أرشيف المقالات

الجرس والإيقاع

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
2الجرْس والإيقاع
من خصائص النظم القُرْآني المتعلقة بجانب اللفظ: تأليفه الصوتي البديع، أو موسيقا ألفاظه وجرْسه، إذا جاز لنا أن نعبر بذلك.
ولا أدل على هذا الأمر من وصف المشركين للقُرْآن بأنه شعر، وعلة هذا الوصف واضحة، وهي ما لمسوه في القُرْآن من إيقاع شجي، ونغم صوتي ساحر، وهزةٍ لم يجدوا شيئًا منها إلا في الشعر[1].
هذا التأليف الصوتي البديع للفظ القُرْآني - كما أشرت في المطلب السابق - من أسباب عدم الملالة والسآمة من كثرة تلاوة القُرْآن؛ وذلك لأنك تتنقل في القُرْآن بين أسباب وأوتادٍ وفواصل[2] على أوضاع مختلفة، يأخذ منها كل وتر من أوتار قلبك بنصيب سواء، فلا يعتريك منه على كثرة ترداده ملالة ولا سأم، بل لا تفتأ تطلب منه المزيد، كما أن الحركات والسكنات في هذا النظام الصوتي البديع قد قسمت فيه تقسيمًا منوعًا يحدد نشاط السامع لسماعه، ووزعت في تضاعيفه أيضًا حروف المد والغنة، مما جعل الأذن العربية تحس بروعة وحلاوة هذا النظم القُرْآني[3].   هذا التأليف الصوتي البديع للنظم القُرْآني يقوم على عدة دعائم: 1.
فواتح سور القُرْآن التي جاءت على عشرة أنواع هي:
• الثناء في أربع عشرة سورة. • الأحرف المقطعة في تسع وعشرين سورة، كما تقدم. • النداء، وذلك في عشر سور. • الاستفتاح بالجملة الخبرية، وذلك في ثلاث وعشرين سورة. • الاستفتاح بالقسم، وذلك في خمس عشرة سورة. • الاستفتاح بالجملة الشرطية، وذلك في سبع سور. • الاستفتاح بالأمر، وذلك في ست سور. • الاستفتاح بأدوات الاستفهام، وذلك في ست سور. • الاستفتاح بالدعاء، وذلك في ثلاث سور. • الاستفتاح بالتعليل، وذلك في سورة واحدة، وهي (قريش)[4].
قلت: ومن الممكن تداخل بعض هذه الأمور في بعض؛ فالثناء على الله بقسميه النفي والإثبات كله خبر، إلا (سبح)، فإنها تدخل في الأمر، وكذلك كلمة (سبحان) تحتمل الأمر والدعاء، والدعاء يجوز أن يذكر مع الخبر.
2.
فواصل الآيات: فللفاصلة القُرْآنية دور مهم في النظام الصوتي للقُرْآن إلى جانب دورها البلاغي المهم في تأكيد المعنى وإيضاحه. يقول الرافعي: (وما هذه الفواصل التي تنتهي بها آيات القُرْآن إلا صور تامة للأبعاد التي تنتهي بها جمل الموسيقا، وهي متفقة مع آياتها في قرار الصوت اتفاقًا عجيبًا يلائم نوع الصوت والوجه الذي يساق عليه ما ليس وراءه في العجب مذهب)[5]؛ اهـ.
3.
أحكام تلاوة القُرْآن (الأحكام التجويدية): من مد، وإدغام، وغنة، وقلقلة، ووصل، ووقف، وإظهار، وإخفاء، وتفخيم، وترقيق...
إلخ. يقول الرافعي: (وحسبك بهذا اعتبارًا في إعجاز النظم الموسيقي في القُرْآن، وأنه مما لا يتعلق به أحد، ولا ينفق على ذلك الوجه الذي هو فيه إلا فيه؛ لترتيب حروفه باعتبار من أصواتها ومخارجها، ومناسبة بعض ذلك لبعضه مناسبة طبيعية في الهمس والجهر، والشدة والرخاوة والتفخيم والترقيق، والتفشي والتكرير، وغير ذلك مما أوضحنا في صفات الحروف من باب اللغة في تاريخ آداب العرب...
وليس يخفى أن مادة الصوت هي مظهر الانفعال النفسي، وأن هذا الانفعال بطبيعته إنما هو سبب في تنويع الصوت، بما يخرجه فيه مدًّا أو غنة أو لينًا أو شدة، وبما يهيئ له من الحركات المختلفة في اضطرابه وتتابعه على مقادير تناسب ما في النفس من أصولها، ثم هو يجعل الصوت إلى الإيجاز والاجتماع، أو الإطناب والبسط، بمقدار ما يكسبه من الحدة والارتفاع والاهتزاز وبعد المدى ونحوها، مما هو بلاغة الصوت في لغة الموسيقا. فلو اعتبرنا ذلك في تلاوة القُرْآن على طرق الأداء الصحيحة لرأيناه أبلغ ما تبلغ إليه اللغات كلها في هز الشعور واستثارته من أعماق النفس، وهو من هذه الجهة يغلِب بنظمه على كل طبع عربي أو أعجمي)
[6]؛ اهـ.
4.
أن جمله وعباراته تتألف من جمل ليست مرسلة تمامًا، ولا مسجوعة تمامًا: وهذا البناء الفريد لكلمات وجمل القُرْآن وفقراته وسوره جعله يمتاز بخاصية سما بها فوق النثر الفني، والكلام المنظوم؛ فليس هو بواحدٍ منهما، ليس شعرًا؛ لأنه ليس على مناهج الشعر من بحور وتفاعيل وزحاف وعلل[7]، وليس نثرًا مما اعتاد الناس حذقه؛ لأنه يباين طرقهم في التعبير، وأخذهم في فنون القول، والنثر وإن اشترك مع القُرْآن في بعض المظاهر كالسجع والإرسال، فإنه دونه بمراحل[8].


[1] انظر: النبأ العظيم نظرات جديدة في القرآن/ د.
محمد عبدالله دراز، ت (1377هـ)، نشر: دار القلم الكويت، الطبعة: الثامنة (1416هـ = 1996م). [2] هذه الكلمات من مصطلحات علم العروض؛ فـ "السبب" إما "خفيف" وإما "ثقيل" فالخفيف: هو الحرف المتحرك يتلوه حرف ساكن، والثقيل: هو الحرف المتحرك يتبعه حرف متحرك، و"الوتد" إما "مجموع" وإما "مفروق" فالمجموع: هو الحرفان المتحركان يتبعهما ساكن، مثل: (قريش)، والمفروق: هو الحرفان المتحركان يتوسطهما حرف ساكن، مثل: (بيت)، و"الفاصلة" إما "صغرى" وإما "كبرى" فالصغرى: هي ثلاثة أحرف متحركة يتبعها حرف ساكن.
مثل: (فسيكفيكهم)، والكبرى: أربعة أحرف متحركة يتلوها حرف ساكن. [3] انظر: "النبأ العظيم" (ص: 103، 102). [4] انظر: تفاصيل هذه الفواتح العشر، وأمثلتها في: "البرهان في علوم القرآن"، (1/164 - 181)، "الإتقان في علوم القرآن" (3/361 - 363). [5] "إعجاز القرآن والبلاغة النبوية" (ص: 246). [6] المصدر السابق (ص: 244، 245). [7] الزحاف والعلل: هي تغيرات تجري على تفاعيل الميزان الشعري؛ كتسكين متحرك، أو حذفه، أو حذف ساكن، أو زيادته، أو حذف أكثر من حرف، أو زيادته، فهذا في مجموعه هو ما شمله اسم الزحاف والعلة، وقد فرقوا بينهما؛ فالزحاف: كل تغيير يتناول ثواني الأسباب، ويكون بتسكين المتحرك أو حذفه، أو حذف الساكن، وحكم الزحاف أنه إذا عرض في جزء من الأجزاء لا يلزم في مقابله من أبيات القصيدة، أما العلة: فتدخل على الأسباب والأوتاد، وحكم العلل: أنها لا تقع أصالة إلا في (العروض) آخر الشطر الأول، و(الضرب) آخر الشطر الثاني، وأنها إذا عرضت لزمت؛ فلا يباح للشاعر أن يتخلى عنها في بقية القصيدة.
انظر: "أهدى سبيل إلى علمي الخليل" لمحمود مصطفى ت (1360هـ)، مكتبة المعارف للنشر الرياض، الطبعة: الأولى (1423هـ = 2002م)، (ص: 16، 17). [8] انظر: "خصائص التعبير القرآني"، (1 /297).



شارك الخبر

ساهم - قرآن ١