أرشيف المقالات

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
2إنما الأمم الأخلاق ما بقيت رفيع الدين حنيف القاسمي [1]   لا يكادُ المسلمُ يتبنَّى الأخلاقَ في حياته حتى يكون مرفوع الهامة، ومحفوظ الكرامة في المجتمع الإنساني، فلا يقدِرُ أحدٌ على أن يمسَّ كرامتَه وشرفَه، ويسلب عزَّه وعرضَه وأراضيه، ومهما تركَ الأخلاق، ونَبَذَ الصفات الحسنة وراء ظهرِه، واختارَ مساوئَ الأخلاق وسفاسفَها، فيقعُ في هوانِ الذلة والخزْيِ، فلا بدَّ له من التخلِّي عن الأخلاقِ الرذيلة، والتحلِّي بالأخلاقِ الفضيلة، ولن يُستعاد مجدُ المسلمين إلا بما استُعيدَ به في الزمن السالف، بالتحلي بالأخلاق الفاضلة، والتحاشي عن الأخلاق الرذيلة، وقد حثَّ نبيُّنا صلى الله عليه وسلم الأمةَ الإسلاميَّة على اختيار فضائل الأخلاقِ والتزيُّن بها، والتباعد عن سفاسف الأخلاق، فهذا شأن المسلم، فلا يكون المسلم كذابًا، خدَّاعًا، مكارًا، شتَّامًا، لعَّانًا، فاحشًا، ولا جوَّاظًا ولا جَعْظَرِيًّا، ولا يتَّسم بالعنف والشدة، والفُحش، والمكر، والخديعة، والغيبة...
وغيرها من مساوئ الأخلاق، ولا يعمل على الإضرار بالآخرين، بل يجعل وجودَه وكيانَه ممَّا يستفيد به الآخرون، فلا يمشي ولا يتحرك ولا يرفع قدمه إلا لإفادة الآخرين، ورفع الضرر عنهم، فلا تكون فكرتُه محصورةً في نفع ذاته، بل يتعدَّى نفعه إلى الآخرين، فهذا هو حُسن الخلق.   الدعوة إلى التحلِّي بالأخلاقِ الفاضلة: وقد دعا نبيُّنا صلى الله عليه وسلم المسلمَ إلى الاتِّصافِ بحسن الخلق، وجعل المتَّسِمين بالأخلاق الفاضلة من خيار المسلمين، أما حسنُ الخلق، فكما قال الملا على القاري في المرقاة: "هو الإنصاف في المعاملة، وبذل الإحسان، والعدل في الأحكام، والأَظْهَرُ أنه هو الاتباعُ بما أتى به صلى الله عليه وسلم من أحكام الشريعة، وآداب الطريقة، وأحوال الحقيقة" [2] ، فقال: ((إن مِن أحبِّكم إليَّ أحسنَكم أخلاقًا)) [3] ، وقال أيضًا: ((إن من خيارِكم أحسنَكم أخلاقًا)) [4] .   وعن رجلٍ من مزينة قال: قالوا: يا رسول الله، ما خيرُ ما أُعطِيَ الإنسانُ؟ قال: ((الخُلُقُ الحَسَنُ)) [5] . وعرَّف بنفسه صلى الله عليه وسلم التعريفَ الحسنَ الجامعَ للخلق الحسن، فعن النواس بن سمعان قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البِرِّ والإِثْمِ، فقال: ((البِرُّ حسنُ الخُلق، والإِثْمُ ما حَاكَ في صدرِك، وكَرِهْتَ أن يطَّلِعَ عليهِ النَّاس)) [6] .   إنَّما جعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم البرَّ مرادفًا للخلق الحسن، وجعل الإثم من نقيضِه، بحيث قال: إن الخلق الحسن هو البرُّ، والإثمُ ما أوقعك في التردُّدِ والشَّكِّ، وما لا يطمئن به قلبُكَ، ويكرهه.   الدعوة إلى التخلِّي عن سفاسف القول والعمل: كما دعا نبيُّنا صلى الله عليه وسلم إلى الخلق الحسن، والمدراة مع الرفقاء، ولين الجانب واللطف في أخذ الأمر بأحسنِ الوجوه وأيسرِها، فكذلك دعا المسلم إلى ترْكِ الفُحش في القول والعمل، والهذر في الكلام، وسوء الخلق، والبذاء، فعن حارثة بن وهب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنةَ الجوَّاظُ[7] الجَعْظَرِيُّ[8])) [9] .   وورد في رواية أخرى: عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إن أثقلَ شيءٍ يوضع في ميزان المؤمن يوم القيامةِ خلقٌ حسن، وإن الله يبغض الفاحش البذيء))[10].   يعني أن الله يُبغِضُ كلَّ من يتَّصف بالخلق السيئ، والكلام الفاحش، والبذاء من أسوأ الأشياء في مساوئ الأخلاق، والبذاء ضد الحياء الناشئ منه الفحش في القول، والسوء في الخُلق هو نقيض البر والصلة.   الرفق من حسن الخلق: إنما الرفق بالعباد، واللطف بهم، واليسر بهم، ورفع الكلفة عن العباد ما لا طاقة لهم به: من محاسن الأخلاق، وقد حرض عليها نبيُّنا صلى الله عليه وسلم، ووَعَدَ الأجرَ والمثوبة عليها: ((إنَّ اللهَ رفيقٌ يحب الرفق، ويُعطي على الرفقِ ما لا يُعطي على العنف، وما لا يُعطي على ما سواه))[11]، وقال في رواية أخرى لعائشةَ رضي الله عنها: ((عليكَ بالرِّفقِ، وإيَّاكَ والعنفَ والفحشَ؛ إن الرفقَ لا يكون في شيءٍ إلا زَانَه، ولا ينزع من شيء إلا شَانَه)) [12]، وقال في رواية أخرى، عن جرير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من يُحْرَمِ الرفقَ يُحْرَمِ الخيرَ)) [13] .   وأخبر في رواية أخرى أن من أُعْطِي نصيبَه من الرِّفْقِ فقد أُعْطِي نصيبَه من خيرِ الدنيا والآخرة؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أُعْطِي حظَّه من الرِّفق، أُعْطِي حظَّه من خير الدنيا والآخرة، ومن حُرِمَ حظَّهُ من الرفق، حُرم حظَّه من خير الدنيا والآخرة)) [14] .   الحياء من حسن الخلق: الحياء كما قال الحكماء هو: تغيُّرٌ وانكسارٌ يعتري الإنسانَ من خوفِ ما يُلام به، وقد عرَّفه بعضُهم بتعريفات أخرى، فقال الجُنيدُ: "حالة تتولَّدُ من رؤية الآلاء، والتقصير في شكر النعماء"، وقال ذو النون: "وجودُ الهيبة في القلب، مع وحشة ما سبق منك إلى ربك"، وقال الدقاق: "هو ترك الدعوى بين يدي المولى"[15].   وقد عدَّ نبيُّنا صلى الله عليه وسلم الحياء من حسن الخلق، فعن زيد بن طلحة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لكلِّ دينٍ خلقًا، وخلقُ الإسلام الحياءُ))[16].   ولذا جعل الحياء جزءًا من الإيمان، فقال: ((فإنَّ الحياءَ من الإيمان))[17]، وقال في رواية أخرى عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحياء لا يأتي إلا بخير))، وفي رواية أخرى: ((الحياء خير كلُّه))[18]؛ يعني الحياء يبعث الإنسانَ على ترك القبيح الشرعي، وتنقبض النفس عن ارتكاب القبيح طبعًا أو شرعًا.   وقال في رواية أخرى عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن مما أدركَ الناس من كلامِ النبوَّة الأولى: إذا لم تستحْيِ فاصنع ما شئت))[19].   يعني الرادع عما لا ينبغي هو الحياء، فإذا لم يكن، صدر كلُّ ما لا ينبغي؛ ولذا ينبغي أن ينظر كلُّ أحد إلى ما يريد أن يفعله، فإن كان مما لا يُستحيا منه فافعله، وإن كان مما يستحيا منه فلا تفعله.   كيف يكون المؤمن المتصف بحسن الخلق؟ وصف النبيُّ صلى الله عليه وسلم المؤمنَ الذي يتسم بحسن الخلق في حياته بأنه يحتمل الأذى، ويترك المكافأة، ويرحم للظالم، ويدفع عن المظلوم، ويستغفر له، ويشفق عليه، فيكون غافلًا عن أمور الدنيا، ولم يجرب الأمور فيغيره كل أحد، يعني أنه يكون سهلًا سليمًا لم يكن فيه خدعة ومكر، فجعلهم النبي صلى الله عليه وسلم من المأجورين في الدرجات العلى في جنة المأوى.   وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن المؤمن ليُدرِكُ بحُسن خلقه درجةَ قائمِ الليلِ وصائم النهار))[20].   وقال في رواية أخرى، عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم بمن يحرُم على النَّار، وبمن تحرم النار عليه: على كلِّ هيِّنٍ، ليِّنٍ، قريبٍ، سهلٍ))[21].   وقال في رواية أخرى، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المؤمنُ غِرٌّ كريمٌ، والفاجر خِبٌّ لئيمٌ))[22].   قال صاحب اللمعات في توضيح هذا الحديث قولًا جيدًا يجدر بنا أن نذكره: "(المؤمن غر كريم)؛ أي: المؤمن المحمود من طبعه الغرارةُ، وقلة الفطنة للشر، وترك البحث عنه، وليس ذلك منه لجهلِه بل لكرمه، وحسن خلقه، وقد يقرر بأنه سليم الصدر وحسن الظن بالناس، ولم يجرِّب بواطنَ الأمور، ولم يطَّلع على دخائل الصدور، وهذا يكون في أمور الدنيا وما يتعلق بحقوقِ نفسه، ويعدُّ الأمر سهلًا ولا يبالي ولا يهتم به، وأما في أمر الآخرة، فهو متيقِّظٌ مشتغل بإصلاح دينه والتزوُّد لمعاده، وإلى ذلك نبَّه صلى الله عليه وسلم بقوله: ((لا يُلدَغُ المؤمنُ من جحرٍ واحدٍ مرتين))؛ أي: إنه لا ينبغي له أن يُخدع دائمًا؛ تعليمًا للحزم، وأما المنافقُ فهو خدَّاع، مكَّارٌ، يسعى بين الناس بالفسادِ والمخادعة والمكر، مفتش فتانٌ، لا يسامح ولا ينخدع ولا يرضى به عن نفسه [23] .   وفي موضع آخر بيَّن مثالَه بالجملِ الأَنِفِ الذَّلولِ المُطيع لأمر صاحبه حيث قِيدَ انقاد، وإذا أنيخ استناخ، فيكون المؤمن كذلك مطيعًا لربِّه في الأوامر والنواهي، فعن مكحولٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمنون هيِّنُون ليِّنون كالجملِ الأَنِفِ، إن قِيدَ انقادَ، وإن أُنيخ على صخرةٍ استناخ))[24].   خلاصة القول: لا بد لنا من الاتصاف بالخلقِ الحسن، فلنعامل الناس بالرفق، واللطف، واليسر، ولين الجانب، فلا نفحش في القول، ولا نهذر في العمل، ونتبع سنن الرسول وأحكام الله وشريعته، ونطبقها في حياتنا؛ لنفوز في الدنيا والآخرة، ونخلِّق أنفسنا بمكارم الأخلاق، ونخليها عن مساويها، من الخديعة والمكر، والعنف والشدة، والسعي بالفتنة بين الناس، والفحش والغلظة في القول والعمل.


[1] وادي مصطفى، شاهين نغر، حيدرآباد، الهند. [2] مرقاة المفاتيح: باب الرفق والحياء وحسن الخلق: 8/ 3170، دار الفكر، بيروت، لبنان. [3] البخاري، باب مناقب عبد الله بن مسعود، حديث: 3759. [4] البخاري، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم، حديث: 3559. [5] شعب الإيمان، تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وإجلاله وتوقيره، حديث: 1435. [6] صحيح مسلم، باب تفسير البر والإثم، حديث: 2553. [7] قيل: المحتال، وقيل: الجموع المنوع، وقيل: الصياح. [8] الفظُّ الغليظ. [9] سنن أبي داود، باب في حسن الخلق، حديث: 4801. [10] الترمذي، باب ما جاء في حسن الخلق، حديث: 2002. [11] صحيح مسلم، باب فضل الرفق، حديث: 2593. [12] صحيح مسلم، باب فضل الرفق، حديث: 2594. [13] صحيح مسلم، باب فضل الرفق، حديث: 2593. [14] مسند أحمد، مسند الصديقة عائشة بنت الصديق، حديث: 25259. [15] مرقاة المفاتيح، باب الرفق والحياء وحسن الخلق: 8 /3170. [16] ابن ماجه، باب الحياء، حديث: 4181. [17] البخاري، باب الحياء، حديث: 6118. [18] مسلم، باب شعب الإيمان، حديث: 37. [19] البخاري، باب حديث الغار، حديث: 3484. [20] أبو داود: باب في حسن الخلق، حديث: 4798. [21] صحيح ابن حبان، ذكر البيان بأن المرء إذا كان هينًا لينًا قريبًا سهلًا، حديث: 469. [22] الترمذي، باب ما جاء في البخل، حديث: 1964. [23] حواشي مشكاة المصابيح المطبوعة في الهند: 430. [24] شرح السنة للبغوي، باب حسن المعاملة مع الناس، حديث: 3506.



شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢