أرشيف المقالات

فوائد تعدد القراءات

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
2فوائد تعدد القراءات   تعدُّد قراءات القرآن الكريم له فوائدُ يُدرك كلُّ أهلِ علمٍ منها ما قد يمُنُّ الله عليه به، وإذا نظرنا نظرةً في القراءات رغم قصر النظر، وقلة البحث؛ لظَهَر لنا فوائدُ؛ منها ما يكون للتيسير على الأمة، ومنها ما تكثر به المعاني، فيكون في الآية أو الكلمة أكثر مِن معنًى وفقَ كل قراءة، ومنها ما يكون لبيان وجهٍ مِن وُجوه الإعجاز، ومنها ما ينهلُ منه أهلُ اللغة، وكذا أهل التفسير وأهل الفقه وغيرهم؛ ومن هذه الفوائد: 1- التيسير على الأمة: حيث إن القرآن أنزله الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ليبلغه للناس كافةً، وألسنة الناس ولهجاتهم مختلفة، وخصوصًا الأمَّة العربية التي شُوفِهتْ بالقرآن؛ فإنها كانتْ قبائلَ كثيرةً، وكان بينها اختلاف في اللهجات، ونبرات الأصوات، وطريقة الأداء، فلو حملت جميعًا على حروفٍ، أو قراءة واحدة - في بادئ الأمر - لصَعُب عليهم الامتثالُ، فكان من آثار رحمة الله بها أن أُنزل القرآنُ على حروفٍ كثيرة، وقراءاتٍ متعددة؛ حتى يسهلَ على كل واحد منهم تلاوةُ القرآن بالقراءة التي تناسب نشأتَه اللغوية.   وقد أشار الإمامُ ابن الجزري في النشر إلى هذه المسألة بقوله: "فأما سبب وروده على سبعةِ أحرف فللتخفيف على هذه الأمة، وإرادة اليُسر بها، والتهوين عليها؛ شرفًا لها وتوسعةً ورحمةً، وخصوصية لفَضْلِها، وإجابة لقصد نبيِّها؛ أفضل الخلق، وحبيب الحق؛ حيث أتاه جبريل، فقال له: (إن الله يأمرك أن تُقْرِئ أمتك القرآن على حرفٍ، فقال: أسأل الله معافاته ومعونته، وإن أمتي لا تُطيق ذلك)، ولم يزل يُردِّد المسألة حتى بلغ سبعة أحرف، وفي الصحيح أيضًا: (إن ربي أرسل إليَّ: أن اقرأ القرآن على حرفٍ، فرددتُ إليه: أن هوِّن على أمتي، ولم يزل يُردد حتى بلغ سبعة أحرف)، وكما ثبت صحيحًا: ((إن القرآن نزل من سبعة أبواب على سبعة أحرف، وإن الكتاب قبله كان ينزل مِن بابٍ واحد على حرفٍ واحد، وذلك أن الأنبياء عليهم السلام كانوا يبعثون إلى قومهم الخاصين بهم، والنبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى جميع الخلق أحمرِها وأسودِها، عربيِّها وعجميها، وكانت العربُ الذين نزل القرآن بلُغتهم لغاتهم مختلفة، وألسنتهم شتَّى، ويعسر على أحدهم الانتقال مِن لغته إلى غيرها، أو مِن حرف إلى آخر، بل قد يكون بعضهم لا يقدر على ذلك، ولا بالتعليم والعلاج لاسيما الشيخ والمرأة، ومن لم يقرأ كتابًا كما أشار إليه صلى الله عليه وسلم، فلو كُلِّفوا العدول عن لُغتهم والانتقال عن ألسنتهم، لكان من التكليف بما لا يستطاع، وما عسى أن يتكلف المتكلِّف وتأبى الطباع[1].   2- التكثير: بمعنى تكثير المعاني، فقد تُؤدي كلُّ قراءة معنًى قد لا يوجد في غيرها، وقد توضح القراءة حُكمًا فقهيًّا، والقراءة الأخرى تبين حُكمًا آخر، وكل على أكمل وجه مِن وجوه الإعجاز؛ لأنه كلام الخالق تبارك وتعالى، ونضرب مثالًا لذلك ببعض الكلمات التي وردتْ بقراءاتٍ مختلفة منها. (1)كلمة: ﴿ فأزلَّهما ﴾ بسورة البقرة في قوله تعالى: ﴿ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ﴾ [البقرة: 36]؛ (قرأ حمزة بألف بعد الزاي وتخفيف اللام، وقرأ الباقون: ﴿ فأزلَّهما ﴾ بالحذف والتشديد، فأفادت قراءة: ﴿ فأزلهما الشيطان عنها ﴾ أن الشيطان تسبَّب في إيقاعهما في الزَّلَّة، وهي الخطيئة مِن خلال الأكل من الشجرة المنهي عنها. وأفادتْ قراءة: ﴿ فأزالهما الشيطان عنها ﴾ أن الشيطان تسبَّب في إبعادهما عن الجنة، وتنحيتهما عنها.   بالجمع بين القراءتين: يَتَبَيَّن أن الشيطان اللعين أوقعهما في الزلة مِن خلال الوسوَسةِ لهما بالأكل من الشجرة المحرَّمة، فكانت النتيجةُ أن أخرجهما من الجنة، قال القرطبي: "والوسوسة هي إنما إدخالهما في الزلَل بالمعصية، وليس للشيطان قدرةٌ على زوال أحد مِن مكانٍ إلى مكان، إنما قدرته على إدخاله في الزَّلَل، فيكون ذلك سببًا إلى زواله مِن مكان إلى مكان بذنبه[2]".   (2) في قوله تعالى: ﴿ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ ﴾ [التكوير: 24]؛ قرأها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ورُويس: بالظاء، بمعنى: (متَّهم)، وقرأ الباقون: بالضاد، بمعنى: (البخل)، فعلى هاتين القراءتين جمع له الأمانة وعدم التهمة[3].   (3) ما جاء في قوله تعالى: ﴿ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 259]؛ قرأ حمزة والكسائي بوصل الألف والجزم هكذا: ﴿ قال اعْلَمْ ﴾، وقرأ الباقون بقطع الألف والرفع كحفص؛ فالمعنى على قراءة القطع أنه أخبر عن نفسه عندما عاين قدرةَ الله في إحيائه الموتى، فتيقن ذلك بالمشاهدة، فأقرَّ أنه يعلم أن الله على كل شيء قدير؛ أي: أعلم أنا هذا الضرب مِن العلم الذي لم أكن أعلمُه معاينةً.   وفي قراءة وصل الألف معنى آخر، وهو أنه جعلها أمرًا معناه الخبر، وذلك أنه لمَّا عاين الإحياء، وتيقَّن أنزل نفسه منزلة غيره، فخاطبها كما يخاطب غيره، فقال: اعلمي يا نفس هذا العلم اليقين، الذي لم تكوني تعلمينه معاينة، وجاء بلفظ التذكير؛ لأنه المراد بذلك، ويبعد أن يكون ذلك أمرًا من الله تعالى له؛ لأنه قد أظهر إليه من قدرةٍ، وأراه أمرًا تيقَّن صحته، وأقرَّ بالقدرة فلا معنى لأن يأمره الله بعلم ذلك؛ بل هو يأمر نفسَه بذلك، وهو جائز حسن[4].   (4) في قوله تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ ﴾ [يوسف: 110]؛ في هذه الآية قرأ بتخفيف الذال عاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر وخلف العاشر، وقرأ الباقون بالتشديد؛ فعلى قراءة التشديد (يكون المعنى: الضمير للرسل)، والظن بمعنى اليقين؛ أي: لما استيئس الرسل من إيمانِ قومِهم أن يصدقوهم، وأيقنوا أن القوم كذَّبوا ﴿ جَاءَهُمْ نَصْرُنَا ﴾ [يوسف: 110]. وبالتخفيف يكون الضمير للقوم؛ أي: حَسِب القومُ أن الرسل كاذبون في وعيد العذاب[5]، وغير ذلك مِن الأمثلة الكثيرة في كُتُب التفسير، وكُتُب توجيه القراءات؛ فارجع إليه إن شئت.   3- الثراء اللغوي: وذلك نحو ما جاء في قوله تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ﴾ [النساء: 1]؛ قرأ حمزة كلمة: ﴿ والأرحام ﴾ بالخفض، والباقون بالرفع، وفي قراءته حجةٌ على جواز عطف الاسم الظاهر على الضمير المجرور مِن غير إعادة العامل، وهي لغة صحيحةٌ من لغات العرب[6].   4- إظهار وجه الإعجاز: وذلك رغم التكثُّر الذي يكون مدعاة للتشعُّب، فرغم تعدُّد قراءات القرآن وكثرة وجوه القراءة، وجدّ واجتهاد أعداء الله في الطعن في القرآن منذ نُزوله إلى يومنا هذا لم يستطعْ أحدٌ أن يجدَ من وراء هذا ما يشفي به ما في صدره مِن غِلٍّ؛ بل يؤمن أكثرهم ويشهدون أن قول الله حقٌّ. وفوائد تعدُّد القراءات كثيرةٌ تحتاج إلى كتبٍ لذِكْرها، وأكتفي هنا بذِكْر هذه النماذج خشية الإطالة، والذكي تكفيه الإشارة.   وقد نظم الشيخ البحياوي هذه الفوائد، وأشار إليها بقوله: معرفة الخُلْف لدى القرَّاءِ يفيد في الفَهم وفي الأداءِ وجوه تخفيف بها الفضيلةْ قد ثبتت للملة الجليلةْ ثَمَّت إظهار لسرِّ اللهِ في صون ذِكْره عن اشتباهِ أضف إليه ما يفيده الذي بلغته يُعنَى، فحقِّقْ واحتذي   حول معنى الأبيات: الأول: قوله يفيد في الفهم: يقصد بالفهم التفسير والأحكام (والأداء) وجوه التخفيف؛ كالفتح والإمالة وغيرها. قوله: إظهار لسر الله؛ أي: لهذا سرٌّ كبير أن يصونَ اللهُ ذكرَه، ويحفظه وهو بهذه الصورة من تكتُّل الوجوه. قوله: أضف إليه؛ أي: ما يفيد اللغوي مِن ثروة نادرة في تعاطيه لهذه العلوم.   • سـؤال: قد يقول البعض أرى كثيرًا من حَمَلة القرآن وقارئي القراءات لا يعلمون مِن علوم القرآن واللغة أو التفسير وغيرها ما ذكرت، فأي فائدة تعود عليهم؟! أقول: القرآن الكريم رزقٌ مِن الله تعالى، وقد يرزق اللهُ عبدًا بحفظ كتابه وهو لا يعلم معانيَ الكثيرِ من الكلمات، وقد يرزق آخرَ الحفظَ مع معرفة معانيه وإظهار مقاصده، وقد يرزق الآخر الحفظَ والقراءات والتحريرات وهو لا يعلم إلا القليلَ من المعاني والتفسير، وأقول لهذا: مَن أراد العمل بما في كتاب الله فلا بد له من فهمه وتدبُّره بقدر المستطاع، ومن لم يوفق لمثل هذا، وقام بما يستطيع، والتزم بحدود الله، فلم يتعدَّها وهو لا يحسن من اللغة والعلوم الأخرى شيئًا - كفاه شرفًا أن الله استعمله فجعله وعاء لكتابه ينقُله إلى غيره، فربما مثل هذا نقل القرآن لغيره وعلَّمه، فصار الناقل عنه عالمًا فقيهًا معلمًا مفسرًا، فيصبح هذا كلُّه في ميزان شيخه، فيُحَصِّل من الحسنات دون جهد ولا بحث ولا اجتهاد؛ إما في حياته أو بعد موته، ونرى نماذج كثيرة لأمثال هؤلاء؛ فكثير من علماء القراءات والتفسير والفقه واللغة يصلُ صوتُهم إلى العالَم كلِّه عبر وسائل الإعلام المرئي والمسموع، وتلاميذهم بالجامعات، وعند سؤالهم عن مشايخهم يجيبون أن الشيخ كان لا يعلم إلا النقل الصوتي والأداء الصحيح فقط، وليس له في الفقه واللغة والتفسير وغيرها باع ولا ذراع، فلا بدَّ من النيَّة الحسنة عند التعلِيم والتعلُّم، وكفى هؤلاء المشايخ أنهم يبلِّغون كتاب الله تعالى للناس، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتبليغ عنه ولو آية، فقال صلى الله عليه وسلم: ((بلِّغوا عني ولو آية))، قال صاحب تحفة الأحوذي في شرحه للحديث نقلًا عن صاحب اللمعات ما نصُّه: "بلغوا عني؛ أي: ولو كانت آية قصيرة من القرآن، والقرآن مبلَّغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الجائي به من عند الله تعالى".


[1] انظر: النشر في القراءات العشر، للإمام محمد بن الجزري 1/ 29 ط دار الصحابة. [2] انظر: الكشف عن علل ووجوه القراءات، للإمام: مكي بن أبي طالب القيسي 1/ 289 ط دار الحديث. [3] نقلًا من التبيان في تفسير غريب القرآن، للإمام: أحمد بن محمد بن شهاب الدين ابن الهائم، انظر: باهر البرهان في حل مشكلات معاني القرآن، للإمام بيان الحق نجم الدين محمود بن على النيسابوري القزويني المفسر ص 548 ط دار الكتب العلمية بيروت بتحقيق محمد عثمان. [4] الكشف عن علل ووجوه القراءات للإمام مكي بن أبي طالب القيسي 1/ 358. [5] انظر: باهر البرهان في حل مشكلات معاني القرآن، للإمام بيان الحق نجم الدين محمود بن على النيسابوري القزويني المفسر (سورة يوسف) ص230. [6] تاريخ علم القراءات، للدكتور عبدالكريم إبراهيم صالح أستاذ التفسير بجامعة الأزهر، ووكيل كلية القرآن الكريم.



شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢