أنهيناه إنشادا، ثم اتبعنا به أخاه (رموزبي خودي) فختمناه على شوق إلى الإعادة وكنت عرفت أساتذة كلية الآداب بهذا الأديب الكبير، فاختاروه لتدريس التركية بها، فكان محبباً إلى الأساتذة والطلاب يأنسون به ويجلونه ويتوددون إليه - 2 - كرت على هذا الأيام، وعددنا فيه بضع سنين لا يكاد عاكف يغيب ثلاثة أيام لا أراه في حلوان أو كلية الآداب.
وكان قوياً صحيحاً مغتبطاً بالعافية، فلم يرعنا ألا أن بدا عليه الهزال والشحوب، وازداد به الانقباض والحزن، فإذا سألناه اخبرنا أن مرضاً قديماً عاوده.
وهو يطب له ويرجو الشفاء.
ثم بداً له أن يذهب إلى الشام يستمد العافية من السفر وتجديد الهواء، فعاد بعد شهرين وقد استفاد أن مرضه لم يزدد.
ثم تغير وتغير فأنكرنا حاله ورثينا له، وإذا الجسم القوى المضمور عظام تحت الثياب، ولكنا كنا نأمل له العافية، ونرتقب أن نغتبط به معافى متهللاً كما كان. وكان سفري إلى العراق، فتركته راجياً أن ينجده الطب فيسترد عافيته ونضرته، وتطول سعادة أصدقائه وغبطة الأدب به.
وكتبت إليه من بغداد فلم اظفر بجواب، ولم يكن ذاك من دأبه.
فالتمست له عذرا من المشاغل وتمنيت ألا يكون المرض شغله عن رجع الخطاب، ثم علمت أنه سافر إلى استنبول وأن حاله لا تبشر بالرجوع إلى مصر. - 3 - رجعت إلى حلوان افتقد زوراته بالنهار والليل، وأندب غدواتي وروحاتي إليه، ممسكاً بكتاب أو معداً الحديث، وأتذكر مجالس عزت علي من بعده، ومن لي بعد عاكف بمجالسه؟ وعلمت أواخر الصيف الماضي أن صاحبنا لما به، وأن داءه قد استفحل، وغلب اليأس الأمل.
ثم انقطعت الأخبار، وطال الانتظار، وأرجفت الأنباء، ولم نظفر من الأمر بيقين.
والتمسنا أخباره بالبريد والبرق فلم نستقر على نبأ ثم طلعت جرائد مصر بالنعي، وترادفت جرائد تركيا بخبره، ولكن بالحسرة والرثاء، وبصورته ولكن في ساعاته الأخيرة، وبمشهده، ولكن محمولاً على الأعناق، وبالخبر اليقين! ولكن في بطن الثرى. فإلى رحمة الله التقي النقي، وفي ذمة الله الأديب الألمعي وفي رضوان الله (شاعر الإسلام) (للكلام بقية) عبد الوهاب عزام

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣