أرشيف المقالات

الحروف المقطعة في القرآن الكريم

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
2الحروف المقطعة في القرآن الكريم [1]
قد أثارت هذه الأحرف جدلًا كبيرًا بين العلماء والمفسرين؛ لأنهم رأوا فيها غرابة وعزة غير معهودتين في متعارف القول ومشهور الأساليب، وقد نتج عن هذا الخلاف اتجاهان رئيسيان في معانيها: الأول: يقضي بتفويض السر فيها إلى الله، ويرى عدم الخوض في بيان معانيها، ويعدها من المتشابه الذي لا يعلم حقيقته إلا الله، ونسب هذا إلى الخلفاء الأربعة وعبدالله بن مسعود رضي الله عنهم، والله أعلم بصحة ذلك عنهم.
الثاني: يرى أن لهذه الأحرف معانٍ؛ إذ يستحيل أن يخاطب الله عباده بالقُرْآن الذي هو بيان للناس بما لا يفهمون، وقد تشعبت آراء هذا الفريق حول فَهم معناها، حتى وصلت الآراء فيها إلى أكثر من أربعين قولًا[2]، ليس محل بسطها هنا.
والرأي الذي يختاره الباحث هنا ويراه راجحًا: هو ما ذهب إليه جمهور المفسرين[3] من أن هذه الحروف هي أسماء للحروف التي ركبت منها كلمات القُرْآن وجمله وآياته وسوره، وكأن الله عز وجل يتحدى العرب ويقول لهم: القُرْآن مكون من هذه الحروف التي بها تتخاطبون، وتنظمون شعركم ونثركم، وتدونون بها أيامكم وتواريخكم، فإن كنتم صادقين في أن القُرْآن من اختلاق محمد وليس من عند الله، فأتوا ولو بمثل أقصر سورة منه، وصدق الله إذ يقول: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة: 23]، ومما يَزيد هذا الرأيَ قوة ويرجحه عدة أمور: أولًا: أن ستًّا وعشرين سورة مما فواتحها حروف مقطعة مكية النزول[4]، والعلة في ذلك أن مظاهر العناد والتكذيب والتحدي للدعوة الجديدة قد بلغ أوْجَه قبل الهجرة، فناسب ذلك أن يورد القُرْآن هذه الفواتح تحديًا وإعجازًا لهم، وتأييدًا لصحة دعوته، وتأكيدًا لنسبته إلى الله.
ثانيًا: أن أغلب السور التي افتتحت بالحروف المقطعة فيها - بعد الفواتح مباشرة - حديث عن سمو القُرْآن وعلو طبقته؛ كقوله تعالى: ﴿ الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 1، 2]، وكقوله تعالى: ﴿ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾ [هود: 1]، وهذا الحديث عن سمو القُرْآن بعد الأحرف المقطعة مباشرة قد تكرر في ست وعشرين سورة من السور التسع والعشرين التي افتتحت بهذه الأحرف، ما عدا سور: مريم، والعنكبوت، والروم، لكنها قد اشتملت أيضًا على الثناء على القُرْآن، ولكن في ثنايا آياتها، وليس بعد الأحرف المقطعة مباشرة، وقد تنبه العلماء قديمًا لهذا الأمر[5].   ثالثًا: أن هذا الرأي أبعد ما يكون عن النقد، فضلًا عن لياقته بجلال القُرْآن الكريم.
رابعًا: أن الزمخشري - وهو من هو - يرجح هذا الرأي ويقويه، ويورد فيه كلامًا حسنًا؛ إذ يرى أن هذه الأحرف المقطعة - التي بلغت بعد حذف المكرر أربعة عشر حرفًا - هي نصف حروف المعجم، كما أنها تشتمل على أنصاف أنواع الحروف المجهورة، والمهموسة، والشديدة، والرخوة، والمطبقة، والمنفتحة، والمستعلية، والمنخفضة، ونصف حروف القلقلة...
ثم يقول: (فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته، وقد علمت أن معظم الشيء وجله ينزل منزلة كله، وهو المطابق للطائف التنزيل واختصاراته، فكأن الله عز اسمه عدَّد على العرب الألفاظ التي منها تراكيب كلامهم، إشارة إلى ما ذكرت من التبكيت لهم، وإلزام الحجة إياهم[6]؛ اهـ.
خامسًا: أن هذا الرأي يلتقي مع غيره من الآراء؛ إذ لا مانع أن تؤدي هذه الأحرف المقطعة -بالإضافة إلى معنى التحدي والإعجاز - معنى آخر مما ذكره العلماء؛ كالتنغيم الصوتي، والدلالة على ورود الأحرف المفتتحة بها السور أكثر من غيرها في تلك السور[7]؛ اهـ.


[1] في تسع وعشرين سورة افتتحت بأربعة عشر حرفًا، جمعت في قولهم: "نص حكيم قاطع له سر"، وهذه الفواتح جاءت إما على حرف، أو حرفين، أو ثلاثة، أو أربعة، أو خمسة، ولم تزد على ذلك؛ لأن كلام العرب تأليفه لم يزد على ذلك.
انظر: "دراسات في التفسير - الحروف المقطعة في أوائل السور" لشيخنا الأستاذ الدكتور/ محمد علي حجازي، نشر: مطبعة الفجر القاهرة، الطبعة: الأولى (1416هـ = 1996م)، (ص: 4 - 33). [2] فبعضهم جعلها للتنبيه، وبعضهم للإعجاز، وبعضهم للقسم ...
إلخ.
انظر: "المرجع السابق" (ص: 33، 4). [3] كالزمخشري، والخازن، والنسفي، والبيضاوي، وأبي السعود، والشهاب، ومن علماء اللغة: الفرَّاء، وقطرب، ومن العلماء المحدثين: د/ الكومي، ود/ موسى شاهين، ود/ سيد طنطاوي.
دراسات في التفسير (ص: 19، 20). [4] القرآن المكي - في أرجح الأقوال -: هو ما نزل قبل الهجرة بغض النظر عن المكان الذي نزل فيه.
انظر: "الإتقان" (1/ 37)، "مناهل العرفان" (1/ 194). [5] انظر: "البرهان" (1/ 170)، "تفسير القرآن العظيم = تفسير ابن كثير" لأبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي ت (774هـ)، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، نشر: دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة: الثانية (1420هـ = 1999م)، (1/ 160)، "الإتقان" (3/ 384). [6] "تفسير الكشاف" (1/ 139، 138). [7] "خصائص التعبير القرآني وسماته البلاغية" د/ عبدالعظيم المطعني ت (1429هـ)، نشر: مكتبة وهبة القاهرة، الطبعة: الأولى (1413هـ = 1992م)، (1/ 206).



شارك الخبر

مشكاة أسفل ١