أرشيف المقالات

التغيير بالقلب في قصة أصحاب الكهف

مدة قراءة المادة : 18 دقائق .
2التغيير بالقلب في قصة أصحاب الكهف   لقد قصَّر المسلمون - في زماننا هذا - في الأمر بالمعروف والنهيِ عن المنكر، وذهبَت الغيرة من قلوب العباد، إلا من رحِم الله، وصار المنكر معروفًا والمعروف منكرًا، وشاعت هذه المصيبة في كثير من البلاد والعباد، وانتشرت الفاحشة، وعمَّت الرذيلة، وتسلَّط الفُجار على الأخيار، وأصبح الحق باطلًا والباطل حقًّا، وتعرَّضت الأمة للخطر، وتكالبت عليها كلُّ ذئاب الأرض، وهذا ما حذَّر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فعن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يوشك أن تَداعى عليكم الأممُ من كل أُفق، كما تداعى الأكلةُ على قَصعتها))، قال: قلنا: يا رسول الله، أمِن قلة بنا يومئذٍ؟ قال: ((أنتم يومئذٍ كثير، ولكن تكونون غثاءً كغُثاء السيل، ينتزع المهابةَ من قلوب عدوكم، ويجعل في قلوبكم الوهن))، قال: قلنا: وما الوهن؟ قال: ((حبُّ الحياة، وكراهية الموت))؛ مسند الإمام أحمد.   وتفرَّقت الأمة وشاعت بينها البغضاء والشحناء، وتعرَّضت سفينةُ نجاة الأمة للخطر؛ قالَ صلى الله عليه وسلم: ((مَثَلُ القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثَلِ قومٍ استهموا على سفينة، فأصاب بعضُهم أعلاها وبعضُهم أسفلَها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء، مرُّوا على مَن فوقهم، فقالوا: لو أنَّا خرَقنا في نصيبنا خرقًا، ولم نؤذِ مَن فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا، هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم، نجوا، ونجوا جميعًا))؛ البخاري.   لقد وصف الله أمةَ محمد صلى الله عليه وسلم بالخيرية عندما يتحقق فيها شروط الخيرية الثلاثة: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [آل عمران: 110].
ولستُ أدري لماذا جاء الفعل (كنتم) في الماضي؟ فهل هذا دليل على أننا سنُضيِّع الخيرية في المستقبل (الذي نحن فيه الآن)، بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! وهذا هو الذي نحن فيه الآن! والخيرية كانت لمن سبَقنا.   وقد حذَّر رسول الله مِن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فعن حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((والذي نفسي بيده، لتَأمُرُنَّ بالمعروف، ولتَنْهَوُنَّ عن المنكر، أو ليُوشكنَّ الله أن يبعثَ عليكم عقابًا منه، ثم تدْعونه، فلا يُستجاب لكم))؛ الترمذي. وهذا ما دفعني للتدبر والتفكر في الحديث الذي رواه أبو سعيدٍ الخُدريِّ رضِي اللهُ عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَن رأى منكم منكرًا، فليُغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعفُ الإيمان))؛ رواه مسلم.   وهذا الحديثُ عظيمُ الشأنِ؛ لأنَّه نصَّ على وجوبِ إنكارِ المنكَرِ، وهذا كما قال النَّوويُّ: "وهو باب عظيم، به قِوام الأمر ومِلاكه، وإذا كثُر الخبث عمَّ العقابُ الصالحَ والطالحَ، وإذا لم يأخذوا على يد الظالم، أوشَك أن يعمَّهم الله تعالى بعقابه؛ ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63]، فينبغي لطالب الآخرة والساعي في تحصيل رضا الله عز وجل - أن يعتنيَ بهذا الباب؛ فإن نفعه عظيمٌ".   وقد جاءت في القصص القرآني - في سورة الكهف - مراتبُ إنكار المنكر الثلاث في الحديث؛ حيث التطبيق العملي في هذا القصص: • قصة أصحاب الكهف، يقابلها الإنكار بالقلب. • قصة صاحب الجنتين، يقابلها التغيير باللسان. • قصة ذي القرنين، يقابلها التغيير باليد.   وقصص القرآن أصدقُ القصص؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ﴾ [النساء: 87]؛ وذلك لتمام مطابقتها للواقع، وأحسنُ القصص؛ لقوله تعالى: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ ﴾ [يوسف: 3]؛ وذلك لاشتمالها على أعلى درجات الكمال في البلاغة وجلال المعنى، وأنفعُ القصص؛ لقوله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [يوسف: 111]، ولقوة تأثيرها في إصلاح القلوب والأعمال والأخلاق.   فالغرض من القصص القرآني أن يأخذ المسلمون العِظة والعبرة، ويتعلَّموا ويأخذوا الخبرة من هذا القصص؛ كيلا يقعوا فيما وقعت فيه الأمم السابقة من الأخطاء من جهة، ويستفيدوا من الصواب من جهةٍ أخرى، فالحياة تجارِبُ، والإنسان العاقل يتَّعظ بما حدثَ مع غيره من خيرٍ وشر، ويستفيد من هذه التجارب السابقة، إضافةً إلى ما في هذا القصص من تثبيتٍ لقلبِ المؤمن.   وبالرجوع إلى الحديث، نجد أن مراتب الإنكار في الحديث قد جاءت مرتبةً - من الأعلى مستوى إلى الأدنى مستوى - ترتيبًا منطقيًّا في درجة الأهمية في الحياة والثواب عند الله، أما في القرآن الكريم - في سورة الكهف - فقد جاء الترتيب معكوسًا - أي: من المستوى الأدنى إلى المستوى الأعلى - كأنه يشير إلى واقع تدرُّج وجوده في الحياة، والتدرج في بناء هذه المستويات في تربية النفس البشرية وتكوينها كخبرات حياتية، وأيضًا إشارة إلى التدرُّج في الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بهذا التسلسل.   وفي هذا المقال نتناول المستوى الأول من الحديث "التغيير بالقلب" في قصة أصحاب الكهف تطبيقًا عمليًّا في الحياة الواقعية؛ لعلنا نجد مَن يُطبقها في واقعنا الذي نحن أحوج ما نكون إلى تطبيقه؛ لإخراج الأمة مما هي فيه!   وقد وردت القصةُ في القرآن الكريم في سورة الكهف؛ قال تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا * وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا * وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا * وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا * وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا * إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا ﴾ [الكهف: 9 - 20].   وما يخصنا في هذه القصة بيان كيف تحقَّقت في هؤلاء الفتية عمليةُ تغيير المنكر بالقلب! فقد وصف القرآن الكريم هؤلاء الفتيةَ: ﴿ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ﴾ [الكهف: 13، 14]. أما قومهم: ﴿ هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ﴾ [الكهف: 15]، فهم قوم يعبدون آلهة من دون الله، فهم كافرون بالله.   وقد استنكَر هؤلاء الفتيةُ ما عليه قومهم من الكفر، واستنكَروا المنهج الذي يسلكونه في تكوين العقيدة، وذلك بقولهم عن قومهم: ﴿ هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ﴾ [الكهف: 15]؛ ولذلك كان قرار الفتية الاعتزال: ﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا ﴾ [الكهف: 16].   وإلى هنا - كما جاء في كتاب "الظلال" - يبدو موقف الفتية واضحًا صريحًا حاسمًا، لا تردُّد فيه ولا تلعثُم...
إنهم فتية، أشداءُ في أجسامهم، أشداء في إيمانهم، أشداء في استنكار ما عليه قومهم... ولقد تبيَّن الطريقان، واختلف المنهجان، فلا سبيل إلى الالتقاء، ولا للمشاركة في الحياة، ولا بد من الفرار بالعقيدة.   إنهم ليسوا رُسلًا إلى قومهم، فيُواجهوهم بالعقيدة الصحيحة، ويدعوهم إليها، ويتلقوا ما يتلقاه الرسل، ولا هم علماء ودعاة لديهم القدرة على الدعوة، ولا لديهم القوة أو السلطان الذي به يُجبِرون به قومَهم على الحق، أو يَحمون أنفسهم من بطش حُكامهم الظالمين. إنما هم فتية من بين عامة الشعب، تبيَّن لهم الهدى في وسطٍ ظالم كافر، ولا يستطيعون الحياة في هذا الوسط إن هم أعلَنوا عقيدتهم وجاهروا بها، وهم لا يُطيقون كذلك أن يداروا القوم ويداوروهم، ويعبدوا ما يعبدون من الآلهة على سبيل التقية، ويُخْفوا عبادتهم لله، والأرجح أن أمرهم قد عرَفه القوم، فلا سبيل لهم إلا أن يفِروا بدينهم إلى الله، وأن يختاروا الكهف على زينة الحياة، وقد أجمعوا أمرَهم فهم يتناجون بينهم.   فقد اعتزل هؤلاء الفتية قومَهم، وهجَروا ديارهم، وفارَقوا أهلهم، وتجرَّدوا من زينة الأرض ومتاع الحياة، وأووا إلى الكهف الضيِّق الخشن المظلم، يَستروحون فيه رحمةَ الله، ويُحِسون هذه الرحمة ظليلة فسيحةً ممتدة: ﴿ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ﴾ [الكهف: 16]. فإذا الكهف فضاء فسيح رحيب وسيع، تنتشر فيه الرحمة وتتسع خيوطها، وتمتد ظلالها، وتشملهم بالرفق واللين والرخاء ...
إن الحدود الضيقة لَتنزاحُ، وإن الجدران الصَّلْدة لتَرِق، وإن الوحشة الموغلة لتشف، فإذا الرحمة والرفق والراحة والارتفاق، وكم يحس مثلَ هذا الإحساس مَن هم في سجون الظلم والطغيان في كل بقاع الأرض، اسألوهم إن كنتم لا تعلمون! إنه الإيمان!   وما قيمة الظواهر؟ وما قيمة القيم والأوضاع والمدلولات التي تعارَف عليها الناسُ في حياتهم الأرضية؟ إن هنالك عالَمًا آخر في جنبات القلب المغمور بالإيمان، المأنوس بالرحمن، عالَمًا تُظلله الرحمة والرفق والاطمئنان والرضوان. وحتى بعد استيقاظ هؤلاء الفتية من نومهم العميق سنين طويلة، كان حرصهم على دينهم، فهم يحذرون أن ينكشف أمرهم، ويُعرَف مَخْبؤُهم، فيأخذهم أصحاب السلطان في المدينة، فيقتلوهم رجمًا - بوصفهم خارجين على الدين؛ لأنهم يعبدون إلهًا واحدًا في المدينة المشرِكة - أو يفتنوهم عن عقيدتهم بالتعذيب، وهذه هي التي يتَّقونها؛ لذلك يُوصون مَن أرسلوه منهم إلى المدينة لشراء الطعام أن يكون حذرًا لبقًا: ﴿ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا * إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا ﴾ [الكهف: 19، 20]...
فما يفلح مَن يرتد عن الإيمان إلى الشرك، وإنها للخسارة الكبرى!   وهكذا نشهد الفتية يتناجون فيما بينهم حذرين خائفين، لا يدرون أن الأعوام قد كرَّت، وأن عجلة الزمن قد دارت، وأن أجيالًا قد تعاقبت، وأن مدينتهم التي يعرفونها قد تغيَّرت معالمها، وأن المتسلطين الذين يخشونهم على عقيدتهم قد دالت دولتهم، وأن قصة الفتية الذين فرُّوا بدينهم في عهد الملِك الظالم، قد تناقلها الخلفُ عن السلف، وأن الأقاويل حولهم متعارضة؛ حول عقيدتهم، وحول الفترة التي مضت منذ اختفائهم.   إلى هنا نقف لنرى كيف كان إنكار هؤلاء الفتية للمنكر، وتغييرهم له بالقلب؛ طبقًا للحديث الشريف. إن تغيير المنكر بالقلب، ليس كرهَ المنكر وحسب؛ لأن هذا ليس فيه إزالة للمنكر، بل كره المنكرات، والإعراض عنها، وعن أصحابها، واجتنابهم، والاعتصام من الاختلاط بهم، وفِعل ما يمكن أن يعود عليهم بنفعٍ دنيوي، ووجوب إظهار بُغض أفعالهم واحتقارهم ما داموا على منكرهم، ووجوب قطيعتهم في شتى حركات الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، ولا سيما المجاهرون منهم بمنكراتهم، وهذا ما فعله فتية الكهف: ﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ ﴾ [الكهف: 16]، وسبيل مقاطعة أهل المنكر المجاهرين والمرجفين في المدينة، به ضرب من ضروب التغيير المؤثرة، وهو مما لا يَعجِز عنه أحدٌ أبدًا، وهذا الذي يسمونه في العصر الحديث (العصيان المدني)؛ ولذلك سمَّى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الفعل القلبيَّ في الحديث الشريف تغييرًا؛ نظرًا لثمرته التي ينبغي أن تنبثق من هذا الكره القلبي.   وقد علَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخاذَ هذا السبيل في مقاطعة الذين تخلَّفوا عن غزوة العسرة، وكان وقعُ ذلك بليغَ الأثر في تغيير المنكر؛ كما تُبين الآيات: ﴿ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [التوبة: 118].   وهنا يُبين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عقوبةَ من يخالط أهل المعصية؛ عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ أول ما دخل النقص على بني إسرائيل، كان الرجل يَلقى الرجل، فيقول: يا هذا، اتَّقِ الله، ودعْ ما تصنع؛ فإنه لا يَحِلُّ لك، ثم يلقاه من الغد، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيلَه وشريبَه وقعيده، فلما فعلوا ذلك، ضرب الله قلوبَ بعضهم، ثم قال: ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [المائدة: 78 - 81])).
ثم قال: ((كلَّا، والله لتأمُرُنَّ بالمعروف، ولتَنْهَوُنَّ عن المنكر، ولتأخُذُنَّ على يدي الظالم، ولتَأطُرُنَّه على الحق أطرًا، ولتَقْصُرُنَّه على الحق قصرًا، أو ليَضْرِبَنَّ الله بقلوبِ بعضكم على بعضٍ، ثم ليَلْعَنَنَّكم كما لعنَهم))؛ (رواه أبو داود والترمذي). وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ التارك للمنكرات فعلًا وقولًا، لكنه يخالط أهلها غير غاضبٍ لله عز وجل بشأنها - إنما هو من أهل المنكرات أيضًا؛ ففي الحديث القدسي عن جابرٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أوحى الله عز وجل إلى جبريل عليه السلام: أن اقلِب مدينة كذا وكذا بأهلها، قال: يا رب، إن فيهم عبدك فلانًا لم يَعصك طرفةَ عينٍ؟! قال: فقال: اقلِبها عليه وعليهم؛ فإنَّ وجهَه لم يَتمعَّر فيَّ ساعةً قطُّ))؛ (شعب الإيمان؛ للبيهقي).   والتغيير القلبيُّ للمنكرات على هذا النحو - الذي هو كُره قلبيٌّ تُصاحبه استجابةٌ سلوكية لمقتضياته - إنما هو فرضُ عينٍ على كل مسلم ذكرًا أو أنثى، أيًّا كان وضعه في العلم والجهل، والغنى والفقر، والصحة والمرض، فهو لا يسقط عن أحد ما دام مكلفًا، وهذا ما يراه علماء الإسلام. ولننظُر إلى أنفسنا من كل ذلك، فنحن قد تخلَّينا عن منهج الله، بل نرى كثيرًا من العامة يبتهجون بمعرفة وصحبة المتمرِّسين بالمنكرات، ويَفتخرون بمعرفتهم أو مشاهدتهم ومصافحتهم، ومعرفة دقائق أخبارهم، هذا ما نراه في حال كثيرٍ من العامة مع أصحاب المنكرات المجاهرين بها، الساعين إلى إشاعة الفاحشة في الأمة عن عمدٍ وتآمُر مع أعداء الأمة من الماسونيين والصِّهْيَونيين والماركسيين والعلمانيين، وغيرهم من أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.   لقد شاع في شباب الأمة وشيوخها الإعجابُ بالطواغيت والمحاربين لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأهل الفسق والفاحشة؛ مما نخشى معه أن يُصيبنا الله بغضبِه ولعناته. فهل لنا من صحوة؟! وهل لنا من أَوبة؟! رُحماك يا ألله!



شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣