أرشيف المقالات

الرحمن الرحيم جل جلاله

مدة قراءة المادة : 42 دقائق .
2الرحمن الرحيم جل جلاله
لهذين الاسمين شأن كبيرٌ ومكانة عظيمة عند الله تعالى، وحسبُك أنه إذا سأل سائل، فقال: من هو الله؟ صح أن نقول له: هو الرحمن الرحيم؛ كما قال تعالى: ﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴾ [الحشر:22]، وقال تعالى: ﴿ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقر 163]، وقال تعالى عن كتابه الكريم: ﴿ تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ [فصلت: 2]. وقال تعالى: ﴿ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ﴾ [الإسراء: 110].   معنى الاسمين والفرق بينهما[1]: "الرحمن الرحيم": مشتقان من الرحمة، وهي الرقة والحُنو والعطف، لكن الرحمن أشد مبالغة من الرحيم، والفرق بين الاسمين: 1- أن الرحمن ذو الرحمة الواسعة الشاملة لجميع الخلائق في الدنيا، فيصح أن نقول: رحمن الدنيا الذي تشمل رحمته المؤمن والكافر والطائع والعاصي، فلا يوجد مخلوق إلا وقد وصلت إليه رحمة الله، وغمره فضله وإحسانه، لكن الرحيم: هو رحيم الآخرة بالمؤمنين فقط؛ قال تعالى: ﴿ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب:43].   2- أن الرحمن دالٌّ على الصفة الذاتية لله تعالى القائمة به سبحانه، لكن الرحيم دال على الصفة الفعلية التي يوصلها الله إلى مَن يشاء من عباده.   3- أن الرحمن اسم خاص بالله لا يَحل لأحد أن يتسمى به، ولذلك "لَمَّا تجهرم مسيلمة الكذاب وسمَّى نفسه رحمن اليمامة، كساه الله تعالى جلباب الكذب، وشُهِر به، فلا يقال إلا مُسيلمة الكذاب"، لكن الرحيم يصح أن يقال: رجل رحيم.   • سعة رحمة الله تعالى: قال تعالى: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [الأعراف: 156]، وقال تعالى: إخبارًا عن حملة العرش ومن حوله أنهم يقولون: ﴿ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ﴾ [غافر: 7]، وقال تعالى: ﴿ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾ [الأنعام: 54]، قال ابن كثير رحمه الله: "أوجبَها على نفسه الكريمة؛ تفضلًا منه وإحسانًا وامتنانًا".   وفي الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم: ((إن لله مائة رحمة أنزَل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوامِّ، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تَعطِف الوحشُ على ولدها))، وفي رواية: ((حتى ترفع الدابةُ حافرها عن ولدها خشيةَ أن تُصيبه، وأَخَّر الله تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة)).   وفي صحيح البخاري: قُدِم على النبي صلى الله عليه وسلم بسبي، فإذا امرأة من السبي تسعى إذ وَجدت صبيًا، فأخذتُه فألصقتُه ببطنها فأرضعتْه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟))، قالوا: لا والله وهي تَقدر على ألا تَطرحه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((للهُ أرحمُ بعباده من هذه بولدها))، وقال صلى الله عليه وسلم: ((لَما أغرَق الله فرعون قال: ﴿ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ ﴾ [يونس: 90]، فقال جبريل: يا محمد، لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر، فأَدُسُّه في فيه مخافة أن تُدركه الرحمة))[2].   • تنبيه: ينبغي أن يُعلم أن رحمة الله وسِعت كل شيء نِعمًا، وشملت البار والفاجر والمسلم والكافر نِعمًا، فما من أحد إلا وهو يتقلب في رحمة الله آناء الليل وأطراف النهار نِعمًا، لكن هذا في الدنيا، وتلك هي الرحمة العامة، أما الرحمة الخاصة بالمغفرة ودخول الجنة في الآخرة، فهي للمؤمنين والمتقين وحدهم؛ قال تعالى: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 156] [3].   أقول ذلك؛ لأنك إذا رأيت أحدًا مقترفًا جُرمًا، أو واقعًا في محرم، فأردت أن تنصحه، وتُبين له الحلال والحرام، فقلت له: لماذا لا تصلي؟ لماذا تُغضب أُمَّك؟ لماذا لا تحفظ لسانك عن الحرام من غيبة ونميمة وكذبٍ، وقول على الله بغير علم وبُهتان، وتدخُّل فيما لا يَعني؟ لماذا لا تغض بصرك عن الحرام؟ لماذا......؟   ترى عدم المبالاة! ترى التهاون بالمعاصي! وتسمع كلمات الإرجاء، بل الاستهزاء! تسمع: "بيني وبين ربنا عمار"، "هذه صغائر"، "الدين يُسرٌ"، "ربنا غفور رحيم"، "رحمة ربنا واسعة"، فليتأمل هؤلاء قول الله تعالى: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف:156]، وقول الله تعالى: ﴿ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ﴾ [النساء: 123]، وقول ربنا: ﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ ﴾ [الحجر: 50] [4].   من مظاهر رحمة الله: 1- أن أول كلمة تكلم الله بها لآدم كلمة الرحمة: قال صلى الله عليه وسلم: ((لَما نفخ الله في آدم الروح، فبلغ الروح رأسه عطِس، فقال: الحمد لله رب العالمين، فقال له الله: يرحمك الله)) [5].   2- أرسل إلينا رسولًا: فعلَّمنا من جهالة، وهدانا من ضلالة، وبصَّرنا من عمى، وعرَّفنا أسماء الله وصفاته؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء:107]. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إني لم أُبعث لعَّانًا، وإنما بُعثت رحمةً)) [6]. وكان يقول: ((إنما أنا رحمة مهداةٌ)) [7].   3- القرآن الذي بين أيدينا: قال تعالى: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 89]، قال تعالى: ﴿ الم * تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ ﴾ [لقمان:1-3]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [يونس: 58]. قال ابن عباس: "فضله: الإسلام، ورحمته: القرآن" [8]. انظر كيف غفلنا عن الفضل وأعرضنا عن الرحمة!   4- الليل والنهار: قال الله تعالى: ﴿ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [القصص:73].   5- إرسال الرياح وإنزال المطر: وهاتان الرحمتان من أرفع أنواع الرزق وأعمِّها فائدةً وأكثرها منفعة ومصلحة؛ قال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ [الشورى: 28]. وقال تعالى: ﴿ فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الروم: 50].   6- أن حذَّرنا نفسه: لئلا نغتر به، فنعامله بما لا يليق به، فنَهلِك، فقال: ﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران:30] [9].   7- أن نغَّص علينا الدنيا وكدَّرها: لئلا نطمئن بها أو نَسكن إليها، ونرغب في النعيم المقيم في داره وجواره، فسبحانه وبحمده منَعنا ليُعطينا، وابتلانا ليعافينا [10].   8- أحوجَ الخلق بعضهم إلى بعض: لتتم بينهم مصالحهم، ولو أغنى بعضهم عن بعض، لتعطَّلت مصالحهم، وفسد نظامهم؛ فسبحانه جعل فيهم الغني والفقير والعزيز والذليل، والقادر والعاجز، والراعي والمرعي، ثم أفقر الجميع إليه، ثم عمَّ الجميع برحمته [11].   9- علَّمنا ما لم نكن نعلم: فأرشدنا لمصالح ديننا ودنيانا؛ قال تعالى: ﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآَنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ﴾ [الرحمن: 1-4].   10- أن وعد المسيء بتبديل سيئاته حسنات: قال تعالى: ﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان 70].   11- ومن رحمته بالعصاة والمذنبين: أنه لا يعاجلهم بالعقوبة، بل يؤخرهم ليتوبوا ويؤوبوا؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ﴾ [فاطر: 45].   12- أمره عبادَه ألا يَقنطوا: قال تعالى: ﴿ قُلْ يَا ِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53]، لكنه تعالى دعاهم إلى التوبة والرجوع قبل حلول الأجل أو العذاب الدنيوي والأخروي، قال: ﴿ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ﴾ [الزمر: 54].   13- الجنة التي أعدها لعباده المؤمنين: قال صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل أحدٌ الجنة بعمله))، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا، إلا أن يتغمَّدَني الله بمغفرة منه ورحمة)) [12]. فأعمالك وإن جاءت على الوجه اللائق، فهي لا تقاوم ولا تعادل نِعَمَ الله عليك، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ((لو أن الله عذَّب أهل سماواته وأرضه، عذَّبهم وهو غيرُ ظالمٍ لهم، ولو رحِمهم كانت رحمته خيرًا لهم من أعمالهم)) [13].   وقال صلى الله عليه وسلم: ((تحاجَّت الجنة والنار، فقالت النار: يدخلني الجبارون والمتكبرون، وقالت الجنة: يدخلني الضعفاء والفقراء، فقال الله تعالى للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء مِن عبادي، وقال للنار: أنت عذابي أُعذب بك مَن أشاء مِن عبادي)) [14]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال لضمضم بن جوس اليمامي: لا تقولنَّ لرجل: والله لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك الله الجنة أبدًا، فقال له: يا أبا هريرة، إن هذه الكلمة يقولها أحدنا لأخيه وصاحبه إذا غضِب، قال أبو هريرة: لا تقلها فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((كان في بني إسرائيل رجلان، كان أحدهما مجتهدًا في العبادة، وكان الآخر مسرفًا على نفسه، فكانا متآخيين، فكان المجتهد لا يزال يرى الآخر على ذنبٍ، فيقول: يا هذا، أقصِر، فيقول: خلِّني وربي أبُعثتَ عليّ رقيبًا؟ قال: إلى أن رآه يومًا على ذنبٍ استعظمه، فقال له: وَيْحك أقصِر، فقال: خَلني وربي أُبعثت عليّ رقيبًا؟ فقال: والله لا يغفر الله لك، أو لا يُدخلك الجنة أبدًا، فبعث الله إليهما ملكًا، فقبَض أرواحهما، فاجتمعا عنده، فقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: أكنتَ بي عالِمًا؟ أكنت على ما في يدي خازنًا؟ اذهبوا به إلى النار، قال صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفس أبي القاسم بيده، لتكلَّم بكلمةٍ أَوبقَت دنياه وآخرته)) [15].   فقل ما شئتَ عن رحمته فإنها فوق ما تقول، وتصوَّر ما شئت فإنها فوق ما يخطر بالخيال، أو يدور في البال، وانظر إلى الكون بعين البصيرة، تَرَه ممتلئًا بالرحمة امتلاء البحر بمائه والجو بهوائه، وصدق الله إذ يقول: ﴿ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [الزخرف: 32]؛ أي: خير لهم مما في أيديهم من الأموال ومُتَع الحياة الدنيا.   أين رحمة الله تعالى بالمبتلى والمعذب والمسجون؟! إذا كانت رحمة الله تعالى فوق ما نقول، وأعظم مما يخطر بالبال ويجول في الخيال، فأين رحمة الله بالمقهورين والمعذبين؟! أين رحمة الله بمن يُقتلون ويُحرَّقون؟! أين رحمة الله بمن عاشوا حياتهم على الأَسِرَّة البيضاء، ثم عليها ماتوا؟! أين رحمة الله بمن عمَّهم البلاء وأحاطت بهم الضراء؟!   الجواب: 1- قد يكون العبد له عند الله تعالى منزلة عالية عظيمة، لكن لا يُسرع به عمله إليها، فيقدِّر الله تعالى له من البلاء ما يصل به إليها، وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان في دينه صُلبًا اشتدَّ بلاؤه، وإن كان في دينه رِقة، ابتُلي على قدر دينه، فما يَبرَح البلاء بالعبد، حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة)) [16].   ويقول صلى الله عليه وسلم: ((عِظَمُ الأجر عند عِظم المصيبة، وإذا أحب الله قومًا ابتلاهم)) [17]، ويقول صلى الله عليه وسلم: ((يَوَد أهل العافية يوم القيامة حين يُعطى أهل البلاء الثوابَ لو أن جلودهم كانت قُرِضت في الدنيا بالمقاريض)) [18]. نتحصل من ذلك أن الابتلاء مظهر من مظاهر رحمة الله بعباده.   تأمل قول الله تعالى عن مؤمن آل ياسين حين قال لقومه: ﴿ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ ﴾ [يس:23]. فلماذا اختار هذا الرجل الصالح اسم الرحمن من بين أسماء الله تعالى؟! وهل الرحمن يريد الضر بعباده المؤمنين؟! إن المعنى اللطيف في هذه الآية أن الضر إذا أتى من الرحمن، فإنه موجبٌ رحمته ولُطفه، ويصير الأمر الذي ظاهره الضر في حقيقته رحمةً وخيرًا للمؤمن؛ لأن الرحمن لا يصدر منه إلا الرحمة واللطف والبر: ﴿ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 19] [19].   ويُصدق ذلك ابن القيم رحمه الله حين يقول: "ومما ينبغي أن يُعلم أن الرحمة صفة تقتضي إيصال المنافع والمصالح إلى العبد، وإن كرهتْها نفسُه، فهذه هي الرحمة الحقيقية، فأرحم الناس بك من شق عليك في إيصال مصالحك ودفع المضار عنك، فمن رحمة الأب بولده أن يُكرهه على التأدب بالعلم والعمل، ويشق عليه في ذلك بالضرب وغيره، ومتى أهمل ذلك من ولده، كان لقلة رحمته به، وإن ظنَّ أنه يرحمه، فهذه رحمة مقرونه بجهل كرحمة الأم، ولهذا كان من إتمام رحمة أرحم الراحمين: تسليط أنواع البلاء على العبد، فإنه أعلم بمصلحته، فابتلاؤه له وامتحانه، ومنعه من كثير من أغراضه وشهواته، مِن رحمته به، ولكن العبد لجهله وظلمه يتَّهم ربَّه بابتلائه....."[20].   ♦ انظر حولك تَرَ: • كم من إنسان ابتُلِي بأشياء كان يخافها ويَحذرها، فحزِن وفزِع وجزِع، ثم تبيَّن له أنه ما أصابه كان خيرًا له، وصدق الله إذ يقول: ﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة:216]. • وكم من إنسان طلب الغنى والْتَمَسه، فلم يبلغه رحمة من الله به؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله ليَحمي عبده المؤمن من الدنيا - وهو يحبه - كما تحمون مريضكم من الطعام والشراب، تخافون عليه)) [21].   حق الرحمن الرحيم جل جلاله: حق الرحمن الرحيم جل جلاله: أن نتعرض لرحمته؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم لشداد: ((إذا رأيت الناس قد اكتنزوا الذهب والفضة، فأكثر هؤلاء الكلمات: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمةَ على الرشد، وأسألك موجبات رحمتك...)) [22]. و"موجبات رحمتك "؛ أي: الأقوال والأفعال والصفات التي تحصل بسببها رحمة الله، أو الأسباب التي شرعها الله؛ لينال بها العبدُ رحمةَ الله.   فما الأسباب؟ 1- طاعة الله ورسوله: فكلما كان العبد أكثر طاعة لله ورسوله، كان أكثر استحقاقًا لرحمة الله؛ قال الله: ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [آل عمران: 132]، وقال الله: ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [النور: 56]. وقال الله: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ﴾ [الجاثية: 30].   2- الإحسان (إحسان الطاعة وإتقانها): قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الأعراف: 56]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسِنوا القِتلة، وإذا ذبحتُم فأحسنوا الذِّبحة...)) [23].   3- الاستغفار: قال الله تعالى: ﴿ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [النمل: 46].   4- القرآن الكريم (الانشغال به علمًا وعملًا): القرآن أعظم رحمة رحِم بها الرحمن عباده، فمَن قبِلها فقد قبِلَ خير المواهب، وفاز بأعظم المطالب [24]. قال الله تعالى: ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأنعام:155]. وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأعراف: 204].
5- رحمة الخلق: من أكبر الأسباب التي تُنال بها رحمةُ الله: رحمة العبد للخلق، فتراه رحيمًا رقيق القلب بالصغار والكبار، يرحم حتى النملة في حجرها، والطير في وَكره، فهذا أقرب القلوب من الله [25]. قال صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم، كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمى)) [26].   وقال صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده، لا يضع الله رحمته إلا على رحيم))، قالوا: يا رسول الله، كلنا يرحم، قال: ((ليست برحمة أحدِكم صاحبَه، ولكنها رحمةُ الناس عامةً)) [27]. فالرحمة التي يأمرنا بها الإسلام ليست رحمة خاصة، وإنما هي رحمة عامة تشمل المجموع؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((الراحمون يرحمهم الرحمنُ، ارحموا مَن في الأرض يرحمْكم مَن في السماء)) [28].   فتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ارحموا من في الأرض.....))، تجد الأمر يشمل جميع الخلائق: البر والفاجر، والوحش والطير. وارْحَمْ بقلبِك خَلْقَ الله وارْعَهُمُ ♦♦♦ فإنما يَرحَم الرحمنُ مَن رحِما   وقال صلى الله عليه وسلم: ((إنما يرحم الله من عباده الرحماءَ)) [29]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((ارحموا تُرحَموا، واغفروا يغفر لكم)) [30]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((خاب عبد وخسِر لم يجعل الله في قلبه رحمةً للبشر)) [31].   ونزل النبي صلى الله عليه وسلم منزلًا يومًا، فأخذ رجل بَيْضَ حُمَّرة (طائر)، فجاءت تَرِفُّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((أيكم فجعَ هذه ببيضتها؟))، فقال رجل: يا رسول الله، أخذتُ بيضتها، فقال صلى الله عليه وسلم: ((اردُدْه رحمةً لها)) [32]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((والشاة إن رحِمتَها رحِمَك الله)) [33]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((مَن رحِم ولو ذبيحة، رحِمه الله يوم القيامة)) [34].   فإذا كان لك شوق إلى رحمة الرحمن الرحيم، فكن رحيمًا بنفسك وبغيرك، ارحم الجاهل بعلمك، والذليل بجاهك، والفقير بمالك، والصغير بشفقتك، والكبير برأفتك، والعصاة بدعوتك - يَرحمْك الله في رخائك وشِدتك. • ومن هؤلاء الخلق الذين يجب عليك أن ترحمهم: العصاة، ورحمتهم بأن تَعِظَهم وتنصحهم مرارًا وتكرارًا، وتَصرفهم بقدر الإمكان عن طريق الغفلة، وأن تنظر إليهم بعين الرحمة لا بعين الاستحقار؛ لأنهم يستحقون الشفقة، لجهلهم بالله، وما سيُقدمون عليه من الخسارة والعذاب، واذكر دائمًا قصة شاب دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله، ائذنْ لي بالزنا! فأقبَل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مَهْ، مَه.   ترى ماذا كان جواب أرحم الخلق صلى الله عليه وسلم؟ قال: ((ادْنُه، فدنا منه قريبًا، ثم قال له: أتحبه لأُمك؟ أتحبه لابنتك؟ أتحبه لأختك؟ أتحبه لعمتك؟ أتحبه لخالتك؟))، كل ذلك ويجيب الشاب: قائلًا لا والله، جعلني الله فداك، والرسول يقول له: ((ولا الناس يحبونه)). فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده عليه وقال: ((اللهم اغفر ذنبه، وطهِّر قلبه، وحصِّن فرجه))، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء [35].   رحِمه النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يُعنفه ولم يَقْسُ عليه، ولكن أقنعه بالعقل، وأفحمه بالدليل، ثم رحِمه حين دعا له، فصلى الله وسلم على نبي الرحمة، ما أحوجنا أن ندعوَ العصاة إلى الله وأن ندعوَ لهم! وكان عيسى عليه السلام يقول: ((فإنما الناس مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية)) [36].   6- صلة الرحم: روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الرحم شِجْنة [37] من الرحمن، يقول الله: مَن وصلَك وصلته [38]، ومَن قطَعك قطعتُه)) [39]. وعن عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((قال الله تعالى: أنا الرحمن خلَقت الرحم [40]، وشققت لها اسمًا من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومَن قطعها قطعته)) [41].   وقال صلى الله عليه وسلم: ((أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال)) [42]. وأحق الرحم بالرحمة الوالدان الكريمان، اللذان مَن رحِمهما رحِمه الله، ومَن أكرَمهما أكرمه الله، ومَن أحزنهما أحزَنه الله، ومَن أهانهما أهانه الله. قال الله تعالى: ﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 24].   7- الصبر على البلاء: قال الله تعالى: ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة:155 - 157]. ومن رحمة الله بمن صبر على البلاء، واسترجع عند المصيبة - أن يُخلف له خيرًا منها؛ فعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما مِن عبد تُصيبه مصيبة، فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أَجِرْني في مصيبتي، وأَخلِف لي خيرًا منها - إلا أجَرَه الله في مصيبته، وأخلَفه خيرًا منها))، قالت: فلما تُوفِّي أبو سلمة، قلت كما أمرني رسول الله، فأخلَف اللهُ لي خيرًا منه رسولَ الله [43].   8- التماس مرضاة الله [44]: عن ثوبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن العبد ليلتمس مرضاة الله، ولا يزال بذلك، فيقول الله عز وجل لجبريل: إن فلانًا عبدي يلتمس أن يُرضيني، ألا وإن رحمتي عليه، فيقول جبريل: رحمة الله على فلان، ويقولها حملة العرش، ويقولها مَن حولهم، حتى يقولها أهل السماوات السبع، ثم تَهبط له إلى الأرض)) [45].   9- الجماعة [46]: والمقصود بالجماعة: جماعة المسلمين والرُّفقة الصالحة، فإن لزومهم خيرٌ ومفارقتهم ضيْر، يُذكرونك إن غفلت، ويُعلمونك إن جهِلت، ويواسونك إن أُصبت. والمقصود بالجماعة: الحذر من الفرقة والاختلاف، والحرص على الوَحدة والائتلاف؛ قال الله تعالى: ﴿ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ﴾ [هود: 118 - 119]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((الجماعة رحمة، والفُرقة عذاب)) [47].   10- عيادة المريض: يقول صلى الله عليه وسلم: ((من عاد مريضًا خاض في الرحمة، حتى إذا قعد استقر فيها)) [48].   11- الابتعاد عن المعاصي ما أمكن: قال تعالى: ﴿ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ ﴾ [غافر:9]. فالوقاية من السيئات والابتعاد عنها ما أمكن، من أعظم علامات وموجبات رحمة الله، ومعنى الوقاية منها: عدم الوقوع فيها ابتداءً، فإذا وقع فيها فالمسارعة بالتوبة منها، فبهذين يتحقَّق الأمن من عاقبتهما في الدنيا والآخرة، وتلك هي الرحمة. ثم انظر ختام الله تعالى للآية: ﴿ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [غافر: 9]: الفوز العظيم أن تكون بعيدًا عن المعاصي وأهلها وأسبابها.   12- حفظ اللسان: وهو من جملة المعاصي، إلا أنه أخطرها والموصل إليها. حفظ اللسان من الكذب والافتراءات، واختلاق الشائعات وترويجها، وسوء الظن والنميمة والغيبة، والقول في الشريعة بغير علمٍ، والتدخل فيما لا يعني ونحو ذلك؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((رحِم الله عبدًا قال خيرًا فغنِم، أو سكت عن سوء فسلِم)) [49].   13- التحلل من المظالم: وذلك بإعطاء أصحاب الحقوق حقوقَهم الحسية أو المعنوية هنا قبل أن تُعطيها لهم هناك بالحسنات والسيئات؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((رحِم الله عبدًا كانت لأخيه مظلمة في نفسٍ أو مال، فأتاه فاستحلَّ منه قبل أن يؤخذ من حسناته، فإن لم يكن له حسنات، أُخِذ من سيئات صاحبه، فتُوضع في سيئاته)) [50].   14- السماحة في البيع والشراء والمعاملات: قال صلى الله عليه وسلم: ((رحِم الله رجلًا سَمْحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا قضى، سمحًا إذا اقتضى)) [51]. سمحًا: أي سهلًا وجودًا، يتجاوز عن بعض حقه [52]. إذا اقتضى: أي إذا طلب دَينًا له على غريم يُطالبه بالرفق واللطف، لا بالخُرق والعنف [53].   15- تبليغ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال صلى الله عليه وسلم: ((رحِم الله عبدًا سمع مني حديثًا فبلَّغه كما سمِعه؛ فرُبَّ مبلغ أوعى له من سامع)) [54]. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طُوي بِساطه، وأُهمل عمله، لتعطَّلت النبوة، واضمحلَّت الديانة، وعمَّت الفترة، وفشَت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتَّسع الخَرق، وخرِبت البلاد، وهلَك العباد، ولم يَشعروا بالهلاك إلا يوم التناد.." [55].   16- الجلوس في المسجد ما أمكن: قال صلى الله عليه وسلم: ((إن للمساجد أوتادًا، الملائكة جلساؤهم؛ إن غابوا يفتقدونهم، وإن مرِضوا عادُوهم، وإن كانوا في حاجة أعانوهم))، وقال: ((جليس المسجد على ثلاث خصال: أخ مستفاد، أو كلمة محكمة، أو رحمة منتظرة)) [56].   17- مجالس العلم: قال صلى الله عليه وسلم: ((وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم - إلا نزلت عليهم السكينةُ، وغشيتهم الرحمةُ، وحفَّتهم الملائكة، وذكَرهم الله فيمن عنده)) [57]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((هم القوم لا يشقى جليسُهم)) [58].   18- قيام الليل: قال صلى الله عليه وسلم: ((رحِم الله رجلًا قام من الليل فصلى، وأيقظ امرأته فصلَّت، فإن أبت نضَح في وجهها الماء، ورحِم الله امرأة قامت من الليل فصلَّت، وأيقظَت زوجَها فصلى، فإن أبى نضَحت في وجهه الماء)) [59].   19- الخوف من الله: عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلًا كان قبلكم رَغَسَه الله مالًا، فقال لبَنِيه لما حُضِر: أي أبٍ كنت لكم؟ قالوا: خيرَ أبٍ، قال: فإني لم أعمل خيرًا قط، فإذا مُتُّ فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذرُّوني في يوم عاصف، ففعلوا، فجمعه الله عز وجل فقال: ما حملك؟ قال مخافتك، فتلقاه برحمته" [60]. رَغَسَه: أي: أعطاه مالًا وبارك له فيه [61].   20- الحمد الكثير الدائم: عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قال رجل: الحمد لله كثيرًا، فأعظمها الملك أن يكتبها، فراجع فيها ربَّه عز وجل، فقال الله تعالى: اكتبوها لعبدي رحمتي كثيرًا)) [62].   21- الدعاء: فمن عرف رحمة الله تعالى وسعتها، ازداد فيها طمعًا، واشتد فيما عند الله طلبًا، وعزم في سؤال حاجته؛ عن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة: ((ما يَمنعك أن تسمعي ما أوصيك به؟ أن تقولي إذا أصبحتِ وإذا أمسيت: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تَكلني إلى نفسي طرفةَ عينٍ)) [63]. وجاء قول الله تعالى في دعاء المؤمنين: ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [آل عمران: 18].   آثار اسمي "الرحمن الرحيم" في نفس العبد [64]: 1- الحب: فقد جُبلت النفوس على حب من أحسَن إليها، وكيف لا يحب الإنسان من أفاض عليه رحمته وعطفه ومِنته؟! كيف لا يحب الإنسان مَن هو أرحم به من أُمه؟!   2- الرجاء: فمَن عرَف رحمة الله تعلَّق به ورجاه؛ دخل حماد بن سلمة على الثوري، فقال سفيان: أترى أن الله يغفر لمثلي؟ فقال حماد: والله لو خُيِّرت بين محاسبة الله إياي وبين محاسبة أبوي، لأخرتُ محاسبة الله؛ لأن الله أرحم بي من أبويّ.   3- الحياء: فقد جُبِلت النفوس على الاستحياء ممن كثُر إحسانه وعم فضلُه، وعظُمت رحمته، وهل أحقُّ بذلك من الرحمن الرحيم؟! فيَستحيي العبد المؤمن من خالقه أن يَعصيَه، ثم إن وقع في الذنب جهلًا ازداد حياءً من خالقه جل جلاله. كان الأسود بن يزيد يجتهد في العبادة والصوم، فلما احتُضِر بكى، فقيل له: ما هذا الجزع؟ فقال: ما لي لا أَجزَع، واللهِ لو أتيتُ بالمغفرة من الله، لأهَمَّني الحياءُ منه مما قد صنَعت!


[1] عمدة التفسير؛ أحمد شاكر، والنهج الأسمى؛ محمد الحمود النجدي، ولله الأسماء الحسنى؛ عبدالعزيز ناصر الجليل، والأسماء الحسنى والصفات العلا؛ عبدالهادي بن حسن وهبي. [2] رواه الترمذي، وصحَّحه الألباني. [3] النور الأسنى؛ آمين الأنصاري. [4] سلوكات مرفوضة؛ المؤلف. [5] رواه ابن حبان، وصحَّحه الألباني في الصحيحة. [6] رواه مسلم. [7] رواه ابن سعد، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع. [8] الدر المنثور في التفسير بالمأثور؛ السيوطي. [9] الأسماء الحسنى والصفات العلا؛ عبدالهادي حسن وهبي. [10] السابق. [11] السابق. [12] رواه البخاري ومسلم. [13] رواه أبو داود، وصحَّحه الألباني. [14] رواه البخاري. [15] رواه أبو داود وأحمد، وصحَّحه الألباني. [16] رواه البخاري وغيره. [17] رواه المحاملي في أماليه، وصحًّحه الألباني في الصحيحة. [18] رواه الترمذي، وحسَّنه الألباني. [19] ولله الأسماء الحسنى؛ عبدالعزيز ناصر الجليل. [20] إغاثة اللهفان، ج2. [21] مظاهر رحمة الله؛ عبدالعظيم بدوي. [22] رواه الطبراني في الكبير، وأبو نعيم في الحلية، وابن عساكر في تاريخ دمشق، وانظر السلسة الصحيحة. [23] رواه مسلم. [24] تفسير السعدي. [25] الأسماء الحسنى والصفات العلا؛ عبدالهادي حسن وهبي. [26] رواه مسلم. [27] رواه أبو يعلى والطبراني والحاكم، وانظر الصحيحة. [28] رواه الترمذي وصحَّحه الألباني. [29] متفق عليه. [30] رواه أحمد، وانظر الصحيحة. [31] رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق، وحسَّنه الألباني في الصحيحة. [32] رواه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني. [33] رواه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني. [34] رواه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني. [35] رواه أحمد في المسند، وصحَّحه الألباني في الصحيحة. [36] الترغيب والترهيب؛ للحافظ المنذري، وموطأ الإمام مالك. [37] اشتق اسمها من اسمه. [38] أي: برحمتي. [39] أي: بطرده من رحمتي. [40] لاحظ الصلة بين الرحمن ورحمته وبين الرحم. [41] رواه أحمد والترمذي وأبو داود، وصحَّحه الألباني. [42] رواه مسلم. [43] رواه مسلم. [44] النور الأسنى؛ أمين الأنصاري. [45] رواه أحمد، وحسَّنه الأناؤوط. [46] النور الأسنى؛ أمين الأنصاري. [47] أخرجه عبد الله في الزوائد، وانظر الصحيحة وصحيح الجامع. [48] رواه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني. [49] رواه ابن المبارك، وانظر الصحيحة وصحيح الجامع. [50] رواه ابن حبان في صحيحه، وقال الألباني: حسن صحيح. [51] رواه البخاري وابن ماجه. [52] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح؛ نور الدين الهروي. [53] السابق. [54] رواه ابن حبان، وصحَّحه الألباني. [55] إحياء علوم الدين؛ الغزالي. [56] أخرجه أحمد، وحسَّنه الألباني في الصحيحة. [57] رواه مسلم. [58] متفق عليه. [59] رواه أحمد وأبو داود، وصحَّحه الألباني. [60] رواه البخاري. [61] شرح النووي على مسلم. [62] رواه الطبراني وأبو الشيخ، وانظر صحيح الترغيب والترهيب. [63] أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة، وصحَّحه الألباني في الصحيحة، وصحح الجامع. [64] التعبد بالأسماء والصفات؛ وليد الودعان (بتصرف واختيار).



شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣