أرشيف المقالات

تتبع رخص المذاهب

مدة قراءة المادة : 35 دقائق .
2تتبع رخص المذاهب
الرخص: أصل الكلمة رخص، وهو أصل صحيح يدل على اللين والتسهيل، ومنه الرُّخْص بالضم، وهو ضد الغلاء، والرَّخص بالفتح: الشيء الناعم، والرخصة في الأمر: خلاف التشديد[1]. والمقصود بالرخصة هنا هو المعنى اللغوي، فرخص العلماء هي: الأقوال التي تتميز باليسر والتخفيف، ولكنها مخالفة لصحيح الأدلة الشرعية؛ فهي أهون وأيسر الأقوال بين المختلفين. وصورة المسألة: أن يعمِد المجتهد في كل مسألة مختلف فيها إلى أهون الأقوال فيها وأيسرها، معرضًا عن صحة أدلتها، بل تراه يتعلق في اختياراته بما هو أوهى من بيت العنكبوت؛ فأقواله لم تُبْنَ على قواعد الشريعة، واختياراته على شفا جُرف هارٍ.   وفي معنى الرخص: الأخذ بنوادر العلماء، وهو على قسمين: الأول: الأقوال المرجوحة. والثاني: الأقوال الشاذة، وهي التي تُدْعى بزلات العلماء[2]، وقد نقل عن الأوزاعي قوله: "من أخذ بنوادر العلماء، خرج من الإسلام"[3]. ولما للمسألة من أهمية بالغة، تعرَّض لها الشَّاطبي مبينًا فيها الحق الذي لا محيد عنه، موضحًا حكم تتبعها والتقاطها بالنسبة للمجتهد، وفيما يلي نعرض لرأيه في المسألة.   رأي الشَّاطبي: تتبع الرخص - كما بين الشَّاطبي - إنما هو نابع من جراء اتباع الهوى؛ فالهوى يُفضي بأصحابه إلى أن يتتبعوا التساهيل والتراخيص على النفس وعلى الآخرين؛ ولذا تراه يأخذ لنفسه أو يفتي قريبه أو صديقه بما لا يفتي به غيره؛ اتباعًا لشهوته، أو لرغبة ذلك القريب والصديق[4]. وقد ذكر الشَّاطبي، نقلًا عن ابن حزم والباجي، الإجماع على تحريم تتبع الرخص من غير استناد إلى دليل شرعي، وأن ذلك فسق لا يحل[5]؛ لأن ذلك مؤدٍّ إلى إسقاط التكليف في الأوامر والنواهي، وانحلال عزائم المكلفين عن الأخذ بالعزائم[6]. قال الشَّاطبي: "فإذا صار المكلف في كل مسألة عنَّتْ له يتبع رخص المذاهب، وكل قول وافق هواه، فقد خلع ربقة[7] التقوى، وتمادى في متابعة الهوى، ونقض ما أبرمه الشارع، وأخَّر ما قدمه"[8].   وقال أيضًا: "تتبع الرخص ميلٌ مع أهواء النفوس، والشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى، فهذا مضاد لذلك الأصل المتفق عليه، ومضاد أيضًا لقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ [النساء: 59]، وموضع الخلاف موضع تنازع، فلا يصح أن يرد إلى أهواء النفوس، وإنما يرد إلى الشريعة، وهي تبين الراجح من القولين، فيجب اتباعه، لا الموافق للغرض"[9]. ولا شك أن تتبع الرخص في القضاء أشد منه حق النفس، وفي ذلك كما في الموازية[10]: (كتب عمر بن الخطاب: لا تقضِ بقضاءين في أمر واحد؛ فيختلفَ عليك أمرك)[11]. وقال ابن المواز: "لا ينبغي للقاضي أن يجتهد في اختلاف الأقاويل، وقد كره مالك ذلك ولم يجوِّزْه لأحد، وذلك عندي أن يقضي بقضاء بعض من مضى، ثم يقضي في ذلك الوجه بعينه على آخر بخلافه، وهو أيضًا من قول من مضى، وهو في أمر واحد، ولو جاز ذلك لأحد لم يشأ أن يقضي على هذا بفتيا قوم، ويقضي في مثله بعينه على قوم بخلافه بفتيا قوم آخرين إلا فعل، فهذا ما قد عابه مَن مضى، وكرهه مالك، ولم يرَه صوابًا"[12]. ويعلق الشَّاطبي على ذلك فيقول: "وما قاله صواب؛ فإن القصد من نصب الحكام رفعُ التشاجر والخصام، على وجه لا يلحق فيه أحدَ الخصمين ضررٌ مع عدم تطرق التهمة للحاكم، وهذا النوع من التخيير مضادٌّ لهذا كله"[13].   وتتبُّع الرخص - حتى في أمر النفس، سواء في عبادة المكلف أو عادته - أمرٌ مخالف للشرع، ناقض لقواعده، مخرجٌ عن صراط الله المستقيم. يقول الشَّاطبي عن تعلق الناس بالرخص: "ولقد وجد هذا في الأزمنة السالفة فضلًا عن زماننا، كما وجد فيه تتبع رخص المذاهب اتباعًا للغرض والشهوة، وذلك فيما لا يتعلق به فصل قضية، وفيما يتعلق به ذلك"[14]. وقد ضرب الشَّاطبي أمثلة واقعية على تتبع الناس للرخص والتساهيل واتباعهم لأهوائهم، ومن ذلك: ما حكى القاضي عياض أن البهلول بن راشد أتاه ابن فلان[15]، فقال له بهلول: "ما أقدمك؟"، قال: "نازلة رجل ظلمه السلطان فأخفيته وحلفت بالطلاق ثلاثًا ما أخفيته"، قال له البهلول: "مالك يقول: إنه يحنث في زوجته، فقال السائل: وأنا قد سمعته يقول، وإنما أردت غير هذا، فقال: "ما عندي غير ما تسمع"، فتردد إليه ثلاثًا، كل ذلك يقول له البهلول قوله الأول، فلما كان في الثالثة أو الرابعة قال له البهلول: "يا بن فلان، ما أنصفتم الناس إذا أتوكم في نازلة قلتم: قال مالك، فإن نزلت بكم النوازل، طلبتم لها الرخص، الحسن يقول: لا حِنث عليه في يمينه، فقال السائل: "الله أكبر! قلدها الحسن"، أو كما قال[16]. ومن ذلك أيضًا ما حكى أحمد بن عبدالبر: "أن قاضيًا من قضاة قرطبة كان كثير الاتباع ليحيى بن يحيى - يعني الليثي - لا يعدل عن رأيه إذا اختلف عليه الفقهاء، فوقعت قضية تفرد فيها يحيى، وخالف جميعَ أهل الشورى، فأرجأ القاضي القضاء فيها حياءً من جماعتهم، وردفته قضية أخرى كتب إلى يحيى فيها، فصرف يحيى رسوله، وقال له: "لا أشير عليه بشيء؛ إذ توقف على القضاء لفلان بما أشرت عليه، فلما انصرف عنه إليه رسوله وعرفه بقوله قلق منه، وركب من فوره إلى يحيى، وقال له: "لم أظن أن الأمر وقع منك هذا الموقع، وسوف أقضي له غدًا إن شاء الله"، فقاله له يحيى: "وتفعل ذلك صدقًا؟"، قال: "نعم"، قال له: "فالآن هيجت غيظي؛ فإني ظننتُ إذ خالفني أصحابي أنك توقفت مستخيرًا لله، متخيرًا في الأقوال، فأما إذ صرتَ تتبع الهوى وتقضي برضا مخلوق ضعيف، فلا خيرَ فيما تجيء به، ولا فيَّ إن رضيته منك، فاستعفِ من ذلك؛ فإنه أستر لك، وإلا رفعت في عزلك"، فرفع يستعفي، فعُزل[17]. ومن ذلك أيضًا قصة محمد بن يحيى بن لبابة التي ذكرت في اتباع الهوى[18]؛ فإنها موافقة أيضًا لهذا المعنى.   ونقل الشَّاطبي عن الباجي قوله: "وربما زعم بعضهم أن النظر والاستدلال الأخذ من أقاويل مالك وأصحابه بأيها شاء دون أن يخرج عنها ولا يميل إلى ما مال منها لوجه يوجب له ذلك، فيقضي في قضية بقول مالك، وإذا تكررت تلك القضية كان له أن يقضي فيها بقول ابن القاسم مخالفًا للقول الأول لا لرأي تجدد له، وإنما ذلك بحسَب اختياره"[19]. ويحكي الباجي عمن يثق به أنه اكترى جزءًا من أرض على الإشاعة[20]، ثم إن رجلًا آخر اكترى[21] باقي الأرض، فأراد الأول أن يأخذ بالشفعة[22] وغاب عن البلد، فأفتى المكتري الثاني بإحدى الروايتين عن مالك أنه لا شفعة في الإجارات[23]، قال المكتري الأول: فوردت من سفري فسألت أولئك الفقهاء، وهم أهل حفظ في المسائل وصلاح في الدين عن مسألته، فقالوا: "ما علمنا أنها لك، إذا كانت لك المسألة أخذنا لك برواية أشهب عن مالك بالشفعة فيها، فأفتاني جميعهم بالشفعة، فقضى لي بها". وينقل الباجي عن أحدهم - وهو فقيه وصفه بالشهرة والحفظ - قوله: "إن الذي لصديقي عليَّ إذا وقعت له حكومة أن أفتيه بالرواية التي توافقه"[24]. وهكذا تتلاعب الأهواء بهؤلاء المتفقهة، ويلبس عليهم الشيطان فيعملون ويفتون وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، ولو علموا أن هذا لا يجوز لما فعلوه، ولكن الجهل بالشيء يوقع الإنسان في حبائل الشيطان.   قال الباجي: "ولو اعتقد هذا القائل أن مثل هذا لا يحل له ما استجازه، ولو استجازه لم يعلن به، ولا أخبر به عن نفسه"[25]. وقال: "وكثيرًا ما يسألني من تقع له مسألة من الأيمان، ونحوها: لعل فيها رواية، أو لعل فيها رخصة، وهم يرون أن هذا من الأمور الشائعة الجائزة، ولو كان تكرر عليهم إنكار الفقهاء لمثل هذا لما طولبوا به ولا طلبوه مني، ولا من سواي، وهذا مما لا خلاف بين المسلمين ممن يعتد به في الإجماع أنه لا يجوز ولا يسوغ ولا يحلُّ لأحد أن يفتي في دين الله إلا بالحق الذي يعتقد أنه حق، رضي بذلك من رضيه، وسخطه من سخطه، وإنما المفتي مخبر عن الله تعالى في حكمه، فكيف يخبر عنه إلا بما يعتقد أنه حكَم به وأوجبه، والله تعالى يقول لنبيه - عليه الصلاة والسلام -: ﴿ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ﴾ [المائدة: 49]؟ فكيف يجوز لهذا المفتي أن يفتي بما يشتهي، أو يفتي زيدًا بما لا يفتي به عمْرًا لصداقة تكون بينهما، أو غير ذلك من الأغراض؟ وإنما يجب للمفتي أن يعلم أن الله أمره أن يحكم بما أنزل الله من الحق، فيجتهد في طلبه، ونهاه أن يخالفه وينحرف عنه، وكيف له بالخلاص مع كونه من أهل العلم والاجتهاد إلا بتوفيق الله وعونه وعصمته"[26]. ويذكر الشَّاطبي أن كثيرًا ممن يتعلق بالرخص يستند إلى أصل ليس بالأصيل، وهو ظنه أن الخلاف بين الأمة رحمة وتوسعة، بل جعل بعضهم الخلاف دليلًا على الإباحة، فما إن يرى المجتهد أو المفتي في المسألة خلافًا إلا ويعتمد القول بالجواز دون دليل شرعي، وترى بعض هؤلاء إن أفتي بالمنع اعترض، وقال: لِمَ تمنع المسألة وهي مختلف فيها؟! وهذا عين الخطأ على الشريعة؛ حيث جعل ما ليس بدليل دليلًا، وما ليس بمعتمد معتمدًا.   وقد حكى الخطابي في مسألة البِتْع[27] عن بعض الناس قوله: "إن الناس لما اختلفوا في الأشربة، وأجمعوا على تحريم خمر العنب، واختلفوا فيما سواه، لزمنا ما أجمعوا على تحريمه، وأبحنا ما سواه"، ثم أعقبه بقوله: "وهذا خطأ فاحش، وقد أمر الله المتنازعين أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول"، وقال: "ولو لزم ما ذهب إليه هذا القائل، للزم مثله في الربا، والصرف، ونكاح المتعة؛ لأن الأمة قد اختلفت فيها"، وقال أيضًا: "وليس الاختلاف حجة، وبيان السنَّة حجة على المختلفين من الأولين والآخرين"[28]. ولا شك أن من صنع هذا فهو متبع لهواه، مقتفٍ أمر شهوته، غافل عن أمر ربه ومولاه، فتراه أقرب إلى أن يكون ممن اتخذ إلهه هواه[29]. واستنَد بعض هؤلاء إلى أصل آخر، وهو أن الضرورات تبيح المحظورات، وإذا نزلت بالإنسان نازلة عدها ضرورة تبيح التخير بين الأقوال، ولا شك أن مجال الضرورات معلوم في الشريعة، وليس هذا منها، بل هو مطيةٌ إلى موافقة الهوى[30]. ولهذا أيضًا تعلَّق أقوام بأخف الأقوال في كل خلاف؛ بحجة أن الشريعة تدعو إلى اليسر والسهولة، وهذا في حقيقته نابع من تتبع الرخص، والاستناد إلى الأقوال لا إلى الأدلة[31].   وقد ذكر الشَّاطبي جملة من المفاسد الحاصلة من تتبع الرخص سوى ما سبق، ومنها: الانسلاخ من الدين بترك اتباع الدليل إلى اتباع الأقوال مجردة عن الأدلة، فتكون آراء الرجال حاكمةً على نصوص الشرع. ومنها: الاستهانة بالدين؛ إذ يصير بهذا الاعتبار سيالًا لا ينضبط، وحينئذ فلا يرى صاحب الهوى إلا ما يهوى[32]. إلى غير ذلك من المفاسد الحاصلة من تتبع الرخص. والحاصل أن الشَّاطبي قد وقف موقفًا صارمًا من تتبع الرخص، وقد وافق الشَّاطبي في رأيه هذا ما نقل من إجماع الأمة؛ فقد نقل الإجماع على تحريم تتبع الرخص أبو عمر بن عبدالبر[33]، كما نقل الإجماع على تحريم اتباع الهوى والفتوى بالتشهي جماعة من العلماء؛ كابن حزم[34]، والباجي[35]، وابن الصلاح[36]، والنووي[37]، وابن حمدان[38]، وابن القيم[39]، وتتبع الرخص من ذلك ولا ريب، وعلى التحريم تتابعت أقوال العلماء[40]، بل عد ابن الجوزي ذلك من تلبيس الشيطان على الفقهاء[41]. وقال سليمان التيمي: "إن أخذت برخصة كل عالم، اجتمع فيك الشرُّ كلُّه"[42]. وكذلك الحال لو أخذ المجتهد برخص الشرع.   وقد سمى أبو يعلى المجتهد المتتبع للرخص دون أن يؤدي اجتهادُه إليها فاسقًا؛ لأنه ترك ما هو الحكم عنده، واتبع الباطل[43]، وعده ابن القيم من أفسق الفسوق، وأكبر الكبائر، وقال: "ولا يجوز له إذا كان في المسألة قولان؛ قول بالجواز وقول بالمنع، أن يختار لنفسه قول الجواز، ولغيره قول المنع"[44]. ولا يعارض هذا ما ذكر عن الثوري أنه قال: "إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد"[45]؛ لأن معنى ذلك الرخصة التي لا شبهة فيها، ولا تجر إلى مفسدة لتخليص مستفتٍ وقع في ورطة من يمين ونحو ذلك، فذلك حسن جميل، ويدل عليه قول الله تعالى لأيوب - عليه السلام -: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ}[46][ص: 44]، وحديث: ((بِعِ الجَمْعَ[47] بالدراهم، ثم ابتَعْ بالدراهم جَنيبًا[48]))[49]. فهذه رخصة شهد لها الشرع، ولا محذور فيها[50].   أدلة الشَّاطبي ومن وافقه: استدل الشَّاطبي على تحريم تتبع الرخص بما يلي: الدليل الأول: أن تتبُّع الرخص يفضي إلى تتبع ما تهواه النفس، وقد نهى الشرع عن اتباع الهوى جملة وتفصيلًا، وفي القرآن الكريم ضابط قرآني ينفي اتباع الهوى، وهو قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ [النساء: 59]؛ فقد أمر الله بالردِّ إلى الشرع لا إلى الهوى[51]. الدليل الثاني: أنه قد نقل الإجماع على تحريم تتبع الرخص؛ نقله ابن حزم وغيره، وأن ذلك فسق لا يحل[52]. الدليل الثالث: أن تتبع الرخص من تتبع الهوى، وفيه تعطيل للتكاليف الشرعية[53].   أدلة مَن يرى تتبع الرخص من منظور الشَّاطبي: ذكر الشَّاطبي بعض الأدلة التي يستدل بها من يرى جواز تتبع الرخص، ثم أجاب عنها، وهي كما يلي: الدليل الأول: أن الخلاف رحمة، وبما أن الخلاف واقع، ففيه سَعة على الأمة؛ فلا يجوز التحجير على رأي واحد، وهذا عمر بن عبدالعزيز، والقاسم بن محمد، وغيرهما، يرون أن في الخلاف سَعة[54]. جوابه: أجاب الشَّاطبي عن هذا الدليل: "بأن المراد بقولهم: الخلاف رحمة، ليس ما ذكرتم، وإنما مرادهم أنه فتح للناس باب النظر والاجتهاد، وليس صحيحًا أن يكون المراد اختيار الناس بآرائهم المجردة؛ إذ هذا سيرٌ على محض الهوى، ومبطِل للشريعة كلها[55].   الدليل الثاني: أن في اختيار الأقوال الميسرة على الناس تحقيقًا لرفع الحرج عن الأمة، وقد جاءت الشريعة برفعه، كما أنه من باب الضرورة، والشريعة جاءت برفع الضرورة، وأن الضرورات تبيح المحظورات[56]. جوابه: أجاب عنه الشَّاطبي: بأن هذا مِن قائله جهلٌ بما وضعت الشريعة لأجله؛ فالشريعة التي جاءت برفع الحرج ورفع الضرورة جاءت بأمر الناس بمخالفة أهوائهم واتباع الدليل، وجاءت بالضوابط الشرعية التي تضبط للناس أحوالهم وأفعالهم؛ ولذا فهذا الموضع ليس من رفع الحرج، ولا من باب رفع الضرورة بحال، بل هو مخالف لما ثبت قطعًا من ترك الهوى، وفَتْحُ هذا الباب للناس سبيلٌ إلى الوقوع في الهوى المذموم، وطريق إلى سقوط التكليف عن الناس[57].   الدليل الثالث: أن الشريعة جاءت باليُسر والسهولة؛ كما في قوله تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ ﴾ [البقرة: 185]؛ فالشريعة تنفي كل ثقيل؛ ولذا فاتباع القول الميسر مما جاءت الشريعة به[58]. جوابه: أجاب الشَّاطبي عن هذا الدليل: بأن الشريعة التي جاءت بالتيسير هي الشريعة التي جاءت بذم اتباع الهوى، ولا شك أن الأخذ بالأقوال الميسرة مفضٍ إلى اتباع الهوى، وإلى انخرام التكليف، وفي ذلك كله انخرام للدين، وهذا باطلٌ؛ فما أدى إليه باطل أيضًا[59].


[1] انظر: معجم مقاييس اللغة (2/ 500) القاموس المحيط (800) كلاهما مادة: "رخص". [2] انظر: عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق (222). [3] رواه البيهقي في السنن الكبرى كتاب الشهادات باب ما تجوز به شهادة أهل الأهواء (10/ 211). [4] انظر: الموافقات (5/ 84). [5] انظر: الموافقات (5/ 82، 91)، وانظر: مراتب الإجماع (51). [6] انظر: الموافقات (1/ 507 - 508، 5/ 83). [7] الربق بكسر الراء: حبل فيه عدة عرى يشد به البهم، وربقة بالكسر والفتح جمعها رقب كعنب، وربقه: جعل رأسه في الربقة، يعني في الحبل، ومن المجاز قولهم: ربقة التقوى؛ أي: حبل التقوى؛ انظر: أساس البلاغة (152) القاموس المحيط (1143) مادة "ربق". [8] الموافقات (3/ 123). [9] الموافقات (5/ 99). [10] الموَّازية: اشتهرت باسم مؤلفها المعروف بابن المواز، والموازية من أمَّات كتب المالكية، وهي - كما قال القاضي عياض - أجلُّ كتب المالكية القدامى، وأصحها مسائل، وأبسطها كلامًا وأوعبها، ورجحها القابسي على سائر الأمَّات، وذكر أن صاحبه قصد إلى بناء فروع أصحاب المذهب على أصولهم في تصنيفه، وغيره إنما قصد جمع النصوص والروايات، وقد ألف عليها بعض الشروح، وتوجد بعض القطع المخطوطة منها؛ انظر: ترتيب المدارك (1/ 406) الديباج المذهب (220، 233) دراسات في مصادر الفقه المالكي (151) شجرة النور (108) الاختلاف الفقهي في المذهب المالكي ومصطلحاته (284). [11] انظر: الموافقات (5/ 85)، وأما الأثر فلم أقف عليه، ولكن جاء في المرفوع بلفظ: ((لا يقضيَنَّ أحد في قضاء بقضاءين))؛ رواه النسائي في سننه كتاب آداب القضاة، النهي عن أن يقضي في قضاء بقضاءين (8/ 247/ 5421) والطبراني في المعجم الكبير - كما في مجمع الزوائد (4/ 199) عن أبي بَكرة نُفيع بن الحارث - رضي الله عنه، وقال الهيثمي: "رجاله ثقات"، وصححه الألباني في إرواء الغليل (8/ 253). [12] الموافقات (5/ 85 - 86). [13] الموافقات (5/ 86). [14] الموافقات (5/ 84). [15] هو عبدالرحيم بن أشرس، كما في ترتيب المدارك (1/ 188). [16] انظر: الموافقات (5/ 84 - 85)، وهي في ترتيب المدارك (1/ 188). [17] الموافقات (5/ 86)، والقصة في ترتيب المدارك (1/ 312 - 313). [18] انظر: (ص 451 - 453) من هذا البحث. [19] الموافقات (5/ 90). [20] الإشاعة: أصلها شيع، ولها معنيان: أحدهما معاضدة ومساعفة، والثاني بث وإشادة، والمناسب هنا هو المعنى الثاني، يقال: شاع الحديث إذا ذاع الحديث وانتشر، ومن هذا الباب قولهم: له سهم شائع؛ أي: غير مقسوم، وكأن من له سهم ونصيب انتشر في السهم حتى أخذه؛ انظر: معجم مقاييس اللغة (3/ 235) المصباح المنير (1/ 329) مادة: "شيع". [21] اكترى: أصلها كرى، والكِراء بكسر الكاف: الأجرة، وهو مصدر من كاريته، والفاعل مكارٍ، وأكريته الدار؛ أي: أجرته إياها؛ انظر: القاموس المحيط (1712) المصباح المنير (2/ 532) مادة "كرى". [22] الشفعة: أصلها من شفع، وهو أصل يدل على مقارنة الشيئين، ومن ذلك الشفع خلاف الوتر، والشفعة في الاصطلاح: استحقاق الشريك انتزاعَ حصة شريكه المنتقل عنه مِن يد مَن انتقلت إليه؛ انظر: المغني (7/ 435) الحدود والأحكام الفقهية لمصنفك (107) شرح حدود ابن عرفة (2/ 474) المطلع على أبواب المقنع (278) أنيس الفقهاء (271) القاموس الفقهي (198) معجم لغة الفقهاء (264). [23] انظر: الذخيرة (7/ 302). [24] نقله الشاطبي في الموافقات (5/ 90) نقلًا عن كتاب التبيين لسنن المهتدين للباجي، ونقله ابن الصلاح في أدب الفتوى (87 - 88) وابن حمدان في صفة الفتوى (41) وابن القيم في إعلام الموقعين (4/ 162). [25] نقله عنه في الموافقات (5/ 90). [26] نقله عنه في الموافقات (5/ 90 - 91). [27] البِتْع بكسر الباء وسكون التاء وقد تحرك: نبيذ العسل المشتد، وهو خمر أهل اليمن؛ انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 94) القاموس المحيط (905) مادة: "بتع". [28] أعلام الحديث (3/ 2091 - 2092). [29] انظر: الموافقات (5/ 92 - 94) الاعتصام (2/ 510). [30] انظر: الموافقات (5/ 99). [31] انظر: الموافقات (5/ 104) وللمسألة انظر: المعتمد (2/ 940) التلخيص (3/ 135) المستصفى (2/ 216) المحصول (6/ 159) السراج الوهاج (2/ 993) نفائس الأصول (9/ 4074) شرح تنقيح الفصول (452) نهاية الوصول (8/ 4036) المسودة (490) شرح العضد على مختصر المنتهى (2/ 43) نهاية السول مع مناهج العقول (4/ 379) جمع الجوامع مع شرح المحلي والآيات البينات (4/ 261) البحر المحيط (6/ 31) تشنيف المسامع (3/ 430) تقريب الوصول (395). [32] انظر: الموافقات (5/ 102). [33] انظر: جامع بيان العلم وفضله (2/ 92). [34] انظر: مراتب الإجماع (51) ونقله عنه الشاطبي في الموافقات (5/ 82). [35] نقله في التبيين لسنن المهتدين، وعنه نقل الشاطبي في الموافقات (5/ 91). [36] انظر: أدب الفتوى (87). [37] انظر: المجموع (1/ 79 - 80). [38] انظر: صفة الفتوى (5/ 41). [39] انظر: إعلام الموقعين (4/ 162). [40] انظر: قواطع الأدلة (2/ 306 - 307، 353) أدب الفتوى (65) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام (250) المجموع (1/ 79 - 80) صفة الفتوى (31 - 32) إعلام الموقعين (4/ 170 - 171) التقرير والتحبير (3/ 341). [41] انظر: تلبيس إبليس (169). [42] رواه عنه مسندًا في جامع بيان العلم وفضله (2/ 91) وذكره في المسودة (519) وتهذيب الكمال (12/ 11) وسير أعلام النبلاء (6/ 198). [43] انظر: المسودة (519) لوامع الأنوار (2/ 466). [44] انظر: إعلام الموقعين (4/ 162). [45] ذكره عنه في أدب الفتوى (67) صفة الفتوى (32) المجموع (1/ 80). [46] الضِّغث: أصله في اللغة من ضغث، وهو أصل يدل على التباس الشيء بعضه ببعض، ومنه الضغث: وهو قبضة من قضبان أو حشيش مختلطة الرطب باليابس، وهو الشمراخ، وفيه مائة قضيب، وقد أمر الله نبيَّه أن يضرب زوجه به ضربة واحدة، فيفِيَ بيمينه؛ انظر: معجم مقاييس اللغة (3/ 363) القاموس المحيط (219) مادة: "ضغث" معالم التنزيل (7/ 96) تفسير القرآن العظيم (4/ 44). [47] الجَمْع: هو الرديء من التمر، وسمي جمعًا؛ لأنه أخلاط جمعت، وقيل: كل لون من النخيل لا يعرف اسمه فهو جمع؛ انظر: غريب الحديث للخطابي (2/ 444) النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 296) القاموس المحيط (917) مادة "جمع". [48] الجنيب: قال الخطابي: الجنيب لون طيب من ألوان التمر، وفي القاموس "تمر جيد"، وقال ابن الأثير: نوع جيد معروف من أنواع التمر"؛ انظر: غريب الحديث للخطابي (2/ 444) النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 304) القاموس المحيط (88) المصباح المنير (1/ 110) مادة "جنب". [49] رواه البخاري في صحيحه كتاب البيوع باب إذا أراد بيع تمر بتمر خير منه (3/ 46/ 2201 - 2202) ومسلم في صحيحه كتاب المساقاة باب بيع الطعام مثلًا بمثل (11/ 18/ 1593) رقم خاص 95). [50] انظر: أدب الفتوى (67) المجموع (1/ 80) صفة الفتوى (32) إعلام الموقعين (4/ 171). [51] انظر: الموافقات (5/ 81 - 82). [52] انظر: الموافقات (5/ 82). [53] انظر: الموافقات (2/ 298، 5/ 83). [54] انظر: الموافقات (5/ 67 - 68، 94)، وانظر: عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق (97 وما بعدها). [55] انظر: الموافقات (5/ 76) الاعتصام (2/ 395). [56] انظر: الموافقات (5/ 94، 99). [57] انظر: الموافقات (5/ 83، 94، 99). [58] انظر: الموافقات (5/ 104) وانظر: نص رسالة الشيخ مرعي الكرمي في جواز التلفيق - مع التحقيق للسفاريني - (168) عمدة التحقيق (59). [59] انظر: الموافقات (5/ 83، 105).



شارك الخبر

المرئيات-١