أرشيف المقالات

ما لا يراه الشاطبي شرطا للاجتهاد (1)

مدة قراءة المادة : 18 دقائق .
2ما لا يراه الشاطبي شرطا للاجتهاد (1)
هنا نبين ما استثناه الشَّاطبي من جملة الشروط المعتبرة في صحة الاجتهاد ووقوعه موقعًا صحيحًا، وقد نص الشَّاطبي على أمرين لا يراهما من جملة شروط الاجتهاد: أولهما: الإيمان، وثانيهما: العدالة.   الإيمان: الإيمان أصله من أمن، وله معنيان متقاربان: أولهما: الأمانة، وهي ضد الخيانة، ومعناها: سكون القلب. والثاني: التصديق[1]. والإيمان الشرعي بمعنى التصديق، وفيه من المعنى الأول أيضًا؛ لأن في التصديق طمأنينة القلب وراحته. والإيمان في عُرْف أهل السنة: تصديقٌ بالجَنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان[2]. وقد كان رأيُ الشَّاطبي في الإيمان واشتراطه لنيل رتبة الاجتهاد مثارَ إشكال عند الباحثين[3].   ولعلنا فيما يلي نبين رأي الشَّاطبي هل هو حقًّا لا يَشترط هذا الشرط، أو أن الحال بعكس ذلك؟ رأي الشَّاطبي: قال الشَّاطبي: "وقد أجاز النظَّار وقوع الاجتهاد في الشريعة من الكافر المنكر لوجود الصانع والرسالة والشريعة إذا كان الاجتهاد إنما ينبني على مقدمات تفرض صحتها كانت كذلك في نفس الأمر أولًا، وهذا أوضح من إطناب فيه"[4]. فظاهرُ لفظه هذا يفيد أن الإيمان ليس شرطًا في صحة الاجتهاد في الشريعة، ولكن في الحقيقة إثبات هذا رأيًا للشاطبي لا يخلو من إشكالات: أولًا: أن طبعات الكتاب أثبتت لفظة: "النظار" بالراء[5]، ومعناه أن الشَّاطبي ينقل هذا الرأي عن جميع النظار، ولكن ذكر د/ محمد سلام مدكور لفظ الشَّاطبي وأثبته بالميم: "النظام"[6]، فيكون النقل عن النظام الأصولي المعتزلي، وحينئذ فلا يلزم أن يكون رأيًا للشاطبي مقرًّا عليه النظام.   ثانيًا: أن الشَّاطبي قد ساق هذا الرأي مساق التأييد لقاعدة يريد تأصيلها، ومن المعلوم أنه لا يشترط أن يكون مسلِّمًا بكل ما جمع لها من أدلة. ثالثًا: أن الشَّاطبي قد نقل هذا الرأي عن النظار، وعلماء الشريعة على شرطية الإسلام والإيمان لصحة الاجتهاد[7]، بل صرح ابن حمدان بذكر الإجماع[8]، وحسب تتبعي فإني لم أرَ أحدًا يخالف في ذلك[9]. وإذا كان الأمر كذلك، فمن النظار حينئذ؟ وهل يمكن أن يغيب عن نظر الشَّاطبي قول علماء الإسلام قاطبة، لا سيما وهو قد قال: "وهذا أوضحُ من إطناب فيه"[10]؟! فهو يرى أنه أمر بمنتهى الوضوح، ولا يستحق الإطالة فيه. وهل يمكن أن يصنع ذلك مع إجماع الأمة، أو قول الأكثر على فرض عدم إقراره بالإجماع؟ ثم هل يمكن أن يهمِّش الشَّاطبي القول الثاني مع جلالة قائليه وكثرتهم؟ لا سيما وأن أصحاب القول الثاني - كما يتضح من أقوالهم - يعُدُّونه أمرًا مسلَّمًا به، لا شك أن هذا فيه بُعْدٌ واضح.   رابعًا: أن الشَّاطبي قد قال: "الإيمان أصل الدين، ثم إنك تجده وسيلة وشرطًا في صحة العبادات حسبما نصوا عليه"[11]. ولا ريب أن الاجتهاد في الشريعة عبادة شرعية، وهو قد أثبت هنا أن العبادات من شرط صحتها الإيمان، وعلى هذا فالإيمان من شرط الاجتهاد.   وحينئذ فكلامه هنا معارض لكلامه هناك، وبما أن كلامه هنا أصرح وأقطع عن الاحتمالات، فيحتاج كلامه في النص الأول إلى جمع وتوفيق مع النص الثاني، ويمكن أن يكون الجمع بأحد احتمالات: الأول: أن يكون النقل في النص الأول عن النظام، ولا يعني النقل عنه إقراره عليه، بل إنما نقله من أجل تثبيت قاعدته. الثاني: أن يحمل كلامه في النص الأول على الاجتهاد مطلقًا، لا الاجتهاد الشرعي. الثالث: أن يحمل كلامه على وقوع الاجتهاد في الأحكام عمومًا، لا على صحة الاجتهاد في الشريعة.   والاحتمال الأول لا دليل عليه، بل فيه ضعف؛ لأن الشَّاطبي قد قرر تأييده حين قال: "وهذا أوضح من إطناب فيه"[12]. أما الاحتمال الثالث فيؤيده: أن لفظة الشَّاطبي دقيقة في المراد - وهو قد عرف بدقة ألفاظه - حيث قال: "وقد أجاز النظار وقوع الاجتهاد في الشريعة"، فلفظة: "وقوع" لا يلزم منها الصحة؛ إذ قد يقع الاجتهاد ولا يكون صحيحًا. ويؤيد هذا قول الطوفي: "لا يشترط عدالة المجتهد في كونه مجتهدًا؛ لأن تصور الأحكام واقتناصها بالأدلة يصح من العدل والفاسق، بل والكافر؛ ولهذا اجتهد الكفار في مِللهم، وصنفوا فيها الدواوين، وإنما تشترط عدالته لقبول فُتياه وإخباره أن هذا حكم الله عز وجل، وأن الدليل الشرعي دلَّ عليه"[13]. فالطوفي مع كونه نقل شرطية الإسلام عن الآمدي وأقره على ذلك[14]، إلا أنه هنا يقرر أن الاجتهاد في الأحكام قد يقع من الكافر بناءً على أدلة رأى هو أنها أدلة، وواضح من كلامه التفريق بين الوقوع والصحة؛ ولذلك ذكر أنه لا يقبل عنه إقرار بأن هذا حكم الله.   وعلى هذا فمراد الشَّاطبي - بناءً على هذا الاحتمال - هو أن الكافر قد يقع منه الاجتهاد في الأحكام، ولكن نسبة تلك الأحكام إلى الشارع لا تصح منه؛ لعدم أهليته لهذه النسبة، وبالتالي فهذا الاجتهاد لا قيمة له، فهو عديم الفائدة. وأقوى هذه الاحتمالات وأبعدها عن الاعتراضات - فيما أرى - هو الاحتمال الثاني، وهو أن يكون مراد الشَّاطبي بالاجتهاد هنا هو الاجتهاد بمعناه العام، ويؤيد هذا الاحتمال: أن كلام الشَّاطبي جاء في مساق كلامه عن تحقيق المناط؛ حيث قال: "فكما يصح للطبيب أن يسلِّمَ من العلم الطبيعي أن الأسطقصات[15] أربعة، وأن مزاج الإنسان أعدل الأمزجة فيما يليق أن يكون عليه مزاج الإنسان وغير ذلك من المقدمات، كذلك يصح أن يسلم المجتهد من القارئ أن قوله تعالى: ﴿ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ﴾ [المائدة: 6] بالخفض مروي على الصحة، ومن المحدِّث أن الحديث الفلاني صحيح أو سقيم، ومن عالم الناسخ والمنسوخ أن قوله: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ ﴾ [البقرة: 180] منسوخ بآية المواريث، ومن اللغوي أن القُرء يطلق على الطُّهر والحيض، وما أشبه ذلك، ثم يبني عليه الأحكام، بل براهين الهندسة[16] في أعلى مراتب اليقين، وهي مبنية على مقدمات مسلمة في علم آخر مأخوذة في علم الهندسة على التقليد، وكذلك العدد[17] وغيره من العلوم اليقينية، ولم يكن ذلك قادحًا في حصول اليقين للمهندس أو الحاسب في مطالب علمه، وقد أجاز النظار وقوع الاجتهاد في الشريعة من الكافر المنكر لوجود الصانع والرسالة والشريعة؛ إذ كان الاجتهاد إنما ينبني على مقدمات تفرض صحتها، كذلك كانت في نفس الأمر أو لا، وهذا أوضح من إطناب فيه"[18].   ومِن المعلوم أن تحقيق المناط قد يكون من منكر الشريعة، وقد يعتمد عليه عالم الشرع في تقرير حكم شرعي معين، كما قد يعتمد العالم الشرعي على قول طبيب كافر لا يعرف عنه الكذب ونحو ذلك، كما يؤيد هذا الاحتمال أننا لو قلنا بالاحتمال الثالث، لَمَا كان لرأيه هذا ثمرة؛ إذ لو وقع الاجتهاد مع عدم صحته لما كان له فائدة مطلقًا بخلاف اجتهاد الفاسق، وإذا لم يكن له ثمرة فليس بعلم على اصطلاح الشَّاطبي. إذا ثبت ما سبق، فإن الشَّاطبي على كلا الاحتمالين لا يكون مخالفًا لما قرره علماء الأصول في الباب، ولكن لفظ الشَّاطبي لما لم يكن واضحًا في مراده، تطرق إليه احتمال القول بصحة اجتهاد الكافر ومنكِرِ الشرع في الأحكام الشرعية.   دليل الشَّاطبي ومن وافقه: استدل الشَّاطبي على ما ذهب إليه من عدم شرطية الإيمان لوقوع الاجتهاد بدليل واحد، وهو: أنه لما كان الاجتهاد ينبني على مقدمات تفرض صحتها، سواء كانت كذلك في نفس الأمر، أو لا، صح وقوع الاجتهاد في الشريعة من الكافر المنكر للشريعة؛ إذ تصور الأحكام واقتناصها من الأدلة يصح من العدل والكافر والفاسق[19].   مناقشته: نوقش هذا الدليل من أوجه: الوجه الأول: أنه لا ثمرة لقولنا بجواز اجتهاد الكافر في الشريعة؛ إذ لا يجوز تقليد المسلمين له فيما استنبطه من أحكام شرعية، بل هو أمر لا يعقل أصلًا؛ إذ إن الكافر لا يؤمن بالشريعة حتى يعمل بها، فلا يكون كالفاسق إذًا من حيث إن الفاسق يعمل هو باجتهاد نفسه بخلاف الكافر[20]. مناقشته: هذا الوجه من المناقشة الموجه على دليل الشَّاطبي إنما يتوجه على الشَّاطبي إذا قلنا بالاحتمال الثالث، وهو وقوع الاجتهاد مع عدم صحته، أما لو قلنا بالاحتمال الثاني فلا يتوجه عليه ذلك؛ إذ ثمرة اجتهاد الكافر في تحقيق المناط بناء المجتهد الحكم الشرعي عليه.   الوجه الثاني: لا نسلِّم أن اجتهاد الكافر يعتبر اجتهادًا في الشريعة[21]. مناقشته: يمكن أن يناقش بأن غاية هذا الاعتراض المخالفة في الرأي دون إبطال دليل الخصم؛ ولذا فليس بشيء؛ إذ يمكن للخصم أن يقول: ونحن لا نسلم لك بعدم التسليم!   الوجه الثالث: أن قوله: "تفرض صحتها"، لا يكفي؛ بل لا بد من تأكد صحتها؛ حتى يكون متيقنًا أو ظانًّا صحة الحكم؛ لأن مجرد الفرض لا يؤدي إلى حكم مظنون، فضلًا عن متيقَّن[22].   رابعًا: أن قوله: "تفرض صحتها" يعود على ما استدل به بالنقض؛ لأن الكافر لا يعتقد صحة المقدمات التي ينبني عليها اجتهاده في الشريعة، وتلك المقدمات هي الكتاب والسنَّة وما تفرع عنهما[23]. مناقشته: يناقش بأن هذا يتوجه على الشَّاطبي على القول بالاحتمال الثالث لا الثاني.


[1] انظر: معجم مقاييس اللغة (1/ 133) مادة: "أمن". [2] انظر لتعريفه: الإيمان لأبي عبيد (53) الشريعة للآجري (119) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (4/ 911) شرح السنة للبغوي (1/ 39) التمهيد لابن عبدالبر (9/ 243) مجموع الفتاوى (7/ 308، 12/ 472) فتح الباري (1/ 47) شرح العقيدة الطحاوية (459) الحاوي في الفتاوي (2/ 115) نواقض الإيمان القولية والعملية (15). [3] انظر مثلًا: تعليق دراز على الموافقات (5/ 48 وما بعدها) الاجتهاد والتقليد في الإسلام للعلواني (51 هامش) الاجتهاد في الفقه الإسلامي للسليماني (55 هامش). [4] الموافقات (5/ 48 - 49). [5] انظر: طبعة دراز (4/ 80) وطبعة مشهور (5/ 48)، وقد بذلت جهدي في الوصول إلى مخطوطة للكتاب فلم أوفق. [6] الاجتهاد في التشريع الإسلامي (114). [7] انظر: بذل النظر (689) المستصفى (2/ 352) التمهيد (4/ 391) الإشارة (327) المحصول (6/ 25) أدب الفتوى (35) الإحكام (4/ 162) نفائس الأصول (9/ 3838 - 3839) نهاية الوصول (8/ 3830) شرح مختصر الروضة (3/ 583) الاستقامة (1/ 164، 2/ 188) نهاية السول (4/ 553 - 554) الإبهاج (3/ 256) شرح جمع الجوامع مع الآيات البينات (4/ 341) البحر المحيط (6/ 206) التحرير مع التقرير والتحبير (3/ 292) الرد على من أخلد إلى الأرض (93) مناهج العقول (3/ 273 - 274) غاية الوصول (148) شرح الكوكب المنير (4/ 464 - 467) تيسير التحرير (4/ 180) فواتح الرحموت (2/ 363) سلم الوصول (4/ 547، 553، 559). [8] صفة الفتوى (13). [9] إلا ما قد يفهم من كلام الطوفي في شرح مختصر الروضة (3/ 588)، وسيأتي الإشارة إليه. [10] الموافقات (5/ 49). [11] الموافقات (3/ 444). [12] الموافقات (5/ 49). [13] شرح مختصر الروضة (3/ 588). [14] انظر: شرح مختصر الروضة (3/ 583). [15] الأُسْطُقُصات كما أثبت الشاطبي أو الأُسْطُقُسات: بضم الألف وسكون السين وضم الطاء والقاف وفتح السين الثانية هكذا ضبطت بالحركات لا بالحروف في المعجم الوسيط، وهي لفظة يونانية بمعنى الأصل، وتسمى العناصر الأربع، التي هي الماء والتراب والهواء والنار، أسطقسات؛ لأنها أصول المركبات التي هي الحيوانات والنبات والمعادن، وأشار في المعجم إلى أنها معربة؛ انظر: التعريفات (39) كشاف اصطلاحات الفنون (1/ 105) المعجم الوسيط (1/ 17). [16] علم الهندسة: هو علم يعرف منه أحوال المقادير ولواحقها وأوضاع بعضها عند بعض، ونسبها وخواص أشكالها والطرق إلى عمل ما سبيله أن يعمل بها، واستخراج ما يحتاج إلى استخراجه بالبراهين اليقينية، وهو يبحث في الخطوط والأبعاد والسطوح والزوايا والكميات والمقادير المادية، وقد اتفقوا على أنه أقوى العلوم برهانًا؛ انظر: إحصاء العلوم (51) إرشاد القاصد (138) مفتاح السعادة (1/ 347) المعجم الوسيط (997). [17] علم العدد: وهو علم يتعلم منه أنواع العدد وأحوالها، وكيفية تولد بعضها من بعض، ومنه علم الحساب، وهو علم يتعرف منه كيفية مزاولة الأعداد، لاستخراج المجهولات الحسابية، من الجمع والتفريق والتناسب والضرب والقسمة؛ انظر: إحصاء العلوم (49) إرشاد القاصد (161) العبر وديوان المبتدأ والخبر (1/ 534) مفتاح السعادة (1/ 368). [18] الموافقات (5/ 47 - 49). [19] انظر: الموافقات (5/ 49)، وانظر: شرح مختصر الروضة (3/ 588). [20] انظر: تعليق دراز على الموافقات (5/ 48). [21] انظر: تعليق دراز على الموافقات (5/ 49). [22] انظر: تعليق دراز على الموافقات (5/ 49). [23] انظر: تعليق دراز على الموافقات (5/ 49).



شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن