أرشيف المقالات

نهضة المرأة المصرية

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
8 3 - نهضة المرأة المصرية وكيف توجه للخير العام للأستاذ فليكس فارس من هذا الموقف دفعت الإنسانية في الغرب أوائل خطواتها على سبيل المدنية الحديثة، فكان التمرد على النظم القديمة البالية، وكانت الثورات التي خضبت الأرض بدماء الأسياد والعبيد، بدماء الظالمين والمظلومين، بدماء الأبرياء والمجرمين، نجيعاً واحداً رقص الشعب فوقه صاخباً باكياً ضاحكاً في سكرة الأماني المحطمة والآلام المخدرة. من مثل موقف الرومان ومن مثل موقف العرب حين سادت الخرافات بين الشعوب خرجت أوربا إلى عهدها الجديد، ولكن عيسى لم يكن هاديها، ولا كان محمد ماشياً في طليعتها.
كان إنجيل الغرب حقوق الإنسان التي كتبها الثائرون بالدم المتمرد، وكان قرآنها القوانين التي سنها نابليون لإقامة الموازنة بين الحقوق، ولكن هذا الإنجيل الحديث الذي استمد من إنجيل عيسى المساواة والإنصاف لم يتناول سواهما من مبادئ الإحسان والعطف والمغفرة والرحمة، وهذا القرآن الجديد: قوانين نابليون المستمدة من مذاهب الأئمة في الشرع الإسلامي وقف عند حد التنظيم المادي لحقوق الناس، فقصر عن الأخذ بما في قرآن النبي الهادي من الدعوة إلى المعروف والبر بإلادنين والأبعدين من بني الإنسان. رأت بلاد الغرب أن الدين قد أصبح سلطة تواطأت طويلاً مع السلطان المدني المطلق وما حوله من سادات الإقطاع، وامتنع عليها أن نسلخ إنجيل عيسى عن هذه السلطة فأنكرتها وأنكرت عيسى وتعاليمه معها.
وسارت المدنية الحديثة في طريقها مستنيرة بالعلم الوضعي منكرة كل ما لا تقع الحواس عليه، فأصبحت القوة وحدها المسيطر الأعلى تنبسط قاعدة رهيبة للعجل الذهبي فتمده باعتلائها ويمدها بلمعانه وصولته. وبقيت المسيحية دين الغرب، ولكنها حصرت في كنائسه وانكمشت مبادئها عن الحياة نفسها، وبينما كانت تتلى في المعابد كل يوم الآيات التي هبطت على جبل فلسطين فهزت الدنيا وقلبت المدنيات القديمة، وتتلى بعدها رسائل الحواريين التي كتبت في السجون لتحرير الإنسان، كانت مدنية روما الوثنية تنبعث من كل جانب لتدور حول الكنائس مقهقهة ساخرة. كان العذارى يخرجن من الكنائس بعد سماعهن قول بولس الرسول بالتستر وحجب الشعور والاحتشام والطاعة للقيمين، فيذهبن إلى المراقص نصف عاريات كأنهن الدمى الرومانية نفخ إبليس فيهن نسمة الحياة. إن غريزة المرأة في الأصل لا تطمح إلا إلى الطريق الذي اختطه لها الناموس الطبيعي في تكوينها، وما أحبت امرأة رجلا إلا وكانت محبتها خيالاً سابقاً لمحبة الطفل الكامنة فيها. وإذا كانت الفتاة قد لجأت إلى المواخير كما يقول الفريد دي ميسيه لتأكل بثدييها، وتلتقي هناك بمن منع على نفسه أن يكون قيماً عليها فأصبح مستثمراً لشقائها، فأنها لم تلبث أن تعودت إذلاله لها في عرضها فلجأت إلى العمل لتأكل بعرق جبينها احتفاظاً على الأقل بحق اختيارها للرفيق الموقت أو بحق التمرد على أنوثتها الكاسرة من عزتها، وهكذا بعد أن كان الفتى يلقى الفتاة التي تحول عنها المواخير ليذلها، أصبحت هي تلاقيه في ميادين الأعمال لتزاحمه متملصة من إذلاله. سوف يأتي يوم وهو غير بعيد تنتبه المدنية فيه إلى أن الرجل الكامل الذي ينشده العلماء في الغرب لن يخلق لهم من التمرين لقوى العقل وقوى الجسد ولا من فحص الخلايا بالمجهر حتى ولا من التلقيح بالمواد الكيميائية أو غدد القرود، فيتحققون أن الرجل المتفوق إنما هو أبن الحب الصحيح؛ فالمحبة وحدها هي السبيل إلى إدراك الحق والقوة والجمال. لندع العالم المتمدن يفتش بعلومه ونهضته على هذا الحب الذي تخيله كارل ماركس متجلياً في الحرية التامة للناس في أهوائهم فجاءت روسيا البلشفية تثبت انخداعه في نظرياته، ليقتنعوا أنهم لن يتوصلوا في تجاربهم إلا إلى العبر الزاجرة المؤلمة. أما نحن أبناء هذا الشرق العربي الذي انبثق الحق فيه انصباباً من الداخل بالإلهام لا تلمساً من الخارج، فلنا المسك المفتوح منفرجاً أمامنا للاعتلاء والخروج إلى النور بعد هذا الليل الطويل، إذا نحن أخذنا بروح ما أوحاه الحق إلينا. لا بترقية الزراعة والصناعة، ولا بنشر التعليم والتهذيب، ولا بجعل البلاد جنة في أرضها غنى وتنظيماً، تنشأ الأمة ويخلق الشعب الحر السعيد. إن الجنين الذي يحمل أسباب شقائه وهو في بطن أمه لا يمكنه أن يصير رجلاً حراً قوياً يفهم حقيقة الحياة ويتمتع بالعظمة الكامنة فيها. إن الاهتمام بإيجاد الطفل الصالح أولى من العمل لإعداد العلم والتهذيب لطفل نصقل مظاهره صقلاً وتتحطم كل محاولة نصرفها للنفوذ إلى علته المستقرة فيه منذ تكوينه. ليس الفقير المتسول، ولا العليل المتألم، ولا الشيخ الهرم يتمشى بلا عزاء إلى قبره؛ ليست المرأة المستعبدة بلقمة، ولا الفتاة المخدوعة المنطرحة على أقذار المواخير؛ ليس كل هؤلاء الناس الأشقياء في الحياة بأشقى من الأطفال يجور عليهم الآباء والأمهات قبل أن يقذفوا بهم إلى الوجود ثم يرهقوهم بالقطيعة والإهمال حين يدرجون على الأرض بأقدامهم الناحلة المرتجفة. الرجل الذي يمسخ حبه شهوة، والمرأة المتقصفة المتهتكة التي تجعل هيكل نسمات الله مركعاً لنفايات البشر من عباد الخيانة والطيش، إنما هما آدم وحواء مطرودين من الجنان إلى أرض الجهود المضيعة والآلام المحتمة.
ومن يدري أن حديث معصية الأبوين الأولين ليس رمزاً لخيانة الحب، تلك الخيانة التي تنزل اللعنة بمرتكبيها وبأبنائهم من بعدهم. إن هذه الحقائق التي استجليناها من قلب الحياة لتملي علينا المبادئ التي يجب أن نأخذ بها لتوجيه المرأة للخير العام. إننا، ولا ريب، تجاه نهضة نسائية تبشر بارتقاء قريب، ولكن هذه النهضة مقصورة على عدد قليل من السيدات اللواتي لم ينخدعن بمظاهر المدنية الغرارة فأدركن أن المرأة المترجلة الضلول ليست هي من نرجو لإحياء الأسرة وخلق الأمة الحية. الظلمات كثيفة، والمشاعل قليلة، ولكن هذه المشاعل كفيلة إذا رفعت بإنارة نساء اليوم ونساء الغد وإرشادهن إلى ما ثوى فيهن من فطرة شرقية سامية. ليس كالمرأة من يصلح المرأة أو يفسدها.
فليذهب صوت المرشدات متغلغلاً في كل طبقات الأمة مهيباً بنسائها إلى النهوض.
وليست النهضة التي نرجوها للخير العام بين النساء مما يستلزم الوقت الطويل، لأنه إذا كانت نهضة الرجال في أمة تقتضي تحصيل العلوم بأنواعها وفروعها سياسية وإدارية وصناعية وزراعية وفلسفية، وتستلزم لبلوغ هذا الغرض امرار السنين الطوال درساً وتفكيراً، فليس الحال على هذا المنوال في إنهاض المرأة. نهضة الرجل فكرية عملية، أما نهضة المرأة فإحياء إيمان وإشعال عاطفة.
وقد لا تحتاج نساء بلدة لأكثر من خطب معدودة تلقيها امرأة ملهمة يملي عليها الحق الأعلى ما تقول، فتخلق من كل فتاة زوجة صالحة، ومن كل زوجة أما رؤوما. إن الشريعة في هذا الشرق العربي إنما هي وحي من السماء لخير المجتمع في مختلف الأحوال والعصور؛ ولشرعة الزواج بخاصة في هذه البلاد ما ليس لأي قانون ابتدعه الناس في سائر المعمور من حكمة ومرونة، فهي عقد فيه للجاهلية المنحطة روادع وقيود، وللمستنيرة الراقية الفاضلة بحال رحب يمتد فيه حقها قدر استحقاقها. الحق استحقاق وليس هبة؛ وما ظلمت نساء الشرق في أدوار انحطاطه إلا لقصورهن عن نيل هذا الحق. أما وقد آذنت الساعة بالنهوض، وقيض الله لمصر والشرق العربي من يرى إصلاح المجتمع بتساوي أهمية وإصلاح الهيئات الحاكمة فيه، فقد حق على النابهين رجالاً ونساء أن يؤدوا رسالة الإصلاح لإحياء الأمة واستعادة مجدها. فلنستثمر إذن نهضة الناهضات في سبيل الخير العام لإقالة الأسر من كبواتها على الأس الآتية: 1 - إحياء شعور المرأة بقداسة رسالتها، فتحس بأن لها شخصية مستقلة يسودها الانتخاب الطبيعي للرفيق مترفعاً عن كل استهواء للمطامع والشهوات المضللة.
إن أشقى الناس من ضعفت شخصيته إلى درجة التردد في اختياره، وأذل فتاة في الحياة من تقف حائرة بين طلابها فتنصب ميزان الترجيح ذاهبة مع الاعتبارات الفانية للتحكم بالحوافز الخفية العالقة بأهداب الخلود. 2 - تمكين عقيدة المرأة في أن حريتها كامنة في عبوديتها (لاشتياقها) كزوجة وكأم، وإن انعتاقها من هذه العبودية إنما هو كفر بربها وبذاتها. 3 - تفهّم سيادة الرجل القوام على المرأة على ما قصده الشرع من تأمين الحاجة والرعاية والصيانة، فلا تؤول كما يحلو لبعض الرجال تأويلها بأنها تحكم وإرهاق واستبداد بالشخصية التي خلقها الله فأودعها إرادته.
إن من يفهم السيادة تحكماً بالذات لا خدمة لها إنما ينصب نفسه قواماً على فضل الله وقدره. 4 - إقصاء المرأة عن كل عمل يقصيها عن واجباتها، إذ لا بد لكل مجتمع تترجل نساؤه أن تتأنث رجاله، وليس برجل من لا غيرة فيه. 5 - أن تتيقن المرأة أن قسطها أوفر من قسط الرجل في تكوين رجال الأمة، لأنه وإن تساوت وإياه بتكوين جسم الجنين من ذرات متساوية قيمة وعدداً، فإن أثر شخصيتها فيه ليفوق أثر شخصية الرجل، فهي المستودع والمرضع والمربي الأول. 6 - أن تعلم المرأة ويعلم الرجل قبلها أن إقامة أسرة على أنقاض أسرة إنما هو من قبيل البناء على الرماد، وما يصلح الرماد أساساً يثبت عليه أي بناء. 7 - أن تثق الفتاة من أن طهارة روحها وعفاف جسمها إنما هما الركن الذي يبني الرجل سعادته عليه، فتحرص على هذا العفاف لأن عثرته حتى في زواج خاطئ عثرة لا تقال؛ وقلما نرى امرأة خرجت ظالمة أو مظلومة من بيت مهدّم وتمكنت من بناء بيت جديد لا تساوره الأشباح ولا تدور في زواياه الخفية الوساوس والشكوك. 8 - أن ينتبه رجال الشرع إلى ظاهرة خطيرة في أحوال الأسرة المصرية وهي ظاهرة الطلاق بنسبة مروعة تدل على ضعف العقيدة الدينية وعلى انحطاط في الأخلاق، وكلاهما نذير الدمار. 9 - أن تعمل المصلحات النابهات بخاصة على إيجاد حضارة واحدة تتبعها نساء مختلف العناصر المكوّنة للوطن، إذ لا معنى لهذا الاختلاف في حياة الأسر التي تتفق كتبها السماوية على تنظيم الحياة بالمبادئ الأدبية العليا. إن لم يقم المجتمع على عادات وتقاليد وأزياء واحدة، فإن إقامة الوطن على مثل هذا المجتمع المختلط لمن أصعب الأمور.
وما تجتمع النساء في بلادنا من عديد الطوائف إلا بين طبقة معلومة اقتبست من المدنية الغربية ما يضج منه عقلاؤها، وليس الاتحاد الذي ننشده بين الأسر ما نرى فيه نساءنا الشرقيات من كل طائفة عاريات على الشواطئ أو نصف عاريات في المقاصف والمراقص. إن وحدة العادات والأخلاق التي نصبو إليها إنما تقوم على الحرية المصونة التي تبيح للمرأة المباهاة بفكرها ومزاياها الشريفة وتصدها عن المباراة بجمالها وعواطفها وهما نور بيتها الذي يجب ألا يوقد إلا بين جدرانه. على هذه المبادئ تعم النهضة نساء البلاد فتنشأ الحضارة الخاصة الملائمة لهذا الشعب؛ وما تسعد أمة تقتبس أساليب حياتها مما يتنافر وحوافز دمها وصوت القبور في روحها. كل إنسان يجبن أمام الحوادث في حياته فيلين لها حوافزه وفطرته إنما هو الشخصية المفقودة التائهة والشبح الباكي والحيّ المستحجر؛ وقد تلمع أحداق مثل هذا الإنسان بالمجد والظفر، ولكن أنوار السعادة تبقى منطفئة في عينيه. ونحن كأمة لا يمكننا الانفلات من هذا الناموس الثابت.
إن فطرتنا مقدورة علينا كامنة فينا؛ وكل أمة تحيا على غير فطرتها فهي أمة باكية بدموع صامتة، هي أمة مستضعفة مستعبدة لا معنى لحياتها ولا سعادة فيها. نحن بحاجة إلى نهضة روحية أدبية تصلح منابت أطفالنا بعقيدة يحييها النابهون في الشعب تحت جنح إيمانه الشرقي المكين، وليس كالعقائد في شعب ما يكفل كرامته ويضمن اعتلاءه. بين بعض قبائل الصحراء عقيدة أصبحت فطرة في أفرادها، وهي اعتبار الكذب عاراً دونه أي عار، فإذا ما ارتكب الكذب أحد أفراد القبيلة اضطر رئيس أسرته إلى قلع إطنابه والهرب بنسائه وأطفاله إلى بعيد حيث يواري في النفي الأبدي ما التصق به من عار. إلى خلق مثل هذه العقائد يجب أن تتوجه جهود الناهضات من النساء فيصبح الرأي العام سياجاً حرابه الزراية والاحتقار، يصد كل امرأة تقصر عن المحافظة على حقها أو تطمح إلى تجاوزه، وتصد كل رجل يقصر في واجباته كقوام على المرأة أو يسيء استعمال هذه الواجبات.
وهكذا يساق الرجل إلى معاملة زوجته كما يريد أن تعامل ابنته في زواجها. إن عقائد الأمم الاجتماعية إنما تحفظها صدور النساء قبل صدور الرجال، وتنبيه مثل هذه العقائد والتقاليد في فطرة بنات الشرق لعمل يسهل على رسولات الحق إذا عضدتهن السلطات الزمنية والروحية في هذا السبيل. (تم البحث) فليكس فارس

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣