أرشيف المقالات

ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
2 ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾   يقول تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ * ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ ﴾.
[1] إن هذا العذاب هو عذاب استحقاق، لأنهم طالما شاقوا الله ورسوله، وطالما عاندوا واستكبروا، وعذبوا المؤمنين وطاردوهم بعد أن طردوهم، وقد أصروا على عداوة الاسلام، والقضاء على الدعوة وأصحابها فماذا يفعل المسلمون؟ طالما صبر المسلمون وتحملوا وتسامحوا حتى اضطرهم المشركون إلى ترك مكة، فتركوها، ولم يهدأ المشركون، بل تعقبوهم في موطنهم الجديد؛ صلفًا وعنادًا وغطرسة.
فماذا يفعل المسلمون؟ هل يترك المسلمون أهل مكة المشركين ليحصدوهم أفرادًا وجماعات، وعلى المسلمين أن يستسلموا للذبح كي لا يقال عنهم قتلة وسفاكي دماء؟   إن الدفاع عن الدعوة حق مشروع للمنتسبين إليها المؤمنين بها، بل هو واجب عليهم؛ جاء في كتاب (بيان للناس – من الأزهر الشريف) [2]: (إن حمل السلاح للجهاد كان لغرضين أساسيين، أولهما رد العدوان الواقع أو المنتظر.
والثاني تأمين طريق الدعوة، أما رد العدوان الواقع ظهر في غزوة بدر وأحد والخندق وغيرها، وكان عدوانا واقعًا، ومنه إغاثة المظلومين..
وأما رد العدوان المنتظر فكان في فتح مكة حيث نقضت قريش عهدها الذي أبرمته مع النبي في الحديبية وفي غزوة تبوك وغيرها وتأمين الطريق كان في تحرك المسلمين خارج حدود المدينة لنشر الدعوة في سائر أنحاء العالم). وبعد، أليس إهانة المشركين وتقليم أظافرهم، وضرب أعناقهم، يُعد نوعًا من الجزاء العادل، ورد فعل واجب على من اعتدي عليهم في أنفسهم وأموالهم؛ وقد يقول قائل أين التسامح والعفو الذي ينادي به الاسلام، فهو دين الرحمة والسلام؟ نعم إن الإسلام دين الرحمة والسلام ويدعو إلى التسامح والعفو، لكن هل التسامح والعفو يكون عن قدرة وتمكن أم عن ضعف وانكسار؟   إن عفو الضعيف المنكسر إنما هو زيادة في ضعفه وانكساره وإذلاله وتحطيمه، لكن العفو والتسامح إنما يكون عن قوة واستطاعة، وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة، فقد كان فتح مكة يوم المرحمة والعفو والتسامح لا يوم الملحمة والانتقام والتشفي وتصفية الحسابات القديمة، ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمع سعد بن عبادة رضى الله عنه وقد أعطاه الراية يقول لأبي سفيان (يا أبا سفيان: اليوم يوم الملحمة.
اليوم تستحل الكعبة.." فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كذب سعد ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة) [3]، ويذكر ابن كثير في البداية والنهاية (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب ألا يغضب سعد فأخذ الراية منه فرفعها إلى ابنه، وروي ابن هشام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمع أن خالدًا يقتل؟ قال: "قم يا فلان فأت خالدًا، فقل له فليرفع يديه من القتل"..
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى أمرائه ألا يقاتلوا إلا من قاتلهم..
وذكر عن ابن اسحاق [4] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على باب الكعبة فقال (..
يا معشر قريش ما ترون أني فاعل فيكم؟ قالوا خيرًا أخ كريم وابن أخ كريم..
قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء)، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عرض على أبي سفيان أن يسلم وقال له (ويحك أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟ فقال بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك) فقال العباس للرسول صلى الله عليه وسلم: إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئًا؟ قال: نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن..
ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن..) [5]، كما أورد ابن كثير قصة سعد بن عبادة [6] لما قال يوم فتح مكة (هذا يوم الملحمة، هذا يوم تستحل الحرمة) قال: (فشق ذلك على قريش وكبر في نفوسهم، قال: فعارضت امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيرة وانشأت تقول: يا نَبِيَّ الهُدى إِلَيكَ لَجا حَيُّ قُرَيشٍ وَلاتَ حينَ لَجاءِ إِنَّ سَعداً يُريدُ قاصِمَةَ الظَه رِ بِأَهلِ الحُجونِ وَالبَطحاءِ خَزرَجِيٌّ لَو يَستَطيعُ مِنَ الغَي ظِ رَمانا بِالنسرِ وَالعَوّاءِ فَلَئِن أَقحَمَ اللِواءَ وَنادى يا حُماةَ الِلواءِ أَهلَ اللِواءِ لِتَكونَنَّ بِالبِطاحِ قُرَيشٌ فَقعَةَ القاعِ في أَكُفِّ الإِماءِ   فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الشعر دخله رحمة لهم ورأفة بهم وأمر بالراية فأخذت من سعد ابن عبادة، ودفعت إلى ابنه قيس، قال فيروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب ألا يخيبها إذ رغبت إليه واستغاثت به، وأحب ألا يغضب سعدًا فأخذ الراية منه فدفعها إلى ابنه).
[7]   هذه مواقف نطلقها في صدور أهل الباطل، ودلائل نقذف بها في عقول المشككين والمفترين على الإسلام ونبي الإسلام، وبراهين نضعها بين يدي الكارهين للإسلام، الطاعنين في شريعته، وتلك هي البراهين والحقائق: • إنه عليه الصلاة والسلام ينهي خالد ابن الوليد رضى الله عنه عن القتل.. • إنه يعاقب سعد بن عبادة رضى الله عنه لأنه قال مقالة أفزعت قريش رجالها ونساءها.. • إنه يرق للمرأة الشاكية، ويرحم، ويستجيب لمناشدتها.. • وهو طبيب النفوس، فقد عرف كيف يكون المدخل لدعوة أبي سفيان: لتعلمنا أسلوب الحكمة في أروع صورها في قوله (ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله..؟) إنه الرفق واللين والتودد، لا الفظاظة والغلظة..
ثم هو يعلم أن أبا سفيان يحب الفخر ويجب أن يتفرد بشيء عن سائر الناس، ولم لا وهو المطاع في قومه..
فأعلن الرسول صلى الله عليه وسلم نداء الأمان والأمن لأهل مكة بهذه الصورة الرائعة (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن)، ثم ماذا كان وقع هذا النداء وماذا كان أثره؟ لقد أسلم أبو سفيان وقام صارخًا في قومه – فقد تحول إلى داعية في التو واللحظة – (يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن؛ فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد)[8]، أسلم ابو سفيان، وعم الأمان في مكة، ودخلها فاتحًا منتصرًا، دخلها خاشعًا لله، متواضعًا لعظمته سبحانه، حامدًا لربه شاكرًا لأنعمه.   وهنا يكون العفو والتسامح، بعد القدرة والتمكن..
ظنوا أنه سينتقم منهم..
(ماذا تطنون أني فاعل بكم؟) قالوا خيرًا..
أخ كريم وابن أخ كريم..
فيصدر العفو العام: (اذهبوا فأنتم الطلقاء..). ولا موضع ولا مجال للحديث عن التسامح أو العفو حينما يهاجم المشركون المسلمين في موطنهم الجديد، معلنين أنهم جاءوا للقضاء على محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فكان لابد من تأديبهم أولًا والتمكن منهم وبعد ذلك يكون الكلام عن العفو والتسامح. هذا هو المنهج؛ فطريق الدعوة هو ما رسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسلوبها هو الحكمة والموعظة الحسنة كما فعلها النبي صلى الله عليه وسلم، أما الوسائل فإنما تتغير حسب ظروف المرحلة.


[1] سورة الانفال (13 – 14) [2] الشيخ جاد الحق على جاد الحق شيخ الازهر ص 277 [3] فتح الباري شرح صحيح البخاري – باب غزوة الفتح – ج8، ص6. [4] محمد ابن اسحاق سبقت ترجمته [5] البداية والنهاية لابن كثير ج4، ص 290. [6] هو سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة احد النقباء شهد العقبة مع السبعين والمشاهد كلاما خلا بدرا فإنه تهيأ للخروج فلدغ فأقام – توفي سن خمس عشر من الهجرة بحوران بأرض الشام [7] المرجع السابق ص 295. [8] البداية والنهاية لابن كثير ج4، ص 291.



شارك الخبر

ساهم - قرآن ١