أرشيف المقالات

قصة المكروب كيف كشفه رجاله

مدة قراءة المادة : 15 دقائق .
8 ترجمة الدكتور أحمد زكي مدير مصلحة الكيمياء عزرائيل يقبض بيد صفراء وصل الفائت ذهب البكباشي ريد رئيس بعثة الحمى الصفراء في جزيرة كوبا إلى الولايات المتحدة بدعوة من السلطات.
وبقى مساعداه كارول ولازار في كوبا.
أما كارول فطلب إلى لازار أن يسلط عليه بعوضة سبق أن شربت من دم مريض بالحمى، ففعل، ومرض كارول بالحمى ثم أشتفى.
ثم وقعت بعوضة وبيئة اتفاقاً على ذراع لازار وهو يدور في عنابر المرضى فمرض بالحمى ومات - 4 - وعاد ريد من الولايات إلى كوبا، فرحب به كارول ترحيباً حاراً.
وحزن ريد للازار وفرح للتجربتين اللتين نجحتا في إعطاء الحمى إلى كارول والى س.
ص.
وجفف مدامعه على لازار ورأى في القدر الذي وقع به يد الله التي لا غالب لها، ولم يفته أن يرى فيه ظاهرة للعلم أيضاً.
كتب ريد: (أن لازار قرصته بعوضة وهو في عنابر الحمى الصفراء بالمستشفى، فلا أقل من الإقرار بجواز أن هذه البعوضة تلوثت بالحمى الصفراء من مريض، وإذن فحادث لازار وقع اعتباطاً ولكنه لم يضع سدى.
)
قال ريد: (والآن جاء دوري أنا لأذوق البعوض دمي).
ولكنه كان بلغ الخمسين من عمره فأرادوا تخزيله فقال لهم: (ولكن لابد من البرهان).
وتُنصتُ إلى صوته الموسيقي فتجده لطيفاً خافتاً.
وتنظر إلى وجهه فلا تجد لذقنه هذا البروز الذي يكون للفتوة والرجولة القوية.
وتجمع هذا وهذا فتكاد تحسب أن ريد كان في الذي قال متردداً هيابا.
ووالله لو حسبت ذلك ما شأنه، وكيف يشينه وهو وأحد من ثلاثة مات أولهم من غير شك وَوُرى التراب يقيناً قال ذلك الصوت اللطيف الناعم: (ولكن لابد من برهان).
وقام ريد صاحب هذا الصوت اللطيف الناعم إلى الجنرال ليونارد وود وحمل إليه الأخبار كلها وما تضمنته من أحداث مؤثرة.
وكان وود أقل الرجال تخنثاً.
فما سمع ما سمع حتى أذن لريد أن يفعل ما يشاء وأن يذهب إلى أي حد شاء.
وأعطاه مالاً ليقيم معسكراً من سبع خيام وبيتين صغيرين، حتى قناة العلم أعطاه ثمنها.
وأحسن من هذا كله أنه أعطاه مالاً يشتري به رجالا يقامرون في تلك التجارب بأرواحهم فيسلكون بها سبيلاً تهلك فيها على الأقل نفس من كل خمس فلا تعود إلى الوجود لتستمتع بالثمن الذي دفع فيها.
فشكر ريد الجنرال، وخرج عن كيمادوس حتى إذا بعد عنها ميلاً نصب على الأرض سبع خيام، ونشر العلم الأمريكي فوقها، وأسمى المعسكر معسكر لازار - ولنهتف ثلاثاً لذكرى لازار.
وستعرف بعد قليل أي أعمال مجيدة وقعت في هذا المكان ليس آكد في الحقائق من الحقيقة الآتية: كل صائد من كبار صياد المكروب يختلف اختلافاً بيناً عن كل صائد آخر منهم، ولكنهم جميعاً تجمعهم صفة واحدة: أنهم جميعاً مبتكرون، إلا ريد.
ولكنه لا يستأهل الشنق لأنه لم يبتكر، لأن عذره حاضر، فأمر البعوض والقراد وغيره من ناقلات المكروب كان حديثا شائعا على ألسن البحاث في عشر السنوات الأخيرة من القرن الماضي، فلم يكن لريد مندوحة عن سماعه واقتباسه.
وإن فاته الابتكار في هذا، فوالله ما فاته أن يسود البحاث جميعا بقوة خلقه.
وإلى جانب هذا كان مجربا متقناً محسنا.
ووسوس إليه خلقه الصلب القويم: (لا بد من قتل الناس لخلاص الناس)، فقام يرسم سلسلة من اختبارات محكمة هي أسوأ ما ابتدعه رجل خير من الجرائم وكان ريد رجلاً يحب الإتقان والإحسان في الأعمال، فقضى بأن كل رجل يراد قرصه ببعوضة يصير حبسه قبل قرصه أياماً وأسابيع في هذا المعسكر تحت شمسه المحرقة حتى يكون بمعزل عن أي عدوى بالحمى الصفراء تأتى من غير هذه البعوضة، فلا بد أن تكون التجارب مسدودة الثقوب محكمة لا يخر الماء منها.
وأعلن ريد في الجند الأمريكي أن الحرب لم تضع أوزارها بعد، وأن حرباً جديدة أُعلنت لخلاص الإنسان.
وسأل هل فيكم متطوعون؟ ولم يكد يجف مداد الإعلان حتى دخل إليه في مكتبه جندي يدعى كيسنجر من ودخل معه رجل آخر يدعى جون موران وحتى هذا لم يكن جندياً بل كاتباً ملكياً يعمل في مكتب الجنرال فتز هيولي دخلا عليه مكتبه فقالا: (جئنا أيها السيد لتجرب فينا). وكان ريد رجلاً طاهر الذمة حي الضمير، فسألهما هل أدركا كل الإدراك ما اقدما عليه من المخاطر، وأخبرهما خبر الصداع الذي يجيئهما، والتهوع الذي يأتيهما، والقيء الأسود الذي يقيأن.
وذكر لهما ما كان من وافدات جائحة لم تبق من الرجال على رجل واحد ليعود فيحكي خبرها ويدل على فظائعها فأجاب الرجلان: (نعلم ذلك، وإنما جئنا تطوعاً واختياراً في سبيل العلم والإنسانية وحدهما).
عندئذ اخبرهما ريد بما كان من كرم الجنرال ود، وذكر لهما أن من تعضه البعوضة سيكون له مائتا ريال قد تزاد إلى ثلاثمائة.
فقال الرجلان: (نحن إنما تطوعنا على ألا نأخذ عن تطوعنا أجراً)، فانتفض ريد على قدميه ورفع يده بالسلام إلى قبعته، وهو البكباشى، وقال لهما: (أيها السيدان الكريمان، لكما تحيتي!) وفي نفس هذا اليوم دخل الاثنان المحجر العسكري ليتجهزا فيه ليصيرا بمثابة خنزيرين غينين للتجريب على أحسن ما تكون الخنازير، فلا تدخل إليهما لوثةً ولا تتطرق إليهما ريبة.
وفي الخامس من ديسمبر استضاف كيسنجر خمس بعوضات شربت من دمه حتى تروت، وكانت اثنتان منها قد شربتا منذ خمسة عشر يوماً وتسعة عشر يوماً من دم مرضى هلكوا بالحمى.
ولم تمض عليه غير خمسة أيام حتى جاءه صداع يكاد يصدع رأسه، ومضى يومان آخران فاخذ يصفر لونه، وتعاقبت عليه أعراض المرض كما يجب أن تكون.
ثم تعافى فحمد الله ريد على هذا الشفاء ثم جاء المجد يسعى إلى ريد وصاحبيه كارول وأجرمنتي.
وإن يكن الدهر لم يسعفهم، بمعنى أن الشبان الأمريكيين لم يزدحموا عليهم للتطوع ازدحاماً ويدوسوهم في سبيله دوساً ويرموا بحياتهم رمياً في سبيل العلم والإنسانية، فقد بعث الدهر إليهم رجالاً أسبانيين جاءوا من كوبا حديثا من أسبانيا، وكانوا غاية في الجهالة، وكان لهم مأرب في المائتي ريال؛ فتقدم خمسة من هؤلاء طمعاً في المال.
ولنسمهم المهاجرين الأسبان، أو لعل الأوفق أن أسميهم بالأرقام 1، 2، 3، 4، 5 كما يسمى صيادو المكروب حيواناتهم التجريبية فيقولون الأرنب رقم 1 والأرنب رقم 2 وهلم جرا.
وعلى كل حال تقدم هؤلاء الخمسة، فلما تهيئوا للقاء البعوض عضهم عضات هي أخطر في المتوسط من الرصاص البنادق، واستحقوا المال الذي أخذوه، فأن أربعة منهم جاءتهم الحمى الصفراء على أبين ما تجيء وبأظهر ما تكون من الأعراض، أو كما يقول بعض الأطباء إذا هم لبسوا جلد العلماء: (بأجمل ما تكون الأعراض) وهذا نصر مبين! نصر لا يأتيه الشك من أي جهاته؛ فأن أحداً من هؤلاء الرجال لم يقترب يوماً من حيث يكون الوباء، وأخذوا فعوملوا معاملة الخنازير الغينية والفئران والأرانب التجريبية فحبسوا طويلاً في كيمادوس في خيمات مستورة لا يصنعون شيئاً ولا يرون أحداً، ولم تحدث لهم أحداث إلا شكات في أجسادهم شكتهم إياها إناث البعوض المقلمة ظهورها بالفضة.
وكان الضجر لاشك قاتلهم لولا أنهم كانوا جهالا مغرقين فلم يكن بينهم وبين الحيوان فارق مبين كتب ريد إلى زوجته يقول: (افرحي معي يا حبيبتي، فإنك لو استثنيت لقاح الدفتريا وبشلة السل التي اكتشفها كوخ، فهذا الكشف العلمي الذي وجدناه سيروى للأحفاد بأنه أكبر كشف حدث في القرن التاسع عشر.
)
لم يكن ريد في السبيل التي اتخذها مبتكراً، ولكن دقته هذه بلغت حداً تنهض به إلى طبقة المبتكرين، فهو لا شك مبتكر في دقته، وقد كان في مقدوره أن يقف من بحثه عند هذا الحد، بل لعلك مقسم أن قد سولت له نفسه الوقوف عند هذا الحد، ولِمَ لا وهؤلاء ثمانية جاءتهم الحمى من قرصات البعوض؟ ألا أي حظ هذا الذي صحب ريد فلم يمت من رجاله الثمانية غير واحد؟ على أن ريد لم يقف عند هذا الحد، وأخذ يتسأل: (.

ولكن أيجوز أن تنقل الحمى عن طريق غير البعوض؟)
واعتقد الناس أجمع أن ملابس الموتى من الحمى وأفرشتهم وكل ما يمتلكون يحمل الموت في طياته، فأحرقوا من أجل ذلك من الأفرشة والملابس ما بلغت قيمته ملايين الدولارات.
وارتأى هذا الرأي رئيس الأطباء، وأرتآه كل طبيب له اسم في أمريكا شماليها وجنوبيها وأوسطها إلا الشيخ المخبول فنلى.
وتشكك فيه ريد.
وبينا هو في سرور من نجاحه في عدوى كيسنجر والأسبانيين المهاجرين جاء النجارون فنصبوا بيتين صغيرين دميمين في معسكر لازار.
وكان البيت الأول أقبح البيتين، طوله أربع عشرة قدما في عشرين عرضا.
وكان له بابان في مدخله، نصب أحدهما في حذقٍ خلف الآخر حتى لا يفلت منه البعوض.
وكان له نافذتان تطلان على الجنوب فتحا والباب في حائط واحد حتى لا يجري في هواء البيت تيار.
ووضع في البيت موقد لطيف ليرفع حرارته بعيداً فوق الدرجة الثانية والثلاثين المئوية، ووضع فيه براميل مليئة بالماء ليتشبع منه الهواء فيصبح بحره ومائه خانقاً كبطن سفينة ببعض مناطق الاستواء.
وكان في هذا كفاية لهذا البيت من كرب وضيق، ولكن جاء الثالث عشر من نوفمبر عام 1900 فحمل جند إليه وهم يتصببون عرقاً عدداً من صناديق محكمة التسمير متهمة المنظر جاءت من عنابر الحمى الصفراء لتجعل من هذا البيت مثلاً يضرب في اللعنة والشؤم.
فلما أدبر نهار هذا اليوم وخيم ليله شهد ريد وكارول مشهدا من خير مشاهد الشجاعة والتضحية، ففي هذا البيت اللعين الأول دخل دكتور أمريكي شاب يدعى كوك، ودخل معه جنديان أمريكيان (ليت شعري ماذا عوق الناس فلم تنصب لهؤلاء الأبطال تماثيل الأبطال) يدعى أحدهم فوك ويدعى الآخر جرنجان وفتح هؤلاء الرجال الثلاثة هذه الصناديق المحكمة المريبة داخل هذا البيت في جو رطب متلزج تضيق فيه الأنفاس أُف لها من رائحة كريهة! ولعنوا وسبوا وسدوا أنوفهم واستمروا يفتحون الصناديق.
فأخرجوا منها وسائد عليها القيء الأسود لقوم ماتوا بالحمى.
وأخرجوا منها ملاءات أسرةٍ وألحفةٍ تلوثت بما يخرج من المريض إذا غاب حسه وهمدت قوته وضاع تحكمه في جسمه.
وأخذوا يضربون الوسائد وينفضون الملاءات والألحفة، فقد كان ريد قال لهم: (لابد أن تعفروا جو هذه الحجرة بالوباء وتنشروه جيداً بين أرجائها).
وقاموا يهيئون لأنفسهم من هذا المتاع فراشا على آسرة صغيرة من آسرة الجيش.
وخلعوا ملابسهم ورقدوا على هذه الفرش القذرة وحاولوا النوم في تلك الحجرة الملعونة.

وأقام ريد وكارول على هذه الحجرة يحوطانها بالرعاية ويحاذران خشية أن تدخلها بعوضة تائهة.
أما طعام فوك وكوك وجرنجان فلا تسل عنه فقد كان لا شك أطيب طعام وتوالت الليالي وثلاثتهم في هذا البيت راقدون، ولعلهم كانوا يفكرون فيما صنع الله بأرواح من سبقوهم إلى هذه الملاءات وهذه الألحفة، أو لعلكم كانوا يفكرون هل من سبيل غير البعوض تنتقل به الحمى.

ثم جاء ريد، وهو رجل يجمع إلى طهارة ذمته شدة دقته؛ وجاء كارول، وهو رجل كالح عبوس؛ جاء كلاهما يزيدان تجربتهما إحكاماً على إحكام. فحملا معهما صناديق أخرى وردت من عنابر الحمى الصفراء، فلما فضها فوك وكوك وجرنجان فزعوا إلى خارج عجزاً عن احتمالها ولكنهم عادوا ورقدوا وناموا.
وقضوا على هذا عشرين ليلة! فأين ذكراهم لا تُخلَّد، ولِمَ صنيعهم لم يُمجّد! ثم نقلوا وعزلوا وحدهم في خيمة طلقة الهواء وانتظروا أن تأتيهم الحمى: ولكنها لم تأتهم، وزادوا وزناً وصحوا أجساماً وقرقعوا بالنكات على البيت القذر الذي شرفوه، وعلى ألحفته وملاءاته التي تلفعوا بها فيه.
ولما جاءتهم الأخبار بان كيسنجر والأسبانيين أصابتهم الحمى ضحكوا ملء أشداقهم كتلاميذ المدارس أن تكون الحمى جاءت هذه الأجسام الكبيرة من عضة بعوضة صغيرة قد يعجبك هذا البرهان إعجابا شديدا، ولكن أي تجربة فظيعة تلك التي ساقت إليه، على أنه لم يكف ريد فلم يرضه علمه ولم تقتنع به لوثته فأعاد الكرة، فأدخل إلى تلك الحجرة ثلاثة آخرين من شباب أمريكا، وجاءهم بملاءات وألحفة جديدة القذر جديدة البشع وعلى هذا أنامهم عشرين ليلة؛ وأراد أن يزيد في رفاهيتهم فأنامهم في نفس الأقمصة التي مات فيها المصابون ثم عاد بعد ذلك فأدخل ثلاثة شبان امريكيين آخرين في نفس هذا البيت، وأرقدهم فيه عشرين ليلة على نفس الأسلوب مع فرق بسيط زاد التجربة دقة: ذلك أن غطى ووسائدهم بفوط أُشربت قبل ذلك من دماء رجال ماتوا بالحمى وبرغم كل هذا بقي كل هؤلاء الرجال التسعة أصحاء فلم تنلهم مسة ولو خفيفة من الحمى.
قال ريد: (ما اعجب العلم؟). وكتب: (إن الأسطورة الكاذبة التي تقول بأن الملابس تنقل الحمى الصفراء قد انفقأت كما تنفقئ فقاعة تخزها بدبوس).
ولقد صدق ريد، فما أعجب العلم حقا! ولكن كذلك ما أقساه! وما أقسى صيادة المكروب! فهي قد تنزع من الباحث قلبه.
وأخذ شيطان ريد الباحث يوسوس إليه: (ولكن أصادقة حقاً تلك النتائج التي أدت إليها تجاربك)؟ نعم إن الحمى لم تأت أيا من هؤلاء الرجال الذين ناموا في هذا البيت، ولكن ما أدرانا أنهم بطبيعتهم حصينون من الحمى، فهي لا تأتيهم أبداً؟ وكان ريد وكارول سألا فوك وجرنجان أمرا هو أقصى ما سأله ضابطا جنديا فأجاباهما إليه، ومع هذا فقد قام الاثنان من جديد فحقنا جرنجان بدم وبئ أشد الوباء جاءا به من دم مريض، وقرصوا فوك ببعوض كان قرص مرضى ماتوا من الداء.
فأصيب جرنجان وفوك بآلام جسام.
واحتقن وجهاهما، واحمرت بالدم عيونهما، ونزلا وادي الموت ولكنهما عبراه سالمين.
فحمد ريد ربه؛ حمده لخلاصهما، ولكنه حمده على الأكثر لما تبين له أنهما لم يكونا حصينين من الحمى لما باتا في بيت الكرب عشرين ليلة ووهبوا كلا من فوك وجرنجان عن صنيعهما ثلاثمائة ريال، وهو مبلغ لم يكن صغيراً في تلك الأيام (يتبع) احمد زكي

شارك الخبر

المرئيات-١