أرشيف المقالات

المحبة المنافية للكراهة

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
2سلسلة شرح أسماء الله الحسنى (10) شروط لا إله إلا الله (7) المحبة المنافية للكراهة   لا يزال حديثنا متصلاً ببيان شروط كلمة التوحيد (لا إله إلا الله)، بعد أن عرفنا ستة منها وهي: العلم الذي ينفي الجهل، واليقين الذي ينفي الشك، والقبول الذي ينفي الرد، والانقياد الذي ينفي الترك، والصدق الذي ينفي الكذب، والإخلاص الذي ينفي الرياء.
وبقي معنا الشرط السابع، الذي به تكتمل حلقة الإيمان، فتكون كلمة التوحيد شاهدة لصاحبها يوم القيامة، وحجة على سلامة اعتقاده، وصفاء دينه.
وهو شرط يكنف الشروط السابقة، إذ بدونه يَحبَط العمل فلا يقبل، ويذوب كل اجتهاد ويُعطَّل.
إنها "المحبة المنافية للكراهة"، محبة كلمة التوحيد (لا إله إلا الله)، والتفاني في سبيلها، عن طريق الاجتهاد في العمل بمقتضاها، والتمكين لأركانها، وعدم ابتغاء بديل عنها، مهما برقت المغريات، وتعددت الفلسفات، ومهما كثرت النكبات، وتعاظمت النكسات.
فبدون محبة الله وشريعته، ومحبة رسوله ومنهاجه، تظلم الحياة، وتسود العلاقات بين الناس، وتتلاشى وشائج الخير بينهم، وأسس التعاون عندهم.   فالمحبة - كما قال ابن القيم رحمه الله - هي: "قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرة العيون، وهي الحياة التي مَن حُرمها فهو من جملة الأموات، والنورُ الذي من فقده فهو في بحار الظلمات، والشفاءُ الذي من عَدِمَه حلت بقلبه جميع الأسقام، واللذةُ التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام".   وأعظم من يجب أن تُحقَّق له المحبة الكاملة: الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -.
قال - صلى الله عليه وسلم -: "ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ" متفق عليه.   والمحبة المقصودة في حق الله - تعالى - هي المحبة لذاته، ومحبة سواه هي محبة فيه ولأجله، لأن التوحيد حق لله وحده على عباده، لا يصرف منه شيء لغيره، فكانت محبة كلمة التوحيد محبة لذات الله لا لذات غيره.
قال شيخ الإسلام: "لا يجوز أن يُحَبَّ شيء من الموجودات لذاته إلا هو سبحانه وبحمده.
فكل محبوب في العالَم، إنما يجوز أن يُحَب لغيره لا لذاته..
وكل محبوب سواه لم يُحَب لأجله فمحبته فاسدة..
وهذا من معاني إلهيته".   فالذي أحب مخلوقاً، سواء كان إنساناً، أو حيواناً، أو جماداً، أو مالاً، أو جاهاً، أو نظاماً من أنظمة غير المسلمين، أو قانوناً من قوانينهم، أو مبدأً من مبادئهم، أو عقيدةً من عقائدهم، فصار يوالي عليه ويعادي عليه، وافق ذلك شرع اللهِ أم لم يوافق، فقد أحب هذا المخلوق لذاته، واتخذه للهِ ندا وعدلا، شعر بذلك أم لم يشعر.
والله - تعالى - يحذرنا من ذلك ويقول: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلهِ ﴾ [البقرة: 165].
فأخبر الله - تعالى - أن الذين آمنوا أشد حباً لله، لأنهم أحبوه لذاته فلم يشركوا معه في محبته أحدا.   والآية لم تذم مَن أحب شيئاً أكثر من حب الله، فهذا خطره بين، ولكن ذمت من سَوَّى بين حبه وحب شيء من مخلوقاته، كما أخبر - تعالى - حكاية عن حال من فعل ذلك، كيف يتحسرون يوم القيامة، ويرجون لو أنهم انخرطوا في زمرة المؤمنين، الذي عرفوا لكلمة التوحيد حقها، فأفردوا اللهَ - تعالى - بالمحبة المطلقة.
قال - تعالى - على لسانهم: ﴿ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ * فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ * فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 97 - 103]، أي: ما كان أكثرهم محققا لشروط (لا إله إلا الله) ومنها المحبة، ولو كانوا مسلمين، يصلون ويصومون، لأنهم اغتروا بتلبيسات المجرمين، وبهرجات المفسدين، الذين يئسوا من الآخرة، فاستحبوا أن يفسدوا معهم من استطاعوا من الغُمر الغافلين.
﴿ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 166، 167].   والتسوية - هنا - ليست في الخلق، ولا في الرزق، ولا في رفع السماوات، وإمساك الأرض، وإنما في المحبة، والخضوع، والعبودية، والتعظيم.
قال ابن القيم - رحمه الله -: "ومعلوم أنهم ما سووهم به سبحانه في الخلق والرزق، والإماتة والإحياء، والمُلك والقدرة، وإنما سووهم به في الحب، والتأله، والخضوع لهم والتذلل.
وهذا غاية الجهل والظلم، فكيف يُسوَّى التراب برب الأرباب؟ وكيف يسوى العبيد بمالك الرقاب".   أما أن تحل الكراهة لشرع الله محل محبته، والبغض له محل الإقبال عليه، فهذا أمره عظيم، وخطره يوم القيامة وخيم.
قَالَ - تعالى -: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ﴾ [محمد: 28].
وقال - تعالى -: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ﴾ [محمد: 8، 9].
وأعظم ما أنزل اللهُ على أنبيائه كلمة التوحيد.
﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنُ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل: 36].
هؤلاء الكارهون لشرع الله، المقدمون عليه غيره، الفرحون بحرية الاعتقاد، المجيزون للردة عن دين الله، أو العيش من غير شريعة سماوية تحكم، أو سنة محمدية تنظم، يتمنون يوم القيامة أن يصيروا تراباً، فلا يستطيعون، يرجون أن يقضى عليهم فيموتوا، فلا يستجاب لهم.
قال - تعالى -: ﴿ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ﴾ [الزخرف: 77، 78].
والحق هو كلمة التوحيد.   ومحبة اللهِ التي تنجي من أهوال يوم القيامة، محبةٌ محفوفة بما يستحقه ربنا من كمال الخضوع، وما يليق به من مطلق الخنوع.
أما المحبة مع البدعة، والمحبة مع ضعف الاستجابة لأوامر الله، والمحبة مع تضييع فرائض الله، والمحبة مع انتهاك حدود الله، فهي ادعاء لا خير فيه.
وقد حذرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَقْوَامًا يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - هَبَاءً مَنْثُورًا.
ولما سئل عنهم قال: "أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا" صحيح سنن ابن ماجة.   قال - تعالى -: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران: 31].
وهي آية فاصلة بين المحبة الحقيقية، والمحبة المزيفة.
قال الحسن البصري: "ما ابتلي المحبون بمثل هذه الآية".
ولذلك قَالَ يحي بن معَاذ: "لَيْسَ بصادق من ادّعى محبَّة الله وَلم يحفظ حُدُوده".
وَقَالَ أَبُو يَعْقُوب النَّهْرُجُوريُّ: "كل من ادّعى محبَّة اللهِ، وَلم يُوَافق اللهَ فِي أمره، فدعواه بَاطِلَة.
وكلُّ محبٍّ ليس يخاف اللهَ، فهو مغرورٌ".   وسئل رُويم عن المحبة فقال: "الموافقة في جميع الأحوال"، وأنشد: ولو قُلتَ لي مُتْ مِتُّ سَمعاً وطاعةً *** وقُلتُ لداعِي الموتِ أهلاً ومرحبا ومن محبة الله - تعالى -، محبةُ رسوله - صلى الله عليه وسلم - في هديه وطريقته، وأمره، وكذلك في سمته الظاهر.
فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: "سَأَلْنَا حُذَيْفَةَ عَنْ رَجُلٍ قَرِيبِ السَّمْتِ وَالْهَدْيِ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى نَأْخُذَ عَنْهُ.
فَقَالَ: مَا أَعْرِفُ أَحَدًا أَقْرَبَ سَمْتًا وَهَدْيًا وَدَلاًّ بِالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ" البخاري.
والسمت هو الهيئة والمظهر.
والهدي هو الطريقة والمذهب.
وفي الحديث: "السَّمْتُ الْحَسَنُ، وَالتُّؤَدَةُ، وَالاِقْتِصَادُ، جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ" صحيح سنن الترمذي. إني أرى حب النبي عبادة ينجو بها يوم الحساب المسلمُ لكن إذا سلك المحب سبيله متأسيا ولهديه يترسمُ   ومن محبة الله - تعالى - محبة صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، نكن لهم الإجلال والاحترام، ونحفظ لهم التوقير والإعظام، ولا نلتفت إلى المغرضين المفتونين، ولا إلى الضالين الزائغين، الذي جعلوا سبهم دينا، وبغضهم قربانا، ويزعمون مع ذلك محبة (لا إله إلا الله).   ومن محبة الله - تعالى - محبة عباده المؤمنين لا بغضهم، ومخالطتهم لا منابذهم، والقرب منهم لا مباعدتهم.
قال - تعالى -: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ﴾ [مريم: 96].
قال الراغب الأصفهاني: "أي: محبةً في القلوب..
وكلُّ قوم إذا تحابوا تواصلوا، وإذا تواصلوا تعاونوا، وإذا تعاونوا عملوا، وإذا عملوا عمروا". هـذي العقيـدة للسعـيـد هي الأساس هـي العـمودْ
من عاش يـحملها ويـهتـف باسمـها فهـو السعـيـدْ



شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن