أرشيف المقالات

جهود أئمة الحديث في حفظ سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
2سلسلة الرد المجمل على الطاعنين في أحاديث صحيح البخاري (10) جهود أئمة الحديث في حفظ سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
يجب على المسلم أن يعلم أن الله حفظ كتابه وسنة رسوله بالعلماء العدول، من الصحابة ومن بعدهم وإلى يومنا هذا، وإلى أن تقوم الساعة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحم الله: لما كان القرآن متميزاً بنفسه - لما خصه الله به من الإعجاز الذي باين به كلام الناس كما قال تعالى: ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء: 88] وكان منقولاً بالتواتر - لم يطمع أحد في تغيير شيء من ألفاظه وحروفه؛ ولكن طمع الشيطان أن يُدخل التحريف والتبديل في معانيه بالتغيير والتأويل، وطمع أن يُدخل في الأحاديث من النقص والازدياد ما يُضل به بعض العباد.
فأقام الله تعالى الجهابذة النقاد أهل الهدى والسداد، فدحروا حزب الشيطان، وفرقوا بين الحق والبهتان، وانتدبوا لحفظ السنة ومعاني القرآن من الزيادة في ذلك والنقصان.
وقام كل من علماء الدين بما أنعم به عليه وعلى المسلمين - مقام أهل الفقه الذين فقهوا معاني القرآن والحديث - بدفع ما وقع في ذلك من الخطأ في القديم والحديث، وكان من ذلك الظاهر الجلي: الذي لا يسوغ عنه العدول؛ ومنه الخفي: الذي يسوغ فيه الاجتهاد للعلماء العدول.
وقام علماء النقل والنقاد بعلم الرواية والإسناد، فسافروا في ذلك إلى البلاد، وهجروا فيه لذيذ الرقاد، وفارقوا الأموال والأولاد، وأنفقوا فيه الطارف والتلاد، وصبروا فيه على النوائب، وقنعوا من الدنيا بزاد الراكب، ولهم في ذلك من الحكايات المشهورة، والقصص المأثورة، ما هو عند أهله معلوم، ولمن طلب معرفته معروف مرسوم.
((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (1/ 7).   وقال المحدث العلامة عبد الرحمن المعلمي اليماني رحمه الله تعالى كما في كتابه التنكيل (1/ 234): "ومَنْ مَارَسَ أحوال الرواية وأخبار رواة السنة وأئمتها؛ علم أنَّ عناية الأئمة بحفظها وحراستها، ونفي الباطل عنها، والكشف عن دخائل الكذابين والمتهمين؛ كانت أَضْعَافَ عنايةِ الناس بأخبار دنياهم ومصالحها.   وفي تهذيب التهذيب للحافظ ابن حجر (١/ ١٥٢): قال إسحاق بن إبراهيم: أخذ الرشيد زنديقا فأراد قتله فقال: أين أنت من ألف حديث وضعتها؟ فقال له: أين أنت يا عدو الله من أبي إسحاق الفزاري وابن المبارك ينخلانها حرفاً حرفاً؟!   وقيل لابن المبارك: هذه الأحاديث المصنوعة؟ قال: تعيش لها الجهابذة.
وتلا قول الله عز وجل: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر:9].   والذكر يتناول السنة بمعناه إن لم يتناولها بلفظه، بل يتناول العربية وكل ما يتوقف عليه معرفة الحق، فإن المقصود من حفظ القرآن أن تبقى الحجة قائمة والهداية دائمة إلى يوم القيامة لأن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء، وشريعته خاتمة الشرائع، والله عز وجل إنما خلق الخلق لعبادته فلا يقطع عنهم طريق معرفتها، وانقطاع ذلك في هذه الحياة الدنيا انقطاع لعلة بقائهم فيها.   قال الحافظ العراقي في شرح ألفيته (١/ ٢٦٧): روينا عن سفيان قال: ما ستر الله أحدا يكذب في الحديث". وقد أفنى علماء الحديث أعمارهم في جمع طرق الأحاديث، فالحديث الواحد قد يجمعون له عشرات الأسانيد عن مشايخهم الذين كانوا يرحلون إليهم في مختلف البلدان ليسمعوا منهم الأحاديث بأسانيدها، وربما جمعوا لبعض الأحاديث أكثر من مائة إسناد، وبذلك سهل عليهم معرفة الكذابين وتبين لهم خطأ من أخطأ بزيادة أو نقصان. قال الإمام علي بن المديني رحمه الله تعالى: "الباب إذا لم تُجْمَعْ طُرقُه لم يُتبيَّن خطؤُه".
ينظر: الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي (2/ 212).   وبجمع المحدثين للروايات كان يتبين لهم حال الرواة في الحفظ والإتقان، فمن وافق من الرواة أصحابه الذين يشاركونه في الرواية عن شيخهم تبين لهم ضبطه وإتقانه، فإن خالفهم بالزيادة والنقصان والخطأ تبين لهم ضعف حفظه، فإن أضاف إلى ذلك تفرده بروايات عن شيخهم الواحد ولم يذكرها غيره من طلاب ذلك الشيخ تبين لأهل الحديث كذب ذلك الراوي أو اتهموه بالكذب بحسب إكثاره من التفرد وبحسب مروياته ومخالفته لأقرانه الذين يروون عن شيخ واحد.   قال الإمام مسلم رحمه الله في مقدمة صحيحه (1/ 7): "وعلامة المنكر في حديث المحدث، إذا ما عُرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضا، خالفت روايته روايتهم، أو لم تكد توافقها، فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك كان مهجور الحديث، غير مقبوله".   وقال ابن أبي حاتم رحمه الله في مقدمة كتابه الجرح والتعديل (1/ 5 -7): "وجب أن نميز بين عدول الرواة وثقاتهم وأهل الحفظ والثبت والإتقان منهم، وبين أهل الغفلة والوهم وسوء الحفظ والكذب واختراع الأحاديث الكاذبة.
ولما كان الدين هو الذي جاءنا عن الله عز وجل وعن رسوله صلى الله عليه وسلم بنقل الرواة حُق علينا معرفتهم، ووجب الفحص عن الناقلة والبحث عن أحوالهم، وإثبات الذين عرفناهم بشرائط العدالة والثبت في الرواية مما يقتضيه حكم العدالة في نقل الحديث وروايته، بأن يكونوا أمناء في أنفسهم، علماء بدينهم، أهل ورع وتقوى وحفظ للحديث وإتقان به وتثبت فيه، وأن يكونوا أهل تمييز وتحصيل، لا يشوبهم كثير من الغفلات، ولا تغلب عليهم الأوهام فيما قد حفظوه ووعوه، ولا يشبه عليهم بالأغلوطات، وأن يُعزل عنهم الذين جرحهم أهل العدالة وكشفوا لنا عن عوراتهم في كذبهم، وما كان يعتريهم من غالب الغفلة وسوء الحفظ وكثرة الغلط والسهو والاشتباه، ليُعرف به أدلة هذا الدين".   وليُعرف أهل الكذب تخرصاً، وأهل الكذب وهماً، وأهل الغفلة والنسيان والغلط ورداءة الحفظ، فيُكشف عن حالهم، فيسقط حديث من وجب منهم أن يسقط حديثه ولا يُعبأ به ولا يُعمل عليه، ويُكتب حديث من وجب كتب حديثه منهم على معنى الاعتبار.   ثم احتيج إلى تبيين طبقاتهم ومقادير حالاتهم وتباين درجاتهم؛ ليُعرف من كان منهم في منزلة الانتقاد والبحث عن الرجال والمعرفة بهم، وهؤلاء هم أهل التزكية والتعديل والجرح، ويُعرف من كان منهم عدلاً في نفسه من أهل الثبت في الحديث والحفظ له والإتقان فيه.
ومنهم من قد ألصق نفسه بهم ودلسها بينهم ممن قد ظهر للنقاد العلماء بالرجال منهم الكذب، فهذا يُترك حديثه ويطرح روايته ويُسقط ولا يُشتغل به" انتهى بتصرف واختصار.   وقال الإمام عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله تعالى: "لا يجوز أن يكون الرجل إماما حتى يعلم ما يصح مما لا يصح, وحتى لا يحتج بكل شيء, وحتى يعلم مخارج العلم".
ينظر: المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي (1/ 179).   ومنكرو السنة يجهلون جهود العلماء قديما وحديثا في حفظ السنة النبوية أو يتجاهلون هذا ظلما وعلوا، ويريدون أن يُسقطوا السنة النبوية التي بها قوام الملة الإسلامية، فالإسلام كتاب وسنة ولو كره الكافرون والمبتدعون الضالون. ﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [الصف: 8، 9].   ونقول لمن يحاول إنكار السنة النبوية أو الطعن فيما صححه أئمة الحديث: يا نَاطِحَ الجَبَــلَ العالـــي ليَــكْلِمَه   *** أَشفِقْ على الرّأسِ لا تُشْفِقْ على الجَبَلِ



شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣