أرشيف المقالات

العالم بالفقه دون أصوله، والعالم بأصول الفقه دون فروعه: هل يعتد بقولهما في الإجماع؟

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
2العالم بالفقه دون أصوله، والعالم بأصول الفقه دون فروعه: هل يعتد بقولهما في الإجماع؟[1]   اتفق العلماء على أن المعتبَر رأيُه وفاقًا وخلافًا في الإجماع هو الفقيه الذي استكمل آلة الاجتهاد، وتمكَّن من النظر، واتفقوا كذلك على أن من بلَغَ درجة الاجتهاد في فنٍّ من الفنون، فإن رأيه في ذلك الفن يُعتبر؛يقول الزركشي في "البحر المحيط": "مسألة: (الذين يُعتبر قولهم في الإجماع): يُشترط في الإجماع في كل فنٍّ من الفنون أن يكون فيه قولُ كل العارفين بذلك في ذلك العصر؛ فإن قول غيرهم فيه يكون بلا دليل بجهلهم به، فيُشترط في الإجماع في المسألة الفقهية قولُ جميع الفقهاء، وفي الأصول قولُ جميع الأصوليِّين، وفي النحو قول جميع النحويين، وخالف ابنُ جني، فزعم في كتاب "الخصائص" أنه لا حجة في إجماع النحاة"[2].

وأما إجماعهم في غير الفن، فهو الذي فيه الخلاف، وهنا اختلفوا في مسألة: العالم بالفقه دون أصوله، والعالم بأصول الفقه دون فروعه: هل يعتدُّ بقولهما في الإجماع؟ أقول: لقد حاول الإمام الغزاليُّ رحمه الله في المُستصفَى بعدما عرض لتعريف الإجماع أن يوضِّح معالم الوِفاق والاختلاف في هذه المسألة؛ حيث قال: "المجمعون وهم أمَّةمحمدصلى الله عليه وسلم،وظاهر هذا يتناول كلَّ مسلم، لكنْ لكل ظاهرٍ طرفان واضحان في النفي والإثبات وأوساطٌ متشابهة.
• أما الواضح في الإثبات، فهو كل مجتهد مقبول الفتوى، فهو أهل الحل والعقد قطعًا، ولا بد من موافقته في الإجماع.
• وأما الواضح في النفي، فالأطفال والمجانين والأجنَّة، فإنهم وإن كانوا من الأُمَّة فنعلم أنه عليه الصلاة والسلام ما أراد بقوله: ((لا تجتمع أمتي على الخطأ)) إلا مَن يُتصوَّر منه الوِفاق والخلاف في المسألة بعد فهمها، فلا يدخُل فيه من لا يفهمها.
وبين الدرجتين: العوامُّ المكلَّفون، والفقيه الذي ليس بأصوليٍّ، والأصوليُّ الذي ليس بفقيه، والمجتهدُ الفاسق، والمبتدع، والناشئ من التابعين مثلًا إذا قارَبَ رتبة الاجتهاد في عصر الصحابة.
يقول الإمام الجوينيُّ: "وأما المُفتونَ المجتهدون، فلا شكَّ في اعتبارهم، وأما الذين تبحَّروا في الأصول وقواعد الشرع وأطرافٍ من الفقه، والذين تبحَّروا فيالفقه وفقهت نفوسُهم، وعرَفوا طرفًا صالحًا من الأصول، فهل يعتبرون؟ تردد"[3].
ورأي الجويني هذا يوضِّح مرادَه في متن الورقات؛ حيث يقول: "وأما الإجماع، فهو اتفاق علماء العصر على حكم الحادثة، ونعني بالعلماء الفقهاء"[4]، علَّق الدكتور أحسن لحساسنة في شرحه على الورقات على الجملة الأخيرة بقوله: "أي: العلماء المجتهدين الذين استكملوا آلة الاجتهاد، وتمكَّنوا من النظر"[5].
غير أن شرَّاح الورقات كالحطَّاب والمحلِّي علَّقوا بما يُفهم منه أن إمام الحرمين ممَّن يقول بأن الأصــوليَّ الخالي عن الفقه رأيُه غيرُ مُعتبرٍ؛ فقد علَّق الحطاب بقوله: "يعني المجتهدين؛ فلا يُعتبر موافقة الأصوليين"[6]، ولكن كلامه في البرهان يوضِّح رأيَه في المسألة[7].
• إجماع الأصوليِّ الخالي عن الفقه، والفقيه الخالي عن الأصول: هل يُعتدُّ به؟ جاء في الغيث الهامع شرح جمع الجوامع قوله: "واختلفوا في اعتبار قول الأصوليِّ الذي ليس بفقيه، والفقيه الذي ليس بأصوليٍّ على أربعة أقوال: الأول: الاعتبار مطلقًا. والثاني: عدمه مطلقًا.
والثالث: اعتبار قول الأصوليِّ؛ لأنه أقرب إلى مقصود الاجتهاد واستنباط الأحكام من مآخذها، وليس من شرط الاجتهاد حفظ الأحكام، بخلاف الفقيه الحافظ للأحكام، وهذا القول هو المحكيُّ في كلام المصنِّف، واختاره القاضي أبو بكر، وقال الإمام: إنه الحقُّ.
والرابع: عكسه، وهو اعتبار قول الفقيه دون الأصوليِّ؛ لأنه أعرف بمواقع الاتفاق والاختلاف"[8].
وقد اعتبر الإمام الزركشيُّ أن الخلاف في هذه المسألة فرعٌ عن الخلاف في مسألة اعتبار قول العوامِّ في الإجماع؛ حيث يقول:"من اعتبر قولَ العوامِّ في الإجماع اعتبر قولَ الفقيه الخالي عن الأصول؛ للتفاوت في الأهلية، وقولَ الأصوليِّ الخالي عن الفقه والكلام؛ لما بين العاميِّ وبين هؤلاء من التفاوُت في الأهلية وصحة النظر، هذا في الأحكام، وهذا في الأصول.
ومن لم يعتبر قول العاميِّ في الإجماع، اختلفوا في الفقيه والأصوليِّ على ثلاثة مذاهب: منهم من اعتبر قول الجميع؛ لقيام الفرق بينهم وبين العامي، ومنهم من ألحقه بالعامي؛ لعدم الأهلية الموجودة في أهل الحل والعقد، ومنهم من فصَّل فاعتبر قول الفقيه، وألغى قول الأصوليِّ، ومنهم من عكس؛ لكونه أعلَمَ بمدارك الأحكام، وكيفية اقتناصها من مداركها مِن الفقيه الذي ليس بأصوليٍّ"[9].
ولكن الإمام الغزاليَّ رجَّح كفة الأصوليِّ على الفقيه الحافظ للفروع فقط؛ حيث يقول بعد أن حكى الخلاف: "قال قوم: لا يُعتدُّ إلا بقول أئمة المذاهب المستقلِّين بالفتوى كالشافعي ومالك وأبي حنيفة وأمثالهم من الصحابة والتابعين، ومنهم من ضمَّ إلى الأئمة الفقهاء الحافظين لأحكام الفروع الناهضين بها، لكنْ أخرَجَ الأصوليَّ الذي لا يعرف تفاصيل الفروع ولا يحفظها.

والصحيح أن الأصوليَّ العارف بمدارك الأحكام وكيفية تلقِّيها من المفهوم والمنظوم، وصيغة الأمر والنهي والعموم، وكيفية تفهيم النصوص والتعليل - أولى بالاعتداد بقوله من الفقيه الحافظ للفروع، بل ذو الآلة من هو متمكِّن من درك الأحكام إذا أراد، وإن لم يحفظ الفروع، والأصوليُّ قادر عليه، والفقيه الحافظ للفروع لا يتمكَّن منه.

وآيةُ أنه لا يُعتبر حفظ الفروع أن العباس والزبير وطلحة وسعدًا وعبدالرحمن بن عوف وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وأبا عبيدة بن الجراح وأمثالهم ممَّن لم يُنصِّب نفسه للفتوى، ولم يتظاهر بها تظاهُرَ العبادلة وتظاهُر عليٍّ وزيد بن ثابت ومعاذ - كانوا يعتدون بخلافهم لو خالفوا، وكيف لا وكانوا صالحين للإمامة العظمى، ولا سيما لكون أكثرهم في الشورى؟ وما كانوا يحفظون الفروع، بل لم تكن الفروع موضوعةً بعدُ، لكن عرَفوا الكتاب والسُّنة، وكانوا أهلًا لفهمهما، والحافظُ للفروع قد لا يحفظ دقائق فروع الحيض والوصايا، فأصلُ هذه الفروع كهذه الدقائق، فلا يشترط حفظها؛ فينبغي أن يُعتدَّ بخلاف الأصوليِّ وبخلاف الفقيه المبرز؛ لأنهما ذوا آلةٍ على الجملة، يقولان ما يقولان عن دليل"[10].

اعتراض ابن قدامة: اعترض ابن قدامة على من قال بتقديم الأصوليِّ، فقال:"وقال قوم: لا ينعقد الإجماع بدونهم[11]؛ لأن الأصوليَّ العارف بمدارك الأحكام، وكيفية تلقيها من المفهوم والمنطوق، وصيغة الأمر والنهي والعموم - يتمكَّن من درك الأحكام إذا أراد، وإن لم يَحفظ الفروع.
وآيةُ ذلك أن العباس وطلحة والزبير ونظراءهم ممن لم يَنصِبْ نفسَه للفتيا نَصْبَ العبادلةِ وزيد بن ثابت ومعاذٍ - يُعتدُّ بخلافهم، وكيف لا يُعتدُّ بهم وهميصلحون للإمامة العظمى، وقد سُمِّي بعضهم في الشورى؟ ولم يكونوا يحفظون الفروع، بل لم تكن الفروع موضوعةً بعدُ، لكن عرَفوا الكتاب والسنة، وكانوا أهلًا لفهمهما، والحافظُ للفروع قد لا يحفظ دقائق مسائل الحيض والوصايا،فأصلُ هذه الفروع كأصل هذه الدقائق.
والجواب: أن من لا يعرف الأحكام، لا يعرف النظير فيقيس عليه، ومن لا يعرف الاستنباط مع عدم معرفته ما يستنبط منه، لا يُمكنه الاستنباط، وكذلك من يعرف النصوص، ولا يدري كيف يتلقَّى الأحكام منها، كيف يمكنه تعرُّفُ الأحكام؟! وأما الصحابة الذين ذكروهم، فقد كانوا يعلمون أدلة الأحكام وكيفية الاستنباط، وإنما استغنَوا بغيرهم، واكتفَوا بمن سواهم"[12].
يقول الشاشي: "والمعتبر في هذا الباب إجماعُ أهل الرأي والاجتهاد؛ فلا يُعتبر بقول العوام والمتكلِّم والمحدِّث الذي لا بصيرةَ له في أصول الفقه"[13].
بل إن الإمام أبا إسحاق الشيرازيَّ اعتبر الأصوليَّ الخالي عن الفقه بمنزلة العاميِّ؛حيث قال: "ومن قال: إنه يعتبر اتفاق الأصوليِّين، فالدليل عليه هو أن الأصوليين ليس هم من أهل الاجتهاد؛ لأنهم لا يعرفون أحكام الفقه ومعانيَها، فهُم كالعامَّة"[14][15].
وقال في موضع آخر من كتابه اللمع في أصول الفقه: "وأما من لم يكن من أهل الاجتهاد في الأحكام كالعامة والمتكلمين والأصوليِّين، لم يعتبر قولهم في الإجماع"[16].
وعلَّل هذا الإلحاقَ بقوله: "لأن العامة لا يعرِفون طرق الاجتهاد؛ فهم كالصِّبيان، وأما المتكلِّمون والأصوليون، فلا يعرفون جميع طرق الأحكام؛ فلا يُعتبر قولهم؛ كالفقهاء إذا لم يعرفوا أصول الفقه"[17].
وقد أعجبني هنا كلامٌ لصاحب قواطع الأدلة حيث قال: "ونقول في تقسيم الفقهاء: إن من يعرف الفروع والأحكام، ولا يعرف دلائلها وعللها، فهذا ناقلٌ يرجع إلى حفظه، ولا يعوَّل على اجتهاده، ولا يرتفع الإجماعُ بخلافه، وأما من يكون حافظًا للأحكام والفروع بدلائلها وعللها، مشرفًا على الأصول في ترتيبها ولوازمها، عارفًا شبهها وأدلتها وعللها، فهذا أكمل الفقهاء علمًا، وأصحُّهم فيه اجتهادًا، وهذه الطبقة هم الذين يُرجع إليهم في الإجماع والاختلاف، وأما من يكون حافظًا للأحكام والفروع بدلائلها وعللها، غير عارف بالأصول وترتيبها ولوازمها، فيصح اجتهاده فيما يقتضيه التعليل والسُّنة، ولا يصح اجتهاده فيما يقتضيه دلائل الأصول"[18].
ولهذا قال صاحب الإبهاج: "والقول المغني في ذلك: إنه لا قول لمن لم يبلُغْ مبلَغَ المجتهدين، وليس بين مَن يُقلِّد ومن يقلَّد مرتبةٌ ثالثة"[19].
خاتمة: بعد عرضِ كلِّ ما سبق من أقوال وأدلة، يتبيَّن لنا "أن هذا الكلام نظريٌّ افتراضي، لا يؤيِّده واقعُ العلماء؛ إذ المعلوم مما نراه ونعلمه من سيرة العلماء على مرِّ العصور أنه لا يوجد عالم بالأصول وهو يجهل الفروع، ولا عالمٌ بالفروع وهو يجهل الأصول، غير أنه قد يوجد من له تميُّز في الأصول أكثرَ من تميُّزِه في الفقه، ومن له تميُّز في الفقه أكثرَ من تميُّزه في الأصول"[20].


[1] إنجاز: الدخلاوي علال؛ طالب باحث.
[2] البحر المحيط؛ ج6 ص416.
[3] البرهان في أصول الفقه؛ الجويني، ج1ص264. [4] المُراد بالفقهاء: "المجتهدون المستنبِطون الأحكام الشرعية بالأدلة، بخلاف من نقل مذهبه عن غيره، فإنه لم يكن منهم، ولا تضر مخالفتهم"؛ الأنجم الزاهرات في حل ألفاظ الورقات، ص202. [5] الموافقات في شرح الورقات، ص149. [6] قرة العين شرح ورقات إمام الحرمين، ص70، وشرح الورقات للمحلي، ص103. [7] إرشاد الفحول؛ للإمام الشوكاني، ص159. [8] الغيث الهامع شرح جمع الجوامع، ج1، ص: 488 - 489. [9]البحر المحيط؛ للزركشي، ج 6ص 416. [10] المستصفى؛ للغزالي، ص145. [11] أي الأصوليِّين. [12] روضة الناظر بشرح نزهة الخاطر، ج1ص352-353.
[13] أصول الشاشي، ص291. [14] التبصرة في أصول الفقه؛ لأبي إسحاق الشيرازي، ج1ص371.
[15] تشنيف المسامع بجمع الجوامع، ج3ص85. [16] اللمع في أصول الفقه؛ للشيرازي، ج1ص92.
[17] اللمع، ج1ص92. [18] قواطع الأدلة في الأصول، ج1ص481. [19] الإبهاج في شرح المنهاج، ج2ص385. [20] الإجماع؛ للباحسين، ص105.



شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣