أرشيف المقالات

المعاني التربوية في الإجازة العلمية العراقية

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
2المعاني التربوية في الإجازة العلمية العراقية   تحتوي الإجازاتُ العلميةُ التي كانت تُمنَحُ للطلاب بعد فراغهم من دراسة المنهج العلمي المُقرَّر على معانٍ تربويةٍ رائعةٍ تكشفُ حرصَ العلماء المدرِّسين على رُقي حال طلابهم في دينهم ودنياهم وأخراهم، وهي بهذا تتميزُ عن الشهادات التي تمنحها الجامعاتُ اليوم، إذ هي تخلو من هذه المعاني تمامًا.   ومن المفيد جدًّا أن أعرضَ فقرات مِنْ إجازة شيخ شيخنا السيد داود التكريتي (المتوفى سنة 1360هـ) لشيخنا الشيخ عبدالكريم الدَّبَان التكريتي (المتوفى سنة 1413هـ)، (وتاريخها سنة 1354هـ)، يظهر فيها هذا الذي أقوله: ♦ ♦ ♦ ♦   ♦ يذكُرُ الشيخُ المجيزُ المجازَ أولاً أنه لازمه وقرأ عليه، ثم يقول: "فتحقَّق لديّ أنه من الفضلِ على جانبٍ عظيمٍ، وأنه حقيقٌ لَأنْ تُدْخِلَهُ الطلبةُ في سِلْكِ آباءِ التعليم، فعاهدتُهُ على: التوبةِ الخالصةِ.
وعلى دوامِ ذكرهِ تعالى بظاهرهِ وباطنهِ، وسرِّهِ وعلنهِ.
وعلى القيامِ بقواعدِ الإسلامِ الخمسِ: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقامِ الصلاة، وإيتاءِ الزكاة، وصومِ رمضان، وحجِّ البيت إن استطاعَ إليه سبيلاً.
وأنْ يُبالِغَ بالقيامِ بحقوقِ المسلمين، سيما جارُه، وقريبُه.
وأنْ يكونَ من الأخلاقِ الكريمةِ في المحلِّ الأعلى، ومن الأفعالِ الحميدةِ بالمكانِ الأسنى، في إطعامِ الطعامِ، وصلةِ الأرحامِ، وإفشاءِ السلام.
وأنْ لا يراهُ مولاهُ حيثُ نهاه، ولا يفقدَهُ حيثُ أمرَه.
وأنْ لا يخلو مِنْ تدريسِ علومِ الدين، مِنَ التفسيرِ، والحديثِ، وكُتُبِ مذاهبِ الأئمةِ المجتهدين، رضوانُ اللهِ تعالى عليهم أجمعين".
♦ ♦ ♦ ♦   ♦ وبعد سوقِ الأسانيدِ المتصلةِ برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنه إلى ربِّ العزة والجلال سبحانه - وهي ميزةٌ أخرى تخلو منها الشهاداتُ الجامعيةُ- يقولُ الشيخُ المجيزُ موصياً الطالبَ المجازَ وهو على أبواب الدخول إلى عالم التدريس والإفتاء والنصح والإرشاد: "وأوصيه ونفسي المذنبةَ بتقوى اللهِ تعالى في السرِّ والعلن، ودوامِ مراقبةِ الله تعالى واستئذانهِ في كلِّ ما يَقصِدُ فعلَه ممّا ظهرَ أو بطن؛ لنخرجَ بذلك عن هوى النفس، فإنَّ ما أُتي به عن هوى ليس فيه استفادة، وإنْ كان في صورةِ الطاعةِ والعبادة.
وأنْ نسامِحَ مَنْ سفَّهنا وردَّ علينا ونسَبَ الخطأَ إلينا، ولو كان ردُّه باطلاً، وقولُه في ذلك عاطلاً. وأنْ لا نتوهمَ أنّ أحداً دُوننا في العلم.
وأنْ لا ننسبَ أحداً إلى التقصير في حقِّنا والظلم. وأنْ ندعو لـِمَنْ آذانا بظهر الغيب، ونجعلَ دعاءَنا له نظيرَ الإحسان إلى الـمُسيء، إنْ لم نشاهدْ إساءةَ الـمُسيء إحساناً، وإنْ شاهَدْناها إحساناً ونَسَبْنا إلى أنفسِنا العيبَ، نجعلْ دعاءَنا له في مقابلةِ الإحسانِ بلا ريب، إلا إنْ كانَ ما قاله كفراً، فنتبرأ عنه، ونستعيذ بالله تعالى منه.
وأنْ نداومَ على ذكرِ اللهِ تعالى ما أمكنَ، والاستغفارِ، والصلاةِ والسلامِ على النبيِّ الـمُصطفى الـمُختار.
والاشتغالِ بكُتبِ التفاسيرِ، وكُتُبِ الأحاديثِ النبويةِ، وكلِّ علمٍ فيه فائدةٌ شرعيةٌ، ومنفعةٌ دينيةٌ.
وأن نواظبَ على ذكرِ هاذمِ اللذات؛ لتزهدَ أنفسُنا في ما لا بُدَّ له من الفوات.
وأنْ نحترمَ علماءَ الدين، ونخفضَ الجَناحَ للطلبة والمستفيدين، وننزلـَهم في الحنوِّ عليهم منزلةَ البنين عند الهفوة، ولا يكون فينا عليهم ما للمُعلمين من القسوة.
وأنْ نخدمَ الفقراءَ والمساكين، وأنْ نتواضعَ لهم ونستكين.
ونخلصَ للهِ تعالى في كلِّ ذلك النية، ونُحسنَ فيه السريرةَ والطوية.
وأنْ يبذلَ جهدَهُ قراءة، وإقراءً، ووعظاً في مخالفة الشهوات.
وأنْ لا ينساني ووالديّ ومشايخي مِنَ الدعوات.
وقد كان أكثرُ مشايخي -نوَّر اللهُ تعالى مراقدَهم، وجعَلَ في أعلى الفراديس مقاعدَهم- خصوصاً المتقدِّم ذكرُه -سُقِيَ بصيِّب الرحمة قبرُه- مُتخلِّقاً ومُتحقِّقاً بكلِّ ذلك، ويُلزِمُه مَنْ يُلازمُهُ مِنْ كلِّ طالبٍ وسالك".
وكل فقرة من هذه الفقرات تحتوي على توجيهات رائدة، ووصايا خالدة، يطول شرحُها واستكناهُ أبعادها، فهي منهجٌ علمي وعملي رفيع المستوى. ♦ ♦ ♦ ♦   ♦ ثم يختم الشيخُ الإجازة بهذا الاستغفار والدعاء، وفيه معانٍ مقصودةٌ في هذا السياق أيضاً فيقول: "ثم أستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولآبائي وأمهاتي النَّسبية والحسبية، ولإخوتي وأخواتي الطينية والدينية، ولأولادي الصُّلبية والقلبية.
وأسألُ الله تعالى أنْ يحفظنا مِنْ كلِّ ما يَشغلنا عنه، أو يَبعّدنا منه، وأنْ يتولى أمورَنا، ويشرحَ بأنوارِ معارفهِ صدورَنا.
ويجعلَ هذه الأيدي متصلةً بحبله المتين الذي لا ينقطع، محصنةً بحصنه الحصين الذي لا ينصدع، وأنْ يوفقَنا لنفع المسلمين، ويزيدَنا نشراً للعلم بزيادة الآخذين، ويرزقَنا الإخلاصَ في أعمالِنا ونياتِنا، ويباركَ في قسمي أولادِنا وذرياتِنا، ويفتحَ لنا بابَ قربهِ الأسنى، ويختمَ لنا وسائرِ المؤمنين بالحُسنى.
وصلى اللهُ على مَنْ بهِ خُتِمت النُّبوة، وعلى آلهِ وصحبهِ ذوي الفضل والفُتوة، وباركَ وسلَّمَ ما حـُمِدَ اللهُ تعالى في الـمُفْتَتح والـمُخْتَتم".
♦ ♦ ♦ ♦   ♦ وقد خُتِمتْ إجازة الشيخ عبدالوهاب البدري السامرائي لشيخنا الدَّبَان (وتاريخها سنة 1353هـ) بهذا الدعاء، وهو جديرٌ بالتأمّلِ في ألفاظه ومعانيه: "اللهم اجعلْ هذه الأيادي متصلةً بحبلك المتين الذي لا ينقطع، محصّنةً بحصنك الحصين الذي لا ينصدع، واجعل هذا العهدَ مُقرِّباً إليك (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة).
اللهم اجمعنا على الكتاب والسُّنة، وبعِّدْنا عن الضلال والبدعة، ووفِّقنا لنفع المسلمين، ويسِّرْ لنا الزيادةَ في نشرِ العلمِ بزيادةِ الآخذين، من الفضلاءِ والنُّجباءِ والعلماء العاملين، إنك الجوادُ الكريمُ، الرؤوفُ الرحيمُ، وحسبنا اللهُ ونعمَ الوكيل، وصلى اللهُ على سيدنا محمدٍ وآله وصحبه وسلم تسليماً".
♦ ♦ ♦ ♦   وقد صاغ الشيخُ عبدالكريم الدَّبَان -رحمه الله- نصَّ إجازةٍ مِنْ مجموع إجازتي شيخيه، كان يكتبها بخطه لمن يجيزه من طلابه، وفيها قدرٌ من هذه الوصايا كذلك، ويختمها بهذا الدعاء: "اللهم اجعلْ هذه السلسلة متصلةً بحبلك المتين الذي لا ينقطع، محصّنةً بحصنك الحصين الذي لا ينصدع، واجعل هذا العهدَ مُقرِّباً إليك (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة).
اللهم اجمعنا على الكتاب والسُّنة، وبعِّدْنا عن الضلالِ والبدعة، ووفِّقنا لنفعِ المسلمين، ونشرِ علوم الدين، إنك الجوادُ الكريمُ، والربُّ الرحيمُ، وحسبنا اللهُ ونعمَ الوكيل، وصلى اللهُ على سيِّدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين".
  ♦ ومرَّ معنا في مقالٍ سابقٍ[1] ذكرُ الأشعار التي كان يكتبُها لطلابه، وفيها من الوصايا وربطِ القلوب بربِّها ما نحن بأمسِّ الحاجة إليه. رحم اللهُ علماءَ الإسلام، وجزاهم عن العلم والدين خيرَ الجزاء.


[1] هو: "طرر الشيخ عبدالكريم الدبان التكريتي" منشور في هذه الشبكة بتاريخ 12 /7 /2017م.



شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢