أرشيف المقالات

فضل الإحسان إلى الجار

مدة قراءة المادة : 15 دقائق .
2فضل الإحسان إلى الجار   إن الحمد لله، نَحمَدهونَستعينه ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شُرور أنفُسِنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلاالله، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.   أمَّا بعد: فديننا دين معاملة، يقوم على التعاون على البرِّ والتقوى، والبعدِ عن الإثم والعدوان؛ كما قال تعالى: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [المائدة: 2].   ومن البر والتقوى الإحسانُ إلى الجار ومعرفة حقوقه، والأحاديثُ في هذا الصدد كثيرة؛ لما لهذه الطاعة من ثوابٍ كبير، ونشرِ المحبة والتعاون والإيثار بين الجيران.   ولعل القارئَ الكريم يدرك عظمةَ هذه الطاعةِ بكلام الصادق المعصوم في كثيرٍ من الأحاديث ترهيبًا وترغيبًا، فقد ربَط نبيُّنا صلى الله عليه وسلم الإيمانَ كلَّه بإكرام الجار والإحسان إليه، فقال صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ كان يُؤمن بالله واليوم الآخر، فليُكرِمْ جارَه))؛ البخاري (برقم: 6019).   ونفى الإيمانَ عمن يُسيء لجاره ولا يُؤمِّنُه بوائقَه - أي: ظُلمه وشروره - فقال: ((واللهِ لا يُؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن!))، قيل: مَن يا رسول الله؟! قال: ((الذي لا يَأمَن جارُه بوائقَه))؛ مسلم (برقم: 46).   يقول العلامة ابن العثيمين في شرح الحديث: وفي هذا دليل على تحريم العدوان على الجار، سواء كان ذلك بالقول أو بالفعل؛ أما بالقول فأنْ يسمع منه ما يُزعجه ويُقلقه؛ كالذين يفتحون الراديو أو التلفزيون أو غيرَهما مما يُسمَع، فيُزعجون الجيران، فإن هذا لا يحل له، حتى لو فتحه على كتاب الله وهو مما يُزعج الجيران بصوته، فإنه مُعتدٍ عليهم، ولا يحلُّ له أن يفعل ذلك.   وأما بالفعل، فيكون بإلقاء الكناسة حول بابه، والتضييقِ عليه عند مداخل بابه، أو بالدق، أو ما أشبه ذلك مما يَضُرُّه، ومن هذا أيضًا إذا كان له نخلة أو شجرة حول جدار جاره، فكان يسقيها حتى يؤذي جارَه بهذا السقي، فإن ذلك من بوائق الجار، ولا يَحل له.   إذًا يَحرم على الجار أن يؤذي جاره بأيِّ شيء، فإنْ فعل فإنه ليس بمؤمن، والمعنى أنه ليس متصفًا بصفات المؤمنين في هذه المسألة التي خالف بها الحقَّ؛ ا.
هـ؛ شرح رياض الصالحين (ج 3- 178).   ومِن ثَمَّ كثُرت الشكوى من كثير مِن العباد ممن لا يراعي لله حُرمة الجوار، ولا معانيَها السامية، وآدابها الإسلامية الرفيعة، ويعامل جاره معاملة العدوِّ اللدود الذي إذا رأى منه حسنةً كتَمها، يخشى أن يُثني بها الناسُ عليه كراهيةً له، وإذا رأى منه سيئةً، أذاعها ليَفضَحه بها بين الناس!   ولا عجب أنْ صارت العداوة إلى دائرة أوسعَ من الحقد والغل، حتى وصلت إلى المحاكم وأقسام الشرطة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليِّ العظيم.   وفي ظني أن الكثير من هذه التصرُّفات السيئة هي نتيجة لعادات متوارثة من جهةٍ، وجهل مَحض بحقوق الجيرة بين المسلمين.   وفي هذه السطور نريد أن نُبيِّن هذه المسألةَ المهمة، ونطرح الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة، وأقوال أهل العلم الثِّقات، عن حقِّ الإحسان إلى الجار وفضله وثوابه؛ ليكون كل واحد منا على بيِّنة من أمر دينه ودنياه، ونكتفي في هذه العجالة ببعض صور الإحسان إلى الجار وفضله وأهمها فيما أرى؛ منعًا للتطويل، وهي كما قلت: مسألة لا بدَّ أن يَعِيَها ويعلمها كلُّ مسلم، والله المستعان.   من صور الإحسان إلى الجار وفضله: 1- من صور الإحسان: عدمُ الإساءة بالقول أو الفعل إلى الجار، لماذا؟ لأن الإحسان إلى الجار خُلقٌ كريم، يهيِّئ القلوب إلى الخير، حتى لو أخطأ الجار لسبب من الأسباب في حقِّ جاره بكلمةٍ أو فعلٍ، فلا يردها وليتذكَّر قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 134].   وليعلم يقينًا أنه مهما كانت قسوة الظلم من الجار في القول والفعل، فإنه إنْ صبَر وكظَم غيظَه وعفا عنه، فله البُشرى من الله ولو بعد حين؛ فقد قال تعالى: ﴿ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ﴾ [الرحمن: 60].   2- ومن صور الإحسان: ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما زال جبريل يُوصيني بالجار حتى ظننتُ أنه سيُورِّثه))؛ مسلم (2624).   لهذه الدرجة يدعو الدين إلى حُسن معاملة الجار لجاره، حتى إنه رُوِي عن أبي ذر رَضِي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا ذر، إذا طبَختَ مَرقةً، فأكثِرْ ماءَها وتعاهَد جيرانك))؛ رواه مُسلم (2625).   ومما يُروى أن رجلًا جاء إلى عبدالله بن مسعود وقال: إن لي جارًا يؤذيني ويَشتِمُني، ويُضيِّقُ عليَّ، فقال ابن مسعود: "اذهبْ فإن هو عَصَى الله فيك، فأَطعِ الله فيه".   وثبت أن مَن أراد أن يُحبه اللهُ ورسوله، فليُحسن إلى جاره ولا يؤذيه فيما يكره أن يراه منه؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن أحببتُم أن يُحبَّكم الله ورسوله، فأدُّوا إذا ائْتُمِنتُم، واصْدُقوا إذا حدَّثتُم، وأحسِنوا جوار مَن جاوَرَكم))؛ صحيح الجامع (1409).   بل ثبت أن من صور الإحسان شهادةَ الجيران لك بحُسن خُلقك وحُسن معاملتك لهم، وفي هذا دليلٌ وشهادة مقبولة لك عند الله تعالى، والعكس بالعكس، فلا تَستهِنْ بالتماس الأسباب التي تحثهم على تزكيتهم لك؛ فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف لي أن أعلمَ إذا أحسنتُ وإذا أسأتُ؟ قال: ((إذا سمعتَ جيرانك يقولون: أن قد أحسنتَ، فقد أحسنتَ، وإذا سمعتَهم يقولون: أسأتَ، فقد أسأتَ))؛ الصحيحة (1327).   فجارُك هو المؤشر الذي من خلاله تستطيع أن تعرف حقيقة نفسك من جهة الإحسان من عدمه، وقد تقول بعضُ النسوة: كل هذا للرجال، فما دخلنا نحن النساء؟! نقول لهنَّ: بل أنتنَّ في ثواب الإحسان إلى الجار كالرجال تمامًا، بدليل ما ثبت في البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((يا نساء المسلمات، لا تَحْقِرَنَّ جارةٌ لجارتها ولو فِرْسِنَ شاةٍ))؛ حديث رقم: (2566).   • والمعنى: "لا تَحقرنَّ أن تُهدي إلى جارتها شيئًا، ولو أنها تُهدي لها ما لا يُنتَفَعُ به في الغالب"؛ (الفتح:10/ 445).   ولعل البعض يسأل فيقول: لي جيران كُثُر يسكنون معي في بيت أو عمارة، فمن الذي أُحسن إليه وأُهدي: القريب من بابي أم البعيد؟!   قال أهل العلم: يبدأ بالجار الأقرب فالأقرب؛ لحديث البخاري الذي رواه عن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، إن لي جارينِ، فإلى أيهما أُهدي؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((إلى أقربِهما منك بابًا)).   قال الصنعانيُّ في سبل السلام (2/ 172): "والحكمة في ذلك أن الأقرب بابًا يرى ما يدخل بيتَ جاره من هَدية وغيرها، فيتشوَّف إليها، بخلاف الأبعد"؛ ا .هـ.   ويقول العلامة الألباني رحمه الله في "السلسلة الصحيحة" (1 /230): "وفي الحديث دليلٌ واضح على أنه يَحرم على الجار الغنيِّ أن يدَع جيرانه جائعين، فيجب عليه أن يُقدِّم إليهم ما يدفعون به الجوع، وكذلك ما يَكتسون به إن كانوا عُراةً، ونحو ذلك من الضروريات".   3- ومن صور الإحسان إلى الجار كذلك: صيانةُ عرضه، والحفاظ على شرفه، سواء في وجوده أو غيابه لسفر أو غيره. فمن حق الجيرة والإسلام أن نَحفظ حقوقه في غيبته، وستر عورته، وغضُّ البصر عن محارمه، والبعد عن كل ما يَريبُه ويُسيء إليه، ولا يكون الواحد منا جارًا سيئًا ظالِمًا، إن رأى من جاره حسنة كتَمها، وإن رأى منه سيئة أذاعها بين الناس ليَفضَحه، ولا يَخفى أن محاولة الجار السيئ الذي لا يخاف الله في زوجة جاره وأولادها بالقول أو الفعل - جريمةٌ لا يَقبلها عُرفٌ ولا دينٌ، وعنترة الجاهليُّ أفضل منه غيرةً وحَميَّةً، فقد قال في ديوانه ص (308): وأَغُضُّ طَرْفِيَ ما بَدَتْ لي جارَتي ♦♦♦ حتى يُوَارِيَ جارَتي مَأْوَاها   وهكذا كان العرب في الجاهلية يَفخرون بصيانتهم أعراضَ جيرانهم، ولما جاء الإسلام أكَّد هذا الأمر، وينبغي على الجار المسلم في حالة غياب جاره لسبب من الأسباب - أن يكون ورعًا تقيًّا، وأن يكون أشد غيرةً على نساء جاره، ويكون لهن أخًا ناصحًا، يساعدهنَّ كما ساعد موسى عليه السلام ابنتَي الرجل الصالح؛ قال تعالى: ﴿ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾ [القصص: 23، 24].   وله أن يسعى في حل مشكلاتهنَّ وقضاء مصالحهنَّ في سفر وغيبة جاره بقدر الإمكان، ويفعل ذلك من باب: ﴿ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الحج: 77]. وفي السُّنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته))؛ البخاري (برقم: 2442).   ونُنبه بشدة إلى أن ذلك حسب ما تُبيحه الشريعة، وليس العرف بمفاسده التي تضربها في الصميم، ويستحل بها الخلوة، بل عليه أن يلتزم في ذلك بالآداب الإسلامية، ولا ينفرد في خلوة محرَّمة مع نساء جاره في غيبته، فمهما كانت الحاجة والطلب، فهو باب للشيطان قد يؤدي إلى الزنا، والعياذ بالله.   قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وأعظم أنواع الزنا أن يزني بحليلة جاره، فإن مفسدة الزنا تتضاعف بتضاعُف ما يَنتهكه من الحرمة، فالزنا بالمرأة التي لها زوج أعظم إثمًا وعقوبةً مِن التي لا زوج لها؛ إذ فيه انتهاك حرمة الزوج وإفساد فراشه، وتعليق نسب غيره عليه، وغير ذلك من أنواع أذاه، فهو أعظم إثمًا وجُرمًا من الزنا بغير ذات البعل، فإن كان زوجها جارًا له، انضاف إلى ذلك سوءُ الجوار.   وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يدخل الجنة مَن لا يَأْمَن جارُه بوائقَه))، ولا بائقة أعظم من الزنا بامرأته، فإن كان الجار أخًا أو قريبًا مِن أقاربه، انضم إلى ذلك قطيعة الرحم، فيتضاعَف الإثم، فإن كان الجار غائبًا في طاعة الله - كالصلاة وطلب العلم والجهاد - تضاعَف الإثم؛ا .هـ؛ الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (ص/112).
4- وأخيرًا من صور حسن الجوار: أن يقف بجوار جاره في أوقات شدته، سواء كان بلاؤه ماليًّا أو معنويًّا ونفسيًّا؛ حتى يُيسر الله له، فإن احتاج مالًا ساعده بقدر المستطاع، وإن أعطاه وتعذَّر السداد في الموعد الذي اتَّفقا عليه، فليَعذِره ويُمهله إلى حين ميسرة؛ فقد أخرج الإمام مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن يسَّر على مُعسِر، يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، واللهُ في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)).   وإن احتاج نصيحة وموعظة لأمرٍ أساءَه، فليُبادر إلى ذلك برِفق ولِينٍ، أو شدةٍ بلا إفراط؛ حسب حاله مع الله تعالى، فلقد كان الصحابة - وهم لنا قدوة حسنة - يواسي بعضهم بعضًا بالمعروف.   وللجار حقٌّ على جاره بأن يردَّ ما أخذه منه مِن باب ردِّ الأمانات إلى أهلها، وعليه أن يبادر بكتابة هذا الدَّين في ورقة لحفظ حقِّ جاره من نفسه الأمَّارة بالسوء؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ...
[البقرة: 282].   ثم إذا حان وقت السداد، فليبادر بقضائه قبل المنيَّة؛ فقد أخرج الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((نفسُ المؤمن مُعلَّقةٌ بدَينه حتى يُقضى))؛ رواه الترمذي (1078).   قال المباركفوري في "تحفة الأحوذي" 4 /164: "قوله: (نفس المؤمن معلَّقة)، قال السيوطي: أي: محبوسة عن مقامها الكريم، وقال العراقي: أي: أمرُها موقوفٌ لا حكم لها بنجاة ولا هلاك، حتى يُنظر هل يُقضى ما عليها من الدَّين أم لا"؛ انتهى.   ونزيد على ذلك ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: ((مثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطفهم: مثلُ الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمَّى))؛ متفق عليه.   وصور الإحسان كثيرة لا نستطيع حصرها في هذه العجالة لعدم الإطالة، ولكن يُدركها المسلم اللبيب؛ مثل: أن تَنصره ظالِمًا أو مظلومًا، وأن تُعينه على العلم والتعلُّم وطاعة الله، وأن تُحسن الظنَّ به، وأن تكفَّ أذاك عنه بالقول أو الفعل، وغير ذلك كثير.   والحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على النبي الكريم وآله وصحبه أجمعين.



شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣