أرشيف المقالات

تعريف المجتهد

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
2تعريف المجتهد   رأي الشَّاطبي: ليس للشاطبي تعريف خاص بالمجتهد، ولكن يمكن أن ينسحب عليه تعريف الاجتهاد مع إضافة ما يلزم، فيكون تعريف المجتهد هو: مَن استفرغ وسعه في تحصيل العلم، أو الظن بالحكم[1]. وقد مضى شرح هذا التعريف فيما سبق[2].   ولأن هذا التعريف لم ينص عليه الشَّاطبي، فإنني لن أقارن تعريفه بتعريفات الأصوليين على جهة التفصيل، بل سأكتفي بالمقارنة الإجمالية، وفيها أبين مَن وافقه في صياغة التعريف الذي خرجناه تعريفًا له قياسًا على تعريفه السابق للاجتهاد. وقد وافقه في صياغة التعريف الأسنوي؛ إذ عرفه بأنه: المستفرغ وسعه في درك الأحكام الشرعية[3]. والبدخشي إذ عرَّفه: بأنه الباذل تمام جهده في استنباط الحكم الشرعي الذي لا قاطع فيه[4]. والشوكاني حيث عرَّفه: بأنه الفقيه المستفرغ لوسعه لتحصيل ظن بحكم شرعي[5].   وخالفه في صياغة التعريف بعض الأصوليين: كالآمدي حيث عرَّفه: بأنه كل من اتصف بصفة الاجتهاد[6]. وتبِعه البخاري[7]، والطوفي، إلا أن الطوفي أضاف في آخره: "وحصَّل أهليته"[8]. وعرفه ابن حمدان بأنه: مَن حفِظ وفهِم أكثر الفقه وأصوله وأدلته في مسائل، إذا كانت له أهلية تامة يمكنه معرفة أحكام الشرع فيها بالدليل وسائر الوقائع إذا شاء[9]. وعرَّفه تقي الدين السبكي: بأنه مَن هذه العلوم ملكةٌ له، وأحاط بمعظم قواعد الشرع، ومارسها، بحيث اكتسب قوة يفهم بها مقصود الشارع[10]. وعرفه ابنه تاج الدين ابن السبكي - وتبعه الأنصاري[11] بأنه: البالغ العاقل، ذو ملكة يدرك بها المعلوم[12].   ويلاحظ على أصحاب التوجه الأول: أولًا: أن منهم من عمم لفظة "الأحكام"، وهو الأسنوي في تعريفه، ويلزم منه ألا يصدق التعريف على أحد ممن حصل الإجماع على كونه مجتهدًا؛ لأن الإحاطة بجميع الأحكام من قبيل المحال[13].   ثانيًا: قيَّد أصحاب هذا التوجه التعريف "بالمستفرغ وسعه" أو نحوها مما يصدق على المجتهد بالفعل، وعلى هذا فلا يصدق التعريف على المجتهد بالقوة، وهو مَن عنده ملكة، ولكنه لم يجتهد بالفعل[14].   ثالثًا: يتوجه على تعريف البدخشي أنه عبر في التعريف بما هو من مادة المعرف، ولا ينبغي هذا في التعريف.   رابعًا: يتوجه على تعريف الشوكاني أنه يلزم منه الدور؛ لأنه عرَّف المجتهد بالفقيه، والفقيه هو المجتهد عند الأصوليين. كما أنه قصر ما يتحصل للمجتهد على الظن دون العلم، وفيه نظر؛ لأن المجتهد قد ينتهي في اجتهاده إلى العلم.   ويلاحظ على أصحاب التوجه الثاني: أولًا: أن تعريف الآمدي ومن تبعه لا يفي بالغرض؛ لأن صفة الاجتهاد مجهولة.   ثانيًا: أما تعريف ابن حمدان فيلاحظ عليه: أن فيه طولًا، والأَولى الاختصار في التعريف، كما أنه عرف المجتهد بذكر شروطه، وهي خارجة عن الماهية. كما أن التعريف حوى شرطًا مختلَفًا فيه، وهو حفظ الفروع، ثم إن قوله: "له أهلية تامة يمكنه معرفة أحكام الشرع" مُغْنٍ عن ذكر الحفظ والفهم لأكثر الفقه والأصول؛ لأن صاحب الأهلية لا بد أن يكون مستوفيًا لشروط الاجتهاد.   ثالثًا: يلاحظ على تعريف التقي السبكي أن فيه طولًا يمكن اختصاره، فلو عرَّفه بأنه مَن له ملكة تكسبه قوة يفهم بها مقصود الشرع، لكان في ذلك غُنية عن الإطالة؛ لأن تلك الملكة حاصلة له بإحاطته بقواعد الشرع وممارسته لها، وبمعرفته بالعلوم المعِينة له على الاجتهاد.   رابعًا: أما تعريف ابن السبكي فهو تعريف جيد، لكنه لا يخلو من ملحوظتين: الأولى: أنه لو اقتصر على قوله "المكلف" بدلًا من قوله: "البالغ العاقل"، لكان أكثر اختصارًا، لا سيما أن الاختصار في التعريفات مطلوب. وقد يقال: يكفي عن هذا الشرط قوله: "ذو ملكة يدرك"؛ لأن هذه الملكة الحاصلة بمعرفة الشرع، والتمكن من الاستنباط، وذلك الإدراك، لا يمكن حصولهما إلا ممن هو مكلف.   الثانية: أن قوله: "المعلوم" معناه: ما من شأنه أن يعلم، فيكون اللفظ عامًّا للاجتهاد في الأحكام الشرعية وغيرها.   هذه هي أهم التعريفات[15]، وكلها لا يخلو من نقاش؛ ولذا فأرى أن يكون التعريف الأنسب هو: مَن له ملكة يدرك بها مقصود الشرع. والملكة: أصلها من ملك، وهو أصل يدل على قوة في الشيء وصحة، ثم قيل: ملك الإنسان الشيء إذا حازه وانفرد بالتصرف فيه، وهو بكسر الميم وضمها: ما يُملَك ويُتصرَّف فيه[16]. والملَكة في الاصطلاح: صفة راسخة للنفس، تحصل هيئة - أي صفة - بسبب فعل من الأفعال، أو هي استعداد عقلي خاص لتناول أعمال معينة بحذق ومهارة[17].   وصاحب الملَكة هو من حصل العلوم المعينة على فهم مقاصد الشريعة، وعلى الاجتهاد في الأحكام، سواء كان ذلك في مسألة معينة أو في عموم الأحكام الشرعية، وعلى هذا فيندرج في هذا اللفظ المجتهد بالفعل، والمجتهد بالقوة، كما يندرج فيه المجتهد المطلق، والمجتهد في مسألة أو باب أو نحو ذلك، وهذا بناءً على الصحيح مِن أن الملكة تتجزأ[18]، والله تعالى أعلم.


[1] انظر: الموافقات (5/ 51). [2] انظر: تعريف الاجتهاد (ص 86) من هذا البحث. [3] نهاية السول (4/ 528) وتبعه أبو النور زهير في أصول الفقه له (4/ 188). [4] مناهج العقول (3/ 261). [5] إرشاد الفحول (491). [6] الإحكام (4/ 162). [7] انظر: كشف الأسرار (4/ 26). [8] شرح مختصر الروضة (3/ 577). [9] صفة الفتوى (15). [10] جمع الجوامع مع شرح المحلي والآيات البينات (4/ 337 - 338). [11] لب الأصول مع غاية الوصول (147). [12] جمع الجوامع مع شرح المحلي والآيات البينات (4/ 336). [13] انظر: سلم الوصول (4/ 528). [14] انظر: سلم الوصول (4/ 528). [15] ثَم تعريفات أخرى لبعض المعاصرين، فانظر: الاجتهاد في التشريع الإسلامي (105) أصول الفقه الإسلامي لبدران أبو العينين (411) الوجيز في أصول الفقه (402). [16] انظر: معجم مقاييس اللغة (5/ 351) المصباح المنير (579) المعجم الوسيط (886) مادة: "ملك". [17] ويقال لتلك الهيئة عند الحكماء: كيفية نفسانية، فإن كانت سريعة الزوال سُمِّيت حالة، وإن كانت بطيئة الزوال وحصل لها الرسوخ بالتكرار وممارسة النفس تسمى مَلَكة، وتسمى بالقياس إلى ذلك الفعل عادةً وخُلقًا؛ انظر: التعريفات (296) المعجم الوسيط (886) مادة: "ملك"، معجم لغة الفقهاء (459). [18] انظر: الآيات البينات (4/ 337).



شارك الخبر

مشكاة أسفل ١