أرشيف المقالات

دين القيمة

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
2دين القيمة   إنَّ الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفِره، ونعوذ بالله مِن شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهدِه الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلِلْ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومَن تبعَه بإحسان إلى يوم الدين.   بين يدي المقال: شعوبُ العالم اليوم تشتكي من الضياع الذي آلتْ إليه رغم ما توفرت بين أيديهم مِن وسائلِ التحضر والتمدن، والعيشِ الرغيد والهنيء، ما لم يكن من ذي قبلُ.   فقد استطاعوا أن يُوفِّروا لأنفسهم حظوظًا كبيرة من الماديات ليُشبِعوا رغباتِهم وشهواتهم، وكان لهم ذلك، لكن تجاهلوا تمامًا الجانب الروحيَّ المتمثِّل في الوحي أو الشريعة التي جاءت بها الأنبياءُ والرسل، فتاهوا في هذه الحياة، وضلوا وأضَلوا.   قال الله تعالى: ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 40]. إن الحكم إلا لله: أصلُ الحكم لله وحده، ثم جعل الناس يتوارثونه في الأرض، ومِن رحمة الله بهم أن أرشَدَهم إلى سبيل الحفاظ على حياتهم وملكهم، وأمنِهم واستقرارهم في هذه الحياة، فأرشَد إلى ضرورة الحكم بما أنزل اللهُ من شرائعَ وكتب، رسم لهم فيها سبلَ السلام في هذه الحياة.   وهذا نداء ربانيٌّ خالد لكل مَن آتاهم الله كتابًا وأنزل عليهم شريعة، يرشدُهم فيه لهذه النعمة العظيمة، وهي نعمة الهداية، فقال الباري سبحانه وتعالى: ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [المائدة: 15، 16].   النور: فالحياة ظلمات، ليس بوُسعِ الإنسان فيها أن يهتدي إلى نورها - المتمثِّل في أمنها وسعادتها والاستقرار فيها - حتى يهتديَ بالله؛ أي: يتبع المنهج الربانيَّ الراشد الذي يبيِّن كلَّ صغيرة وكبيرة في هذه الحياة، وبه يخرُجُ الإنسان من متاهات الحياة وظلماتها إلى النورِ المبين والصراط المستقيم.   فلا يستوي الحكم، ولا تعتدل بلاد، ولا يستتب لها أمن؛ حتى يكون الحكمُ فيها لله؛ أي: حتى يعملوا بشريعة الله، ويهتدوا بهَدْي أنبيائهم عليهم السلام، الذين كانوا قدوة لهم في هذه الحياة، ويقيموا عبادةَ الله كما أمَر وشرَع لأنبيائه صلوات الله عليهم وسلامه، ولا يُكيِّفوها على حسب أهوائهم؛ فالدينُ يُؤخَذُ كافة، ولا يؤخذ بعضٌ ويُترَك بعض، فبذلك تستقيم أمور البلاد والعباد.   الدين القيم: المنهج الشرعيُّ الذي يتوافق مع سنن الله في كونه.
مثال من الحياة: قد صنع الإنسان وسيلةً للركوب من سيارات وطائرات وغيرها، وسنَّ لها قوانين تسير عليها؛ حتى تحفظ أمن البشر، وحتى تستعمل هذه المراكب وتحقِّق مرادهم في الحياة؛ من تسهيل عيشهم، والتمتعِ بجمالها وبديع صنعها، كما بيَّن جل وعلا في قوله:﴿ وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 6- 8].   لكن الإنسان سنَّ بالمقابل قوانينَ عقابيَّةً ردعية صارمة، تحاسِب وتعاقِب كلَّ مَن تعدَّى في قوانين السير وألحق بغيره الضررَ، وقد تصل هذه العقوبات إلى حدِّ القتل، لمن تعمَّد القتل، أو كان لا ينقاد لهذه القوانين الموضوعة، وزاد شرُّه وكثر جرمه.   فهكذا منهاج الله وشرعه في هذه الحياة، فقد خلق الله هذا الكونَ وسنَّ فيه نواميس لا يعلمها إلا هو، ووضع لها قوانين متمثِّلة في تعاليم الشرائع السماوية، ينبغي للعباد أن يسيروا عليها، وشدَّد الوعيد لمَن خالفها؛ لأن المخالِف كما يضر بنفسه يضر بغيره.   فإذا أوجب الله القتل في حقِّ القاتل، فهو لحكمةٍ بالغة، متمثلةٍ في المحافظة على حياة الناس، فالقاتل الذي أُشرِبت نفسه حبَّ القتل وسفك الدماء ليس له دواء سوى قتله، وتخليص المئات من البشر من شره؛ فبقتله تحيا نفوسٌ ستتعرض لشره وجرمه، قال الله تعالى: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 179]، ففي القصاص ربما موتٌ لشخص واحد يستحق الموت، وهو حياة لعشرات أو مئات الأشخاص سيتعرضون لشرِّه، ولا ذنب لهم في الموت.   نُظُم بشرية: فإذا شرَّع العباد دينًا ومنهجًا أو نظامًا بعيدًا عن المنهج الشرعي، تاهوا وزاغوا في هذه الحياة، وظهرت الفوضى بين الناس، وفسد عيشُهم، وضاع أمنهم واستقرارهم، قال الله تعالى: ﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ﴾ [الشورى: 21]، فكل مَن شرع للناس ما يخالف شرعَ الله في الأرض، فقد أشرَكَ مع الله - عياذًا بالله - وباءَ بغضبٍ من الله؛ لأنه قد تدخَّل فيما لا يعنيه في هذه الحياة، وما لا يحيط به علمًا، من نواميسَ وقوانين كونيةٍ لا يعلم كُنْهَها إلا اللهُ.   وقد حذَّر الله مِن شر أصحاب المناهج والأنظمة التي لا تهتدي بعلم الوحي، فقال جل وعلا: ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الجاثية: 18].   هنا نشير إلى أن التشريع المنهيَّ عنه هو ما كان في الدين؛ أي: ما أُحدِث في الدين مما ليس منه، أما ما يُحدِثه الناس في مجالات الحياة، لغرض تسهيل عيشهم وعمارة الأرض فيها؛ من علوم وغيرها - فهذا قد دَعَتْ إليه الشريعةُ، وهو من الأمور التي يُثاب عليها الناس، فثوابُ الدنيا هو للكفار والمشركين وأمثالِهم من غير المسلمين، وثوابُ الدنيا والآخرة هو للمسلمين إذا حقَّقوا شرط القبول، وهو الإخلاص.   الخلاصة: ليس لنا مخرج ولا خلاص ولا مناص إلا بالعودة للدينِ القيِّم، وهو الفطرة السليمة التي جبَل اللهُ عليها خلقَه، فلا تبديل لخلق الله.   آياتٌ بينات، شافية كافية، لكل مَن له بصيرة، كأن الله يتحدَّث عما آل إليه كثيرٌ من الخلق في زماننا من تشتُّتٍ وتحزب، واتباعٍ لمناهجَ ضالة مضلة بغير علم ولا هداية، قال الله تعالى: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾ [الروم: 30 - 32].   التشيعُ والتحزب والتفرُّق والفرح بما توصَّل إليه الناسُ بعيدًا عن الشريعة والوحي - لا يأتي إلا بالشرِّ المستطير، والوبال الكبير، والمآل إلى عذاب السعير وبئس المصير. نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرةاللهم اهدِنا، واهدِ بنا، واهدِ الناس أجمعين



شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن