أرشيف المقالات

مكانة السنة في التشريع الإسلامي

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
2لا دين إلا بسنة سيد المرسلين (6) مكانة السنة في التشريع الإسلامي
تحدثنا في الجزء الخامس من سلسلة "لا دين إلا بسُنة سيد المرسلين" عن سلوك بعض المناوئين للإسلام والمسلمين مسلكَ الطعن في السُّنة النبويَّة، عن طريق الطعن فيمن حمَلوها إلينا، وهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من أكثرِهم استهدافًا أبو هريرة رضي الله عنه؛ لأنه كان أكثرهم روايةً عن رسول الله، فمنهم من رماه بالغفلة، ومنهم مَن اتَّهمه بمرض الصرع، ومنهم من نعته بضَعف العقل، وما علموا أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم كظلِّه، يخدمه على ملء بطنه، فيسمع حين يغيب الناسُ، ويذكُرُ حين ينسون، وأن النبي صلى الله عليه وسلم شهد له بالحرص على طلب الحديث، وأنه صلى الله عليه وسلم دعا له بالحفظ، فصار لا يسمع حديثًا إلا حفِظه، ثم إنه مع كل هذا كان تقيًّا ورعًا، زاهدًا عفيفًا، محبًّا للخير رضي الله عنه وأرضاه.   ونحن اليوم - إن شاء الله تعالى - مع الجزء ما قبل الأخير من هذه السلسلة، التي ما دعانا إلى تناولها في هذا الظرف خاصة، إلا كثرةُ الشُّبَه التي يُلقي بها الخصوم هذه الأيام في وجوه تلامذتنا وطلابنا وشبابنا، عبر وسائل التواصل الاجتماعية، التي صارت أقرب طريقة لتلقُّف هذه الادعاءات، والقصف بهذه التُّرهات.   وحديثنا سينصبُّ على مكانة السُّنة في تشريعنا؛ حتى نتبين أنه لا دين لنا، ولا عزة لنا، ولا مكانة لنا في هذا الوجود، إلا بالاعتراف بصحيح السنة النبوية، ومدارستها، وفَهمها السليم، الذي يجعل منها - فعلًا - المصدرَ الثاني للتشريع؛ قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وهذه السُّنة إذا ثبتت، فإن المسلمين كلَّهم متفقون على وجوب اتباعها".   فهي الأصل الذي يجب تحكيمُه في قضايانا، والقضاءُ به في حل خلافاتنا، والانطلاقُ به نحو مواجهة مناوئينا المتربصين بنا، بل هو السبيل لفَهم كتاب ربنا، والترجمة عن مراد خالقنا، حتى اشتَهرت عبارات علمائنا في بيان هذا المعنى، فقال يحيى بن أبي كثير رحمه الله: "السُّنة قاضيةٌ على القرآن، وليس القرآن بقاضٍ على السنة"، وقال الأوزاعي: "الكتاب أحوج إلى السُّنة من السنة إلى الكتاب"؛ أي: تَشرحه وتبيِّن المراد منه، ولم يبعث الله تعالى رسولَه إلا من أجل البيان؛ لأن القرآن وحيٌ مَتْلُوٌّ، والسنة وحي مَرويٌّ؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ﴾ [النجم: 3]، وأمر سبحانه باتباع نبيِّه فيما بيَّنه لأُمَّتِه عبر أقواله وأفعاله وتقريراته، فقال تعالى: ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾ [النساء: 80]، كما أمرنا ربُّنا عز وجل بالرجوع إلى سنة نبيه وتحكيمها بيننا عند التنازع والاختلاف، فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء: 59].   فكان الصحابة إذا نزلت بهم نازلة، ولم يجدوا لها في القرآن الكريم حكمًا، سألوا عمن سمع شيئًا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ثبَتَ عندهم حديثٌ أخذوا به، وحكَّموه فيما بينهم، فكانت السنة النبوية مع القرآن الكريم على خمسة أحوال: 1- إما أن تكون مقرِّرةً ومؤكِّدة حكمًا جاء في القرآن؛ كالأمر بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، والنهي عن الشرك بالله، وشهادة الزور، وعقوق الوالدين، وقتل النفس بغير حق، وغيرها.   2- وإما أن تكون مبيِّنة ومفصِّلة لحكم جاء في القرآن مجمَلًا؛ كإقامة الصلاة، فقد ورد في القرآن مجملًا من غير تفصيل؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ ﴾ [الأنعام: 72]، فبيَّنت السنة عدد الصلوات، وعدد الركعات في كل صلاة، وما يُقرأ في كل ركعة، وكيفية التشهد، وأحكام السهو وغير ذلك مما لم نَعرفه إلا عن طريق رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، الذي قال: ((صَلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي))؛ البخاري.   ومثل ذلك يقال في الصيام، والزكاة، والحج الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم - بعد أن علَّم الصحابة تفاصيلَ أعماله -: ((خُذُوا عني مناسِكَكم))؛ مسلم.   وكذلك الأمر في البيوع وأنواعها، والجائز منها والمحرَّم، وأنواع الربا وأشكاله؛ قال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 44]. قال شيخ الإسلام رحمه الله: "عليك بالسنة؛ فإنها شارحة للقرآن، وموضِّحة له".   وقال الإمام النووي رحمه الله: "على السنن مدار أكثر الأحكام الفقهيات، فإن أكثر الآيات الفروعيات مجملات، وبيانها في السنن المحكمات، وقد اتَّفق العلماء أن على القاضي والمفتي أن يكون عالِمًا بالأحاديث الحكميات".   وقال علي الخواص رحمه الله: "لولا أن السنة بيَّنت لنا ما أُجمل في القرآن، ما قدر أحد أن يستخرج أحكام المياه والطهارة، ولا عرَف كيف يكون الصبح ركعتين، والظهر والعصر والعشاء أربعًا، ولا كون المغرب ثلاثًا، ولا كان أحد يَعرِف ما يقال في دعاء التوجه والافتتاح، ولا عرف صفة التكبير، ولا أذكار الركوع والسجود والاعتدالين، ولا ما يقال في جلوس التشهدين، ولا كان يَعرف كيفية صلاة العيدين والكسوفين، ولا غيرهما من الصلوات - كصلاة الجنازة، والاستسقاء - ولا كان يعرف الزكاة، ولا أركان الصيام والحج، والبيع والنكاح، والجراح والأقضية، وسائر أبواب الفقه".   3- وإما أن تكون السنة مقيِّدةً لحكم جاء في القرآن مطلقًا؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ﴾ [المائدة: 38]، فَذُكِرت اليد مطلقة، لا ندري أهي اليد اليمنى أم اليسرى؟ وهل تُقطع من الكوع، أم من المرفق، أم من الكتف، إذ كل ذلك يطلق عليه اليد؟! فبيَّنت السُّنةُ أن المراد هو اليد اليمنى، وأنها تقطع من الكوع، وإن عاد للسرقة تقطع رِجله اليسرى؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((إنْ سرقَ فاقطَعُوا يدَهُ، ثم إن سرقَ فاقطعُوا رِجله))؛ الدارقطني، وهو صحيح.   ولَمَّا تاهت بعض الفِرق عن السُّنة، وحكَّمت مجرد الفهم الظاهر من الآية، قطعت يد السارق من الكتف، وبعضهم قطع الأصابع فقط.   كما بيَّنت السنة مقدارَ الشيء المسروق الذي تُقطع فيه اليد، ونوعه، وزمن سرقته، وطريقة سرقته، فلا يُنفذ الحكم في كل سرقة.   وجاءت الوصية في قوله تعالى: ﴿ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ﴾ [النساء: 11] مُطلقةً، فحدَّدتها السنة في الثُّلث حدًّا أقصى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما أحسَّ بدُنو أجله وأراد أن يوصي بنصف ماله: ((لا، الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ))؛ متفق عليه، فهل يسيغ أحد أن يتجاوز السنة، فيوصي بنصف ماله، أو ثلثيه، أو كله؟   4- وإما أن تكون السنة مخصِّصةً حكمًا ورَد في القرآن عامًّا؛ كقوله تعالى: ﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ﴾ [النساء: 11]، فإنه عام في كل أولاد المخاطبين، غير أن السنة استثنت أولاد الأنبياء، فإنهم لا يورثون؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((لا نُورَثُ؛ ما تَركْنا فهو صدقةٌ))؛ متفق عليه.   واستثنت أولاد الكافر، فلا يرثون من أبيهم أو أُمِّهم غير المسلمَيْنِ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يَرِثُ المسلمُ الكافرَ، ولا الكافرُ المسلمَ))؛ متفق عليه.   ولما ذكر الله تعالى أصناف النساء المحرَّمات في الزواج؛ قال تعالى: ﴿ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ ﴾ [النساء: 24]، لكن خصَّصت السنة هذا العمومَ بمنع تزوُّج المرأة على عمتها أو خالتها، فقال صلى الله عليه وسلم: ((لا تُنكَحُ المرأةُ على عَمَّتها، ولا على خالتِها))؛ متفق عليه. فهل يسيغ أحد أن يجمع في عصمة واحدة بين المرأة وعمتها؟ أو بينها وبين خالتها؟   5- وترتقي السُّنة في درجات التأصيل والتشريع، حتى تصير مؤسِّسة ومنشئة لحكمٍ جديد ليس في القرآن الكريم؛ كتحديد نصيب الجدة في الإرث، وأحكام الشفعة، وتحريم لُبس الحرير والذهب على الرجال، وجعل الرضاع مُحرِّمًا كالنَّسب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ))؛ البخاري، وتحريم أكل الحيوانات المفترسة التي لها أنياب، وكذلك الطيور المفترسة التي لها مخالب؛ كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: "نهى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن كُلِّ ذي نَابٍ مِن السِّبَاع، وعن كلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِن الطَّير"؛ متفق عليه، والأمثلة كثيرة.   فكيف بعد هذا يَزعم قومٌ إمكانية الاستغناء عن السُّنة والاكتفاء بالقرآن؟ وكيف يجنح آخرون فيشكِّكون في ثبوت السنة، ويضربون بها جميعها عُرض الحائط؛ لورود بعض الأحاديث لفَّقها بعض الكذابين على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يَقُلْها؟ بل كيف نلقى الله تعالى حين يسألنا عن بلاغ رسولنا ماذا عمِلنا فيه؟!   عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني على الحوض حتى أنظر مَن يَرِد عليَّ منكم، وسيُؤخذ ناسٌ دوني، فأقول: يا رب، مني ومن أُمتي؟! فيقال: هل شعرتَ ما عمِلوا بعدك؟! والله ما برِحوا يرجعون على أعقابهم))؛ مسلم، وأي نكوص أعظم من إنكار سنته صلى الله عليه وسلم؟! خُذْ مَا أَرَدْتَ مِنَ الأَنَا مِ وَدَعْ وَلا تَتَشَدَّدِ أَمَّا إِذَا ذُكِرَ النَّبِيْ يُ فَغُضَّ طَرْفَكَ تَسْعَدِ مَا اخْتَارَ رَبُّكَ أُسْوَةً غَيْرَ النَّبِيِّ مُحَمَّدِ



شارك الخبر

مشكاة أسفل ١