أرشيف المقالات

محاسبة النفس الأمارة بالسوء

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
2محاسبة النفس الأمارة بالسوء
لأن المحاسبة مطلب شرعي وأمر رباني: قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ [الحشر: 18 - 20].   قال ابن كثير: "أي حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وانظروا ما ادَّخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة، ليوم معادكم وعرضكم على ربكم"[1].   وقال تعالى: ﴿ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ﴾ [يوسف: 53]؛ أي: إلا من رحمه الله تعالى ووفَّقه، فأخذ بأسباب النجاة، وعلى رأسها المحاسبة.   ولأنه إنما يهتم بمحاسبة نفسه مَن علِم شدة الحساب يوم القيامة؛ قال تعالى: ﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 49]، وقال تعالى: ﴿ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [المجادلة: 6]، وقال تعالى: ﴿ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ﴾ [النساء: 123].   قال الحسن: "المؤمن قوَّام على نفسه، يحاسب نفسه لله، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة..."[2].   فمَن حاسب نفسه قبل أن يحاسب، خفَّ في القيام حسابه، وحضر عند السؤال جوابه، ومن لم يحاسب نفسه من الآن، دامت حسراته، وطالت يوم القيامة وقفاته.   اعتناء السلف رضي الله عنهم بالمحاسبة قولًا وعملًا: قال الحسن: "إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكانت المحاسبة من همته"[3]. قال ميمون بن مهران: "لا يكون العبد تقيًّا، حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه، ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوَّان، إن لم تحاسبه ذهب بمالك"[4]. وعن عمر بن الخطاب قال: "حاسِبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن تُوزن عليكم، وتزيَّنوا للعرض الأكبر، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية"[5]. قال مالك بن دينار: "رحِم الله عبدًا قال لنفسه: ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثم ذمَّها ثم خطمها، ثم ألزَمها كتاب الله عز وجل، فكان لها قائدًا". وحُكي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى بستان له، فرجع وقد صلى الناس العصر، فقال: "إنا لله وإنا إليه راجعون، فاتتني صلاة العصر في الجماعة، أُشهدكم أن حائطي على المساكين صدقة؛ ليَكُون كَفَّارَة لما صنع عمر رَضِي الله عَنهُ والحائط الْبُسْتَان فِيهِ النخل"[6].   معنى المحاسبة وصفتها: والمحاسبة معناها أن تنظر في نفسك وتتأملها، وتعرف عيوبها، وتعمل جاهدًا على إصلاحها، فالتحسن المتواصل هدف سامٍ لنا نحن المسلمين، ولا يعتبر لوم النفس ومحاسبتها ضَعفًا كما يظن بعضهم، بل هو علامة الصحة وبداية مجاهدة الهوى[7].   والمحاسبة أن ينظر العبد في رأس المال، وفي الربح وفي الخسران؛ لتتبين له الزيادة من النقصان، فرأس المال هو الفرائض، والربح هو السنن والنوافل، والخسران هو الذنوب والمعاصي، فانظر ما الذي يُنجيك غدًا فالزمه وداوِمْ عليه، وما الذي يُهلكك غدًا، فاتركه واقطع نفسك عنه.   واعلم أن المحاسبة نوعان: محاسبة قبل العمل، ومحاسبة بعده: 1- قبل العمل: أن يقف الإنسان مع نفسه قبل أي عمل وقفةً؛ ليسأل نفسه: لماذا هذا العمل؟ لماذا أتكلم؟ لماذا أسكت؟ لماذا أفعل؟ لماذا أترك؟ لماذا أحب؟ لماذا أبغض؟ لماذا أُعطي؟ لماذا أمنع؟ لماذا؟ لماذا؟ هل تبتغي بعملك وجه الله؟ سؤال عن الإخلاص، فرحم الله عبدًا وقف عند عمله؛ إن كان لله أمضاه، وإن كان لغير الله أوقفه وأنهاه!   ثم هل أدَّيت العمل على هدْي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ سؤال عن المتابعة، فالله تعالى لا يقبل العمل إلا إذا كان خالصًا صوابًا، فالخالص ما كان لله، والصواب ما وافق هدي رسول الله.   2- بعد العمل: أن يقف الإنسان مع نفسه بعد أي عمل وقفةً؛ فإن رأى خيرًا حمد الله، وإن رأى نقصًا أو تقصيرًا، زاد وأكمل وأتم، وإن رأى أنه وقع في معصية تاب وأناب، وعزم ألا يعود، هذه هي المحاسبة التي بها ينجو العبد بين يدي الله.   من فوائد المحاسبة وثمراتها العظيمة: 1- المحاسبة الصادقة ترسم صورة للمستقبل. 2- في المحاسبة تمرين النفس للتحكم في الشهوات. 3- المحاسبة فرصة للمراجعة. 4- المحاسبة تنمي المهارات ولا تُهدر الطاقات. 5- المحاسبة تحافظ على العمر.   الإهمال في المحاسبة هو سبب الانتكاسة والفتور والرجوع إلى الوراء: فما ضعف الإخلاص واستشرى الرياء، وما حل الحسد والبغي - إلا بسبب إهمال النفس الأمارة بالسوء، وتركها لتنال شهواتها في المال والترؤُّس والمدح والتعاظم، فكن لنفسك وقَّافًا ورادعًا، وكن لها حارسًا وزاجرًا، فالنفس هي مركز الاهتمام والاتهام، وهي البداية والنهاية. فمن صح إيمانه عَلِم أن عدوه الحقيقي هو نفسه، فإذا انتصر عليها غلب أي قوة، وانتصر في أي معركة؛ ألم يقل الله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11].   إنا لنَفرح بالأيام نقطعها وكل يوم مضى يُدني من الأجل فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهدًا فإنما الربح والخسران في العمل   كيف يجاهد الإنسان نفسه على المحاسبة؟ لا سبيل - والله أعلم - إلى المحاسبة الصحيحة، إلا إذا كان بين يدي العبد وِرد (جدول) محاسبة ينظر فيه يوميًّا؛ ليرى ما قدم وما أخَّر، وما أسرَّ وما أعلن؛ ليتمكن من التغيير والإصلاح - خصوصًا في سنوات الاستقامة الأولى - فلربما يسير بعد ذلك سيرًا جميلًا بلا حاجة إلى النظر في ذلك.


[1] تفسير ابن كثير ج4 سورة الحشر. [2] -إغاثة اللهفان؛ ابن القيم ص79. [3] إغاثة اللهفان ص78. [4] إغاثة اللهفان ص79. [5] مدارج السالكين ج1 ص187. [6] الزواجر عن اقتراف الكبائر؛ الهيثمي ج1 ص373، الكبائر للذهبي ص17. [7] تربية الذات؛ محمد حامد الناصر ص 158.



شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن