أرشيف المقالات

الثقة في رزق الله

مدة قراءة المادة : 26 دقائق .
2الثقة في رزق الله   الحَمدُ لله الذي أكمَل لنا الدِّين، وأتمَّ علينا النِّعمةَ، وجعل أُمَّتنا خَيرَ أمَّةٍ، وبعث فينا رسولًا منَّا يتلو علينا آياته، ويُزكِّينا ويُعلِّمنا الكتابَ والحِكمة. والصَّلاةُ والسَّلام على نبيِّنا مُحَمَّد، الذي أرسله ربُّه شاهدًا ومبشِّرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا.   أما بعدُ: فإنَّ الله تعالى خَلقَ جميعَ المخلوقات، وقدَّر لهم أرزاقَهم إلى يوم الدين، فلا تزيد هذه الأرزاقُ ولا تنقص عمَّا قَدَّره الله سبحانه لعباده، مِن أجل ذلك أحببتُ أن أُذَكِّر نفسي وأحبابي طلاب العِلم الكرام بوجوب الثقة في رزق الله تعالى.   بسم الله الرحمن الرحيم معنى الرزق: الرِّزقُ: العطاءُ؛ وهو كلُّ ما يَنتفِعُ به المسلمُ مِن الحلال. يُقالُ: رِزقُ الله، أي: عطاءُ الله تعالى؛ [لسان العرب؛ لابن منظور - جـ 10 - صـ 115]. قال الله تعالى: ﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [البقرة: 3]، قَولُه: ﴿ رَزَقْنَاهُمْ ﴾ [البقرة: 3]، أي: أعطَيناهم.   الرزَّاق من أسماء الله الحسنى: قال الله تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذاريات: 56 - 58]. قَولُه تعالى: ﴿ الرَّزاقُ ﴾ [الذاريات: 58]، أي: الذي يُعطي خَلقَه مِن غير احتياجٍ إليهم. قَولُه تعالى: ﴿ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذاريات: 58]، أي: الشَّديدُ القَويُّ؛ [تفسير القرطبي - جـ17 - صـ 56]. روى الترمذيُّ عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: غَلا السِّعرُ على عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، سعِّر لنا، فقال: ((إنَّ الله هو المُسعِّرُ، القابضُ، الباسِطُ، الرَّزاقُ، وإنِّي لأرجو أن ألقَى ربِّي وليس أحَدٌ منكم يَطلُبُني بمظلمةٍ في دَمٍ ولا مالٍ)). [حديث صحيح - صحيح الترمذي؛ للألباني حديث: 1059].   أرزاق المخلوقات عند الله تعالى: (1) قال الله تعالى: ﴿ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ﴾ [الذاريات: 22، 23]. قال الحسن البصري رحمه الله: "السَّحاب فيه واللهِ رِزقُكم، ولكنَّكم تُحرَمونه بخَطاياكم وأعمالكم". [تفسير الطبري - جـ 21 - صـ 521]. قال ابن جرير الطبري رحمه الله: يَقولُ تعالى ذِكرُه مُقسِمًا لخَلقِه بنفسِه: ﴿ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الذاريات: 23] إنَّ الذي قُلتُ لكم أيُّها الناسُ: إنَّ ﴿ فِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ﴾ [الذاريات: 22] لحَقٌّ، كما حَقٌّ أنَّكم تَنطِقون؛ [تفسير الطبري - جـ 21 - صـ 523].   (2) قال الله تعالى: ﴿ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ﴾ [فصلت: 9، 10]. قال عِكرمة رحمه الله في قَوله: ﴿ وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ﴾ [فصلت: 10]: "في كلِّ أرضٍ قوتٌ لا يَصلُحُ في غَيرِها"؛ [تفسير الطبري - جـ 20 - صـ 387]. قال ابن جرير الطبري رحمه الله: الله تعالى أخبَر أنَّه قَدَّر في الأرضِ أقواتَ أهلها؛ وذَلك ما يَقوتُهم من الغِذاء، ويصلحُهم من المعاشِ، ولم يُخَصِّص جَلَّ ثَناؤه بقَوله: ﴿ وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ﴾ [فصلت: 10] أنَّه قَدَّر فيها قوتًا دون قوتٍ؛ بَل عمَّ الخَبَرُ عن تَقديرِه فيها جَميع الأقواتِ، ومما يَقوتُ أهلُها ما لا يصلحُهم غَيرُه من الغِذاء؛ وذَلك لا يَكونُ إلا بالمطَرِ والتَّصرُّفِ في البلادِ لما خَصَّ به بَعضًا دون بَعضٍ، ومما أخرجَ من الجِبال من الجَواهرِ، ومن البَحرِ من المآكل والحُليِّ؛ [تفسير الطبري - جـ 20 - صـ 388].   (3) قال الله تعالى: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [هود: 6]. • قال ابن كثير رحمه الله: أخبَر تعالى أنَّه مُتَكفِّلٌ بأرزاقِ المخلوقاتِ، مِن سائرِ دَوابِّ الأرضِ؛ صغيرِها وكبيرِها، بَحريِّها وبَريِّها. قَولُه: ﴿ يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ﴾ [هود: 6]. • قال عبدالله بن عباسٍ رضي الله عنهما: ﴿ وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا ﴾ [هود: 6]، أي: حَيثُ تَأوي، ﴿ وَمُسْتَوْدَعَهَا ﴾ [هود: 6]؛ حَيثُ تَموتُ. [تفسير ابن كثير - جـ 4 - صـ 305].   عظمة قدرة الله في رزقه: قال تعالى: ﴿ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ * وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ * وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ﴾ [الحجر: 19 - 21]. قال الإمامُ القرطبي رحمه الله: قَولُه تعالى: ﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ ﴾ [الحجر: 21]، أي: وإن من شيء من أرزاقِ الخَلقِ ومنافِعِهم إلَّا عِندَنا خَزائنُه. [تفسير القرطبي - جـ 10 - صـ 14].   روى مسلمٌ عن أبي ذَر الغفاري رضي الله عنه عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فيما روى عنِ الله تَبارك وتعالى أنَّه قال: ((يا عِبادي، كلُّكم ضالٌّ إلَّا مَن هدَيتُه، فاستَهدوني أهدِكم، يا عِبادي، كلُّكم جائعٌ إلَّا مَن أطعمتُه، فاستَطعِموني أُطعِمكم، يا عِبادي، كلُّكم عارٍ إلَّا مَن كسوتُه، فاستَكسوني أكسُكم، يا عِبادي، إنَّكم تُخطِئون بالليل والنَّهارِ وأنا أغفِرُ الذُّنوبَ جَميعًا، فاستَغفِروني أغفِر لكم، يا عِبادي، إنَّكم لن تَبلُغوا ضَري فتَضُروني، ولن تَبلُغوا نفعي فتَنفعوني، يا عِبادي، لو أنَّ أوَّلكم وآخِركم وإنسكم وجِنَّكم كانوا على أتقَى قَلب رجُلٍ واحِدٍ منكم، ما زادَ ذَلك في مُلكي شَيئًا، يا عِبادي، لو أنَّ أوَّلكم وآخِركم وإنسكم وجِنَّكم كانوا على أفجَرِ قَلب رجُلٍ واحِدٍ، ما نقَص ذَلك من مُلكي شَيئًا، يا عِبادي، لو أنَّ أوَّلكم وآخِركم وإنسكم وجِنَّكم قاموا في صعيدٍ واحِدٍ فسألوني فأعطَيتُ كلَّ إنسانٍ مسألتَه، ما نقَص ذَلك مما عِندي إلا كما يَنقُصُ المخيَطُ إذا أُدخِل البَحر، يا عِبادي، إنَّما هيَ أعمالُكم أُحصيها لكم، ثُمَّ أوفيكم إياها، فمَن وجَدَ خَيرًا، فلْيَحمدِ اللهَ، ومَن وجَدَ غَير ذَلك، فلا يَلومنَّ إلا نفسه))؛ [مسلم حديث 2577].   • قال الإمامُ النووي رحمه الله: قَولُه تعالى: ((ما نقَص ذَلك ممَّا عِندي إلَّا كما يَنقُصُ المخيَطُ إذا أُدخِل البَحر)) المِخيَطُ بكسرِ الميم وفتحِ الياء؛ هو الإبرةُ، قال العُلماءُ: هذا تَقريبٌ إلى الأفهام ومعناه لا يُنقِصُ شَيئًا أصلًا؛ كما قال في الحَديثِ الآخَرِ: ((لا يَغيضُها نفقَةٌ))، أي: لا يَنقُصُها نفقَةٌ؛ لأنَّ ما عِندَ الله لا يَدخُلُه نقصٌ وإنَّما يَدخُلُ النَّقصُ المحدودَ الفانيَ، وعطاءُ الله تعالى مِن رحمتِه وكرمه، وهما صِفتان قَديمتان لا يَتَطَرَّقُ إليهما نقصٌ، فضَربَ المثَل بالمخيَط في البَحر؛ لأنَّه غايَةُ ما يُضربُ به المثَلُ في القِلَّة، والمقصود التقريب إلى الإفهام بما شاهدوه؛ فإنَّ البَحر مِن أعظَم المرئيات عيانًا وأكبَرِها، والإبرة من أصغَرِ الموجودات، مع أنَّها صقيلةٌ لا يَتَعلقُ بها ماءٌ؛ [مسلم بشرح النووي - جـ 16 - صـ 133].   الله تعالى يرزق المخلوقات الضعيفة بلا سبب: قال الله تعالى: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [العنكبوت: 60]. • قال الإمامُ ابن كثير رحمه الله: قَولُه: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا ﴾ [العنكبوت: 60]، أي: لا تُطيقُ جَمعه وتَحصيله، ولا تُؤخِّرُ شيئًا لغَدٍ. قَولُه:﴿ اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ ﴾ [العنكبوت: 60] أي: الله يقيِّضُ لها رزقَها على ضَعفِها، ويُيَسِّرُه عليها، فيَبعث إلى كلِّ مخلوقٍ من الرِّزق ما يُصلحه، حَتى الذَّر في قَرار الأرض، والطَّير في الهواء والحيتان في الماء؛ [تفسير ابن كثير - جـ 6 - صـ 292]. الله تعالى يرزقُ الرَّضيعَ الضعيف لبنًا صافيًا ليكون طعامه وشرابه، وكذلك يَرزقُ سبحانه الطيورَ والحيوانات العمياء والضعيفة التي لا تستطيع أن تَسعى للحصول على أرزاقها؛ وهذا أمرٌ معلومٌ لجميع الناس.   نبينا صلى الله عليه وسلم يحثنا على الثِّقة برزق الله: (1) روى مسلم عن عبدالله بن عمرو بن العاصِ رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقولُ: ((كتَبَ الله مقاديرَ الخَلائقِ قَبل أن يَخلُقَ السَّماوات والأرضَ بخَمسين ألف سنةٍ))، قال: ((وعرشُه على الماء))؛ [مسلم حديث 2653].   (2) روى الشيخان عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادِقُ المصدوقُ: ((إنَّ أحدكم يُجمعُ خَلقُه في بَطن أُمِّه أربعين يَومًا، ثُمَّ يكون علقَةً مثل ذَلك، ثُمَّ يكون مُضغَةً مثل ذَلك، ثُمَّ يبعثُ الله ملَكًا فيؤمرُ بأربَعِ كلماتٍ، ويُقال له: اكتُب عمله ورِزقَه وأجَله وشقيٌّ أو سعيدٌ، ثُمَّ يُنفخُ فيه الروحُ؛ فإنَّ الرَّجُل منكم ليعملُ حتى ما يكون بَينه وبَين الجَنَّةِ إلَّا ذِراعٌ فيسبقُ عليه كتابُه فيعملُ بعمل أهل النارِ، ويعملُ حتى ما يكون بَينه وبَين النارِ إلا ذِراعٌ فيَسبقُ عليه الكتابُ فيعملُ بعمل أهل الجَنَّةِ))؛ [البخاري حديث 3208/ مسلم حديث 2643].   (3) روى أبو نعيم عن أبي أُمامةَ الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ روحَ القُدُسِ (أي جبريل) نفثَ (ألقى) في روعي (قلبي) أنَّ نفسًا لن تَموتَ حتى تَستَكمل أجَلها وتَستَوعب رِزقَها، فأجملوا في الطَّلب، ولا يحملنَّ أحدكمُ استِبطاءُ الرِّزقِ أن يطلُبَه بمعصيةٍ؛ فإنَّ الله لا يُنالُ ما عِنده إلا بطاعتِه))؛ [حديث صحيح - صحيح الجامع للألباني، حديث: 2085].   (4) روى الطبراني عن أبي الدَّرداء رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ الرِّزقَ ليطلُبُ العبدَ أكثر مما يطلُبُه أجَلُه))؛ [حديث حسن - صحيح الجامع للألباني، حديث 1630]. • قال عبدالرؤوف المناويُّ رحمه الله: "لأنَّ الله تعالى وعد به وضَمنه، ووعدُه لا يتخَلَّف، وضَمانه لا يتأخَّرُ". [فيض القدير - عبدالرؤوف المناوي - جـ 4 - صـ 71].   (5) روى الحاكمُ عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تَستَبطئوا الرِّزقَ؛ فإنَّه لم يكن عبدٌ ليموتَ حتى يبلُغ آخر رِزقٍ هو له، فاتَّقوا الله وأجملوا في الطَّلب؛ أخذُ الحلاَل وتَرك الحرام))؛ [حديث صحيح - صحيح الجامع للألباني، حديث: 7323].   (6) روى الطبراني وأبو نعيم عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: أضاف النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ضَيفًا، فأرسل إلى أزواجه يبتَغي عِندهنَّ طَعامًا، فلم يجِد عند واحِدةٍ منهنَّ، فقال: ((اللهمَّ إني أسألُك مِن فضلك ورحمتِك، فإنَّه لا يملكها إلا أنتَ))، قال: فأُهدي إليه شاةٌ مصليَّةٌ (أي مشويَّةٌ)، فقال: ((هذِه مِن فضل الله، ونحن ننتَظِرُ الرَّحمةَ)). [حديث صحيح - السلسلة الصحيحة للألباني - جـ 4 - صـ 57 - حديث 1543].   ثقة الصحابة في رزق الله: روى الترمذيُّ عن عُمر بن الخَطاب رضي الله عنه قال: أمرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن نتَصدَّق، فوافقَ ذَلك عِندي مالًا، فقُلتُ: اليوم أسبقُ أبا بَكرٍ إن سبَقتُه يومًا، قال: فجِئتُ بنصفِ مالي، فقال: رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أبقَيتَ لأهلك؟))، قُلتُ: مثلَه، وأتى أبو بَكرٍ بكلِّ ما عِنده، فقال: ((يا أبا بَكر، ما أبقَيتَ لأهلك؟))، قال: أبقَيتُ لهم اللهَ ورسوله (أي: رِضاهما)، قُلتُ: والله لا أسبقُه إلى شيءٍ أبَدًا. [حديث حسن - صحيح الترمذي للألباني، حديث 2902].   الثقة بالرزق عند سلفنا الصالح: سوف نذكر بعض أقوال سلفنا الصالح في الرزق: (1) قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "إن العبد ليَحرم نفسه الرِّزقَ الحلال بترك الصبر، ولا يزداد على ما قُدِّر له". [ربيع الأبرار - جار الله الزمخشري - جـ 5 - صـ 337].   (2) قال عبدُالله بن مسعودٍ رضي الله عنه: "اليقين أن لا تُرضي الناسَ بسخَطِ الله، ولا تَحمد أحدًا على رِزق الله، ولا تَلُم أحدًا على ما لم يؤتِك الله عزَّ وجَل؛ فإنَّ الرِّزقَ لا يسوقُه حِرصُ حريصٍ، ولا يرُدُّه كراهيةُ كارهٍ، فإنَّ الله تَبارك وتعالى بقِسطه وعِلمه وحِلمه جَعل الرَّوح والفرجَ في اليقين والرِّضا، وجَعل الهمَّ والحزَن في الشَّكِّ والسُّخطِ"؛ [اليقين - لابن أبي الدنيا - صـ 47 - رقم: 31].   (3) قال أبو سعيدٍ الخدري رضي الله عنه: "أيُّها الناسُ لا تَحملنَّكم العُسرةُ على طَلب الرِّزقِ من غَيرِ حِلِّه". [غذاء الألباب - للسفاريني - جـ 2 - صـ 527].   (4) روى سعيد بن منصور عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه سُئل عن هذه الآية: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾ [النحل: 97]؟ فقال: "الحياةُ الطَّيبة: الرِّزقُ الحلال، وإذا صار إلى ربِّه جازاه بأحسن ما كان يعمل"؛ [سنن سعيد بن منصور - رقم: 1247].   (5) كان عطاءُ الخُراسانيُّ رحمه الله لا يقومُ من مجلسِه حتى يقول: "اللهمَّ هَب لنا يقينًا بك حتى تَهون علينا مُصيبات الدُّنيا، وحتى نعلم أنَّه لا يُصيبُنا إلا ما كُتِبَ لنا علينا، ولا يأتينا من هذا الرِّزقِ إلا ما قَسمتَ به"؛ [اليقين - لابن أبي الدنيا - صـ 41 - رقم: 20].   (6) قال عامرُ الشَّعبيُّ رحمه الله: "التِّجارةُ نصفُ الرِّزقِ"؛ [إصلاح المال - لابن أبي الدنيا - صـ 78 - رقم: 238].   (7) قال الفُضَيلُ بن عياض رحمه الله: "لم يتَزَيَّن الناسُ بشيءٍ أفضَل من الصِّدقِ، وطَلب الحلال"؛ [شعب الإيمان للبيهقي - جـ 4 - صـ 232 - رقم 4900].   (8) قال عبدالرَّحمن بن زَيد بن أسلم رحمه الله: "حقٌّ على العبد أن يعمل بالنِّعم التي هي في بَدنه لله في طاعتِه، ونعمةٌ أُخرى في الرِّزقِ، حقٌّ عليه أن يعمل لله بما أنعم بَه عليه من الرِّزقِ في طاعتِه؛ فمن عمل بهذا فقَد أخَذَ بحزم الشُّكرِ، وفرعِه، وأصله"؛ [الشكر - لابن أبي الدنيا - صـ64 - رقم: 188].   (9) قال ابن هرمُز رحمه الله: "إني لأعجَبُ للإنسان أن يُرزَقَ الرِّزقَ الحلال، فيرغَب في الرِّبحِ، فيدخَلُ في الشَّيء اليسير مِن الحرام فيُفسِدُ المالَ كله"؛ [تاريخ الإسلام - للذهبي - جـ 3 - صـ 448].   (10) قال مُحمَّدُ بن الحُسين رحمه الله: "سُئل بَعضُ الحُكماء عن أفضَل العِبادة؟ قال: بَذلُ الحيلةِ في طَلب الحلال، وقِلةُ الحوائجِ إلى الناس"؛ [المجالسة للدينوري - جـ 6 - صـ 420 - رقم: 2849].   الثقة برزق الله في عيون الشعر: (1) قال الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه: فلا تَجزَع وإن أُعسِرتَ يومًا فقَد أيسرتَ في الزَمن الطَّويلِ ولا تَيئَس فإنَّ اليأس كفرٌ لعلَّ الله يغني من قَليلِ ولا تَظنُنْ بربِّك غَير خَيرٍ فإنَّ الله أولى بالجَميل [ديوان علي بن أبي طالب - صـ 114].   (2) قال عمرُ بن أبي عمر النوفاني رحمه الله: غلا السِّعرُ في بغداد مِن بعد رُخصِه وإنِّي لفي الحالين بالله واثقُ فلست أخافُ الضيقَ والله واسعٌ غناه ولا الحِرمان والله رازقُ [ربيع الأبرار - جار الله الزمخشري - جـ 5 - صـ 341].   (3) يقول الشاعِرُ: واللهِ والله أيمانٌ مُكرَّرةٌ ثَلاثَةٌ عن يمينٍ بَعد ثانيها لو أنَّ في صخرةٍ صَمَّا مُلملمةٍ في البَحرِ راسية ملسٌ نواحيها رِزقًا لعبدٍ بَراها الله لانفلقَتْ حتى تؤدَّي إليه كلَّ ما فيها أو كان فوق طِباقِ السَّبعِ مسلكها لسهَّل الله في المرقَى مراقيها حتى ينال الذي في اللَّوحِ خُطَّ له فإنْ أتَتْه وإلَّا سوف يأتيها [موارد الظمآن - عبدالعزيز السلمان - جـ 3 - صـ 278].   الابتلاء بالتضييق في الرِّزق: قد يكون التضييقُ في الرِّزقِ اختبارًا من الله تعالى لبعض عباده الصالحين. قال تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 155 - 157].   • قال الإمامُ ابن كثير رحمه الله: "أخبَر تعالى أنَّه يبتَلي عِبادَه المؤمنين، أي: يختَبرُهم ويمتَحِنهم، فتارةً بالسَّراء، وتارةً بالضَّراء من خَوفٍ وجوعٍ؛ فإنَّ الجائع والخائف كلٌّ منهما يظهرُ ذَلك عليه؛ ولهذا قال: ﴿ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ ﴾ [النحل: 112]، وقال هاهنا: ﴿ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ ﴾ [البقرة: 155]، أي: بقَليلٍ من ذَلك، ﴿ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ ﴾ [البقرة: 155]، أي: ذَهاب بَعضِها، ﴿ وَالْأَنْفُسِ ﴾ [البقرة: 155]؛ كموتِ الأصحاب والأقارِب والأحباب، ﴿ وَالثَّمَرَاتِ ﴾ [البقرة: 155]، أي: لا تُغِلُّ (لا تُثمر) الحدائقُ والمزارِعُ كعادتِها، كما قال بَعضُ السَّلفِ: فكانت بَعضُ النَّخيل لا تُثمرُ غَير واحِدة؛ وكلُّ هذا وأمثالُه مما يختَبرُ الله به عِبادَه، فمَن صبَر أثابه الله ومَن قَنط أحل الله به عِقابَه؛ ولهذا قال: ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 155][تفسير ابن كثير - جـ 1 - صـ 467].   الشيطان يخوف المسلم من الفقر: قال الله تعالى: ﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 268]. • قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: "اثنان من الله، واثنان من الشَّيطان؛ الشَّيطان يعِدُكمُ الفقر، يقولُ: لا تُنفِق مالك، وأمسِكه عليك؛ فإنَّك تَحتاجُ إليه، ويأمُرُكم بالفحشاء، والله يعِدُكم مغفِرةً منه على هذِه المعاصي وفضلًا في الرِّزقِ"؛ [تفسير الطبري - جـ 5 - صـ 5].   • قال الإمامُ ابن جرير الطبري رحمه الله عند تفسيره لهذه الآية: "يعني بذَلك تعالى ذِكرُه: الشَّيطان يعِدُكم أيُّها الناسُ بالصَّدقَةِ وأدائكم الزَّكاةَ الواجِبة عليكم في أموالكم أن تَفتَقِروا، قَولُه: ﴿ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ ﴾ [البقرة: 268]، يعني: ويأمُرُكم بمعاصي الله عزَّ وجَل، وتَرك طاعتِه، قَولُه: ﴿ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ ﴾ [البقرة: 268]، يعني: أنَّ الله عزَّ وجل يعِدكم أيُّها المؤمنون أن يستر عليكم فَحشاءكم بصَفحِه لكم عن عُقوبَتِكم عليها، فيغفِر لكم ذُنوبَكم بالصَّدقَةِ التي تَتَصدَّقون، قَولُه: ﴿ وَفَضْلًا ﴾ [البقرة: 268]، يعني: ويعدِكم أن يُخلف عليكم مِن صدقَتِكم، فيتَفضَّل عليكم من عطاياه ويُسبغ عليكم في أرزاقِكم"؛ [تفسير الطبري - جـ 5 - صـ 5].   قَولُه تعالى: ﴿ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 268]، يعني تعالى ذِكرُه: واللهُ واسِعُ الفضل الذي يعِدُكم أن يُعطيكموه من فضله وسعةِ خَزائنه، عليمٌ بنفقاتِكم وصدقاتِكمُ التي تُنفِقون وتَصدَّقون بها، يُحصيها لكم حتى يُجازيكم بها عِند مقدمكم عليه في آخِرتِكم"؛ [تفسير الطبري - جـ 5 - صـ 8].   أسألُ اللهَ تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العُلا أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، كما أسأله سُبحانه أن ينفع به طلابَ العِلم. وآخِرُ دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين. وصلى الله وسلم على سيِّدِنا مُحمَّدٍ، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.



شارك الخبر

مشكاة أسفل ١