أرشيف المقالات

التولي يوم الزحف

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
2التولي يوم الزحف
معنى التولي: ولَّى الشيء وتولى: أدبر، وولى عنه: أعرض عنه أو نأى[1]. وعدم التولي- كما سيتبين - هو عدم التولي يوم الزحف، وعدم التولي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعدم التولي عن الجهاد.   • عدم التولي يوم الزحف: قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ ﴾ [2]. هذا هو أول نداء في السورة الكريمة (يا أيها الذين آمنوا)؛ وما من شك أن الخطاب هنا ليس خاصًا بغزوة بدر؛ لأن السورة الكريمة نزلت في أعقاب الغزوة وبعد الحصول على الأنفال، لذا فهو خطاب عام، ووصية من الله تعالى للمؤمنين إلى يوم القيامة، يقول الإمام الألوسي: (والحقيقة أنه خطاب للمؤمنين بحكم كلي جار فيما سيقع من الوقائع والحروب جئ به في تضاعيف القصة إظهارًا للاعتناء به وحثًا على المحافظة عليه) [3]، وعلى هذا فإن التولي يوم الزحف حرام على المسلمين في دين الله عز وجل ، وهو كبيرة من الكبائر كما جاء في الحديث؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: وما هن يا رسول الله؟، قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات"[4]، وهذا هو الحكم الأول فيما يتعلق بالتولي يوم الزحف.   الحكم الثاني: إذا زاد العدو على الضعف فيجوز الثبات، ويباح الفرار؛ جاء في الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: (أمر الله عز وجل في هذه الآية ألا يولى المؤمنون أمام الكفار، وهذا الأمر مقيد بالشريطة المنصوصة في مثلى المؤمنين- (كما في قوله تعالى: ﴿ الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾[5]، فإذا لقيت فئة من المؤمنين فئة هي ضعف المؤمنين من المشركين، فالفرض ألا يفروا أمامهم؛ فمن فر من اثنين فهو فار من الزحف، ومن فر من ثلاثة فليس بفار من الزحف، ولا يتوجه إليه الوعيد، والصبر أحسن.
وقد وقف جيش مؤتة وهم ثلاثة آلاف في مقابلة مائتي ألف..
وقد وقع في تاريخ الأندلس أن طارقًا مولى موسى ابن نصير سار في ألف وسبعمائة رجل إلى الأندلس، فالتقى وملك الأندلس لزريق، وكان في سبعين ألف عنان؛ فزحف إليه طارق وصبر له، فهزم الله الطاغية لزريق وكان الفتح) [6]، إن المسلمين لم ينتصروا في غزواتهم ولا في حروبهم بكثرة عدد ولا عدة، ولكن الله تعالى نصرهم بإيمانهم وثباتهم مع قلة عددهم وعتادهم؛ قال تعالى ﴿ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [7]، لكن الثبات والصبر له قيود وضوابط منها ما جاء في أحكام القرآن للإمام الجصاص: (وفي الآية إيجاب فرض القتال على الواحد لرجلين من الكفار؛ فإن زاد عدد الكفار على اثنين فجائز حينئذ للواحد التحيز إلى فئة من المسلمين فيها نصرة، فأما إن أراد الفرار ليلحق بقوم من المسلمين لا نصرة معهم فهو من أهل الوعيد المذكور في قوله تعالى: ﴿ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ﴾ [8]، وقال عمر بن الخطاب لما بلغه أن أبا عبيد بن مسعود استقتل يوم الجيش حتى قتل ولم ينهزم: رحم الله، أبا عبيد لو انحاز إلى لكنت له فئة: فلما رجع أصحاب أبي عبيد قال: أنا فئة لكم، ولم يعنفهم، وهذا الحكم- عندنا- ثابت مالم يبلغ عدد جيش المسلمين اثني عشر ألفًا لا يجوز لهم ان ينهزموا عن مثليهم إلا متحرفين لقتال، وهو أن يصيروا من موضع إلى غيره مكايدين لعدوهم من نحو خروج من مضيق إلى فسحة أو من سعة إلى مضيق أو يكمنوا لعدوهم ونحو ذلك مما لا يكون فيه انصراف عن الحرب، أو متحيزين إلى فئة من المسلمين يقاتلونهم معهم.
فإذا بلغوا اثني عشر ألفًا فليس لهم أن يفروا من عدوهم وإن كثر عددهم..
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الصحابة أربعة، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولا يغلب اثنا عشر ألفًا من قلة" وفي بعضها: "إذا اجتمعت كلمتهم"[9]، وأن مالكا سئل فقيل له: أيسعنا التخلف عن قتال من خرج عن أحكام الله وحكم بغيرها؛ فقال له مالك: إن كان معك اثنا عشر ألفًا مثلك لم يسعك التخلف وإلا فأنت في سعة من التخلف) [10]،[11]. إن المؤمن ليس بمتخاذل وعليه أن يظهر شجاعة وإقدامًا، وأن يعلم المشركين أنه لا يهاب الموت بل يحرص عليه كما يحرص أعداؤه من المشركين على الحياة؛ فلا يجب عليه أن يفر من اثنين أما فوق ذلك فله أن يفر وله أن يصبر ويستعين بالله.   الحكم الثالث: أنه يجوز التولي إذا كان خدعة أو مناورة، أو لاتخاذ موقع جديد أو غير ذلك من أجل مصلحة قتالية أو غاية حربية تقتضيها ظروف المعركة؛ قال تعالى ﴿ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ ﴾ [12]. جاء في أحكام القرآن للقرطبي: (فالمنحرف من جانب إلى جانب لمكايد الحرب غير منهزم، وكذلك المتحيز إذا نوى التحيز إلى فئة من المسلمين ليستعين بهم فيرجع إلى القتال غير منهزم أيضًا[13]، أما المغامرة وهي اقتحام الواحد للعشرة أو أكثر فإن كان لكسر شوكة المشركين وإضعاف نفوسهم فقد جوزه البعض[14].   لماذا النهي عن التولي يوم الزحف؟ إن الإسلام دين العزة والكرامة، ولا يرضى الذلة والمهانة؛ والمؤمن قوي بإيمانه، واثق بربه ويحب لقاءه، فكيف يعطي ظهره لحقير كافر؟ إن الموت في سبيل الله ونيل الشهادة غاية ما يتمناه المؤمن، فلماذا يهاب الموت أو الجراح، ويولى دبره لجبان كافر يحرص على الحياة ويهاب الموت؟ إن التعبير القرآني يوضح ويرسم صورة بشعة لمن يفعل ذلك (فلا تولوهم الأدبار)؛ والأدبار: جمع دبر، وهو ضد القبل، والدَّبَرة: الهزيمة في القتال، ودابرهم: آخرهم[15]؛ والعبارة بالدبر هنا متمكنة الفصاحة، لأنها تحمل معنى العار والشنار؛ وهذا ما لا يليق بالمسلم؛ لأنه أشرف له وأكرم أن يواجه الموت بصدره وقلبه، ولا يعطي للكافر ظهره أو دبره ولو أدى إلى قتله.   وتولية الدبر دليل الخور والتفكك والضعف، وهذا ما لا يرضي به الإسلام، لأنه حينما يقاتل المسلم فإنه ينتظر إحدى الحسنيين، إما النصر وإما الشهادة؛ فلا مجال عنده لتولية الدبر..
إذ كيف يولي دبره أو دبر جيشه –أي مؤخرته- ليحصدهم الكفار حصدًا، ويأسرونهم ليفتنوهم أو يدفنوهم أحياء؛ لهذا وغيره كان النهي عن التولي يوم الزحف، وكان –إلى يوم الدين- كبيرة من الكبائر، يعاقب الله تعالى بهذه العقوبة: (فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير)؛ ودائمًا فإن الجزاء من جنس العمل..
لقد ولى دبره مسرعًا هربًا من الموت وبحثًا عن مأوى آمن يلجأ إليه فرارًا من الموت؛ فكان جزاؤه: مأوى في جهنم وبئس المأوى والمصير الذي سعى إليه.   ومن هنا يتبين أن القتال- في حال فرضه واضطرار المسلمين إليه- إنما هو وسيلة من وسائل الدفاع عن الدعوة وعن أرضها ورجالها، ولهذا وجب على المسلمين حماية الدعوة- في حال تعرضها للصد والمنع، وذلك بالصبر والثبات وعدم التولي، وإظهار الشجاعة والإقدام. وعلى الداعي عدم التولي عن الدعوة مهما كانت الصعاب والعقبات، فطريق الدعوة ليس مفروشًا بالورود، وإنما بالأشواك، وأن من يتصدى للمنكرات ويسعى للإصلاح والتغيير فسوف يواجه الأذى والاستهزاء والاضطهاد فما عليه إلا أن يصمد ويصبر حتى ينصر الله دينه ويعلي كلمته؛ قال تعالى: ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [16]، فكان التواصي بالحق ثم التواصي بالصبر على الأذى ومشاق الطريق.


[1] لسان العرب لابن منظور؛ وقال: قد تكون التولية إقبالاً ومنه (فول وجهك شطر المسجد الحرام) أي وجه وجهك نحوه، وقد تكون إدباراً وانصرافاً (ثم وليتم مدبرين)، ج6، ص 4921. [2] سورة الأنفال (15-16). [3] روح المعاني، ج5، ص 484. [4] صحيح مسلم، شرح النووي، المجلد الأول، ص 277، باب الكبائر وأكبرها، طبعة دار الشعب. [5] سورة الأنفال (66). [6] تفسير القرطبي، ج4، ص2816. [7] سورة البقرة (249). [8] سورة الأنفال (16). [9] سنن الترمذي، باب ما جاء في السرايا، رقم 1555، ص 420، قال الترمذي حسن غريب وضعفه الألباني. [10] أحكام القرآن، الإمام الجصاص، ج3، ص63، دار الكتب العلمية، ط1، 1994. [11] الإمام مالك هو أبو عبيد الله مالك ابن أنس بن مالك، ولد عام 93هـ، بالمدينة المنورة، جالس نافع مولى ابن عمر فأخذ عنه وعرفت روايته بالسلسلة الذهبية، مات وله خمس وستون سنة. [12] سورة الأنفال (16). [13] تفسير القرطبي، ج4، ص 2819. [14] انظر أدب الحرب والسلم، د.
أحمد الغمري، ص 284، دار المعارف، ط1، 1989، مناهج الدعوة وأساليبها، د.
علي جريشة، ص 97-99، دار الوفاء، المنصورة، ط1، 1986. [15] مختار الصحاح. [16] سورة العصر.



شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢