أرشيف المقالات

مجلس "وداع العام" من كتاب "النور في فضائل الأيام والشهور" لابن الجوزي

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
2مجلس "وداع العام" مِنْ كتاب "النور في فضائل الأيام والشهور" لابن الجوزي (يُنشر مُستلاً مُصححاً على نسختين لأول مرة) [1]   الحمدُ لله القويّ المتين، الجبّار القادر فلا يحتاجُ إلى وزير ولا معين، الإله المعبود في كل وقت وحين، القديم الكبير ربِّ العالمين، السميع فلا يعزُبُ عن سمعه صوتُ المذنب إذا أخذ في الأنين، البصيرِ فلا يخفى عليه جريُ الماء في العود وحركات الجنين، مسير الشمس والقمر يتعاقبان لعِلْمِ عدد السنين، المحذِّر مِنْ يوم نصب الصراط ووضع الموازين، الرؤوف وهو يحب القلب الحزين، ( الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين).[2] أحمدُه على توفير نعمٍ تترى. وأشكرُه إذ جعلَ مع العُسر يسرا. وأشهدُ أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً أرجو بها ثواباً وأجراً. وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه أرسله زاهداً في الدنيا، راغباً في الأخرى. صلى اللهُ عليه وعلى أصحابه وأتباعه، وأزواجه وأشياعه، إلى يوم الحسرة الكبرى. وسلَّمَ تسليماً كثيراً.   ♦ ♦ ♦ ♦   اللهمَّ صلِّ على محمد وعلى آل محمد. واختمْ عامَنا هذا بغفران الخطايا والذنوب. واسترْ علينا ما أسلفنا من القبائح والعيوب. وتمِّمْ لنا كلَّ مرادٍ من الخير وكلَّ مطلوب. واعْمُرْ باليقين دواثرَ القلوب. وانفعْني ومَنْ حضرَ بما أُوردُ من الأقوال. وتقبَّلْ منا بفضلك صالحَ الأعمال. برحمتك يا أرحمَ الراحمين.   ♦ ♦ ♦ ♦ فصل عبادَ الله: إنَّ هذا العام قد آنَ وداعُه. وتعجَّل إلى الرحيل إسراعُه. وهو راحلٌ عنكم -لا شكَّ- بالأعمال. وشاهدٌ عليكم غداً بالأقوال والأفعال. فأيكم أصلحَ بالتقوى أيامَه. وباينَ فيه أوزارَه وآثامَه. وأدركَ بتحقيق الاجتهاد تمامَه. وبادرَ انتهابَه للخير واغتنامَه؟ أين مَنْ أوقاتُه محروسةٌ بالصفاء عن عين الأكدار. وأين هاجرُ المعاصي بعد الإمكان والاقتدار. وأين حافظُ الأيام المعدودة في هذه الدار. وأين المجتهدُ في مراضي مولاه بأقومِ البدار؟   ♦ ♦ ♦ ♦
يا مُفرّطاً في عمرهِ وعامُه قد بقيَ القليلُ منه. اجتهدْ في زمنه الباقي واحرسْه وصُنْه. وأحسنْ في بقيته قولاً وفعلاً. فإنكَ لا تدري هل ترى هلالَ العامِ المقبلِ أم لا؟ واعلموا - رحمكم الله - أنَّ المُستحبَّ للعبد أنْ يختم عامَه بتوبةٍ واجتهاد. ويفتتحَ العام المقبل بذلك ليغفرَ له ربُّ العباد. رُوِيَ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم" :مَنْ صام آخر يوم من ذي الحجة، وأول يوم من المحرم، فقد ختم السنة الماضية بصوم، وافتتح السنة المقبلة بصوم، جعل الله له به كفارة خمسين سنة"[3] .   فاجتهدْ أيُّها العبدُ في ساعات عمرك الباقية. واعتبرْ بمَنْ فاجأته آفاتُ المرض وقد كان في عافية. فأزالتْ نعمتَه الوافية. وكدَّرتْ عيشتَه الصافية. وإنما العمرُ أيامٌ معدودة. والصحةُ عوارٍ مردودة. أين لذةُ فرحِك بعد حلول ترحِك؟ أين مَنْ أسخط مولاه باتباع هواه؟ أين مَنْ أفنى عمرَهُ في خطاياه؟ تفكَّرْ يا غافلُ في مصارعهم. وانظرْ إلى مواضعهم. هل نفعَهم رفيقٌ رافقوه؟ أو منعَ عنهم الأذى مالٌ أنفقوه؟ أمَا خلوَا بأعمالهم؟ وانفردوا بأفعالهم؟ فاعمرْ قبرَك بالتقوى يا مَنْ هو مغرورٌ بمنزلٍ سيفارقه. يا مُستتراً من التراب وعما قليلٍ سيُعانقه. يا ناسياً رحيله وقد حثَّ نجيبَ الرحيلِ سائقُه. ألا أيُّها القلبُ الكثيرُ علائقُهْ ألم ترَ أنَّ الدهرَ تجري بوائقهْ؟ تسابِقُ ريبَ الدهرِ في طلبِ المُنى بأيِّ جناحٍ خلتَ أنك سابقُهْ؟ وتُرْخِي على السرِّ الستورَ صيانةً وقلبك في علمِ الإلهِ خلائقُهْ ألا أيُّها الباكي على الموتِ بعدَه رُويدَك لا تعجلْ فإنكَ لاحقُهْ رُويدك لا تنسَ المقابرَ والبِلى وطعمَ حسا الموتِ الذي أنتَ ذائقهْ إذا اعتصمَ المخلوقُ من فِتنِ الهوى بخالقهِ أنجاهُ منهنَّ خالقهْ ومَنْ ذا الذي يَخشى من الناسِ فاقةً ورازقُ هذا الخلق مُذ عاشَ رازقُهْ؟ أرى صاحبَ الدنيا مُقيماً بجهلهِ على ثقةٍ مِنْ صاحبٍ لا يوافقهْ هي الدارُ دارٌ تستذلُّ عزيزَها وإنْ كان مَغْشياً عظيماً سُرادِقهْ تفاضلَ أهلُ الدينِ فيه غداً كما تفاضلَ في يومِ الرِّهانِ سوابقهْ[4]   يا مَنْ دأبهُ المعاصي ويُذْهِبُ زمانه فيما لايُجْدي. يا مَنْ سلك من الهوى سُبلاً تُضِلُّ ولا تُهْدِي. أتُراك إذا نزلَ بك الموتُ بماذا تُفدي؟ فاشتغلْ في خلاصِ نفسِك، ولا تقلْ: مالي ولا عبدي.   رأيتُكَ في النقصانِ مُذ كنتَ في المهدِ تقرِّبك الأيامُ مِنْ ساحةِ اللحدِ أتطمعُ أنْ يبكي لفقدِك نادبٌ لعلَّ سرورَ النادبين مع الفقدِ[5] ♦ ♦ ♦ ♦ اللهمَّ صلِّ على سيِّدنا محمد وعلى آل محمد. واغفرْ لنا ما أسلفناهُ من الخطايا على طولِ الزمان. ولا تسلبْنا حُللَ التقوى والإيمان. وارزقنا يومَ الفزع الأكبر لذةَ الأمان. وخلِّصنا مِنْ خدع الشيطان. فإنه بئس الخدوعُ وبئس الغرَّار. وآتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار برحمتك يا عزيز يا غفّار.


[1] من نسخة مجموعة نافذ باشا في مكتبة السليمانية في إسطنبول، ونسخة شستربيتي [2] من سورة السجدة، الآية 7. [3] لا يصح.
انظر الموضوعات للمؤلف (3/221). [4] لأبي العتاهية. [5] لمحمد بن أيوب الأصبهاني، ومعهما بيتٌ ثالثٌ.
انظر: "قصر الأمل" ص 136، وثَمَّ اختلافٌ في الألفاظ.



شارك الخبر

مشكاة أسفل ١