أرشيف المقالات

فن القصة في الأدب المصري الحديث

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
8 (تتمة ما نشر في العدد الماضي) للأستاذ هلال أحمد شتا ويلاحظ المتتبع لتاريخ القصة المصرية أن ثلاثة من كتابها الأفذاذ قد تنحوا عن الجهاد في سبيلها أو كدوا، وبقي واحد فرد يحاول ما يستطيعه الواحد الفرد.
.
فلقد أقبل هيكل على ميدان آخر يشحذ له قلمه وحسه، هو ميدان الصحافة والبحث العلمي والديني والسياسة، وانهمك أبو حديد في عمله التعليمي ودراساته التاريخية، وذهب تيمور مذاهب أخرى في الدراسة والأدب.

ثم بقي المازني بعد ذلك يسير في طريقه سيراً هادئاً، ويخص القصة ببعض عنايته، بقدر ما تنحت أعماله الصحفية، وما أفسحت لفنه من مجال قصير. ولقد كان هذا مما أوقف القصة المصرية العربية الناشئة موقفاً نشفق منه عليها، وما زالت في عهد الصبا تنشد الرعاية والعناية؛ ولكن فريقاً آخر من الشبان قد أقبل يمد لها يداً مباركة نرجو أن تدفعها إلى عهد الشباب قوية سريعة الخطوات. ومن بين هذا الفريق ثلاثة نلمح فيهم استعداداً كثيراً، وفناً غزيراً، وهم: محمود البدوي، وشوكت التوني، وطاهر لاشين. فمحمود البدوي، الذي عرفناه مترجماً للقصة الروسية القصيرة على صفحات الرسالة الغراء، قد آنس في نفسه قدرة على الكتابة ألهبت شغفه وشحذت عزيمته، فإذا هو يدفع إلى ميدان القصة كتابيه (الرحيل) و (رجل). والذي يعرف البدوي في هدوئه وصمته، وبعده عن مجالات الأدباء والكتاب، قد يستولي عليه عجب، حين يرى اهتمام الكتاب بأمر كتابيه وتهافتهم على نقدهما وبحثهما.
.
ولكن الذي يعرف البدوي من ثنايا سطوره، لا يرى عناء كبيراً في أن يعرف الدافع الشريف الذي حمل هؤلاء الكتاب على العناية بفنه وأدبه. وقد تتلمذ البدوي على المدرستين الروسية والإنجليزية، فكان مزاجاً منهما معاً، ثم أضاف إلى ذلك شخصيته التي استقل بها، فكان قصصياً موفقاً.
وأميز صفاته أنه مخلص لفنه إخلاصاً شديداً حتى ليكاد يعجز عن أن يزاول سواه، لأنه استغرق كل تفكيره واستبد بجميع جهوده، وسيكون لنا منه من يسد فراغاً عزيزاً. وشوكت التوني قصصي موهوب، وكاتب قادر، غير أنه كاد يسيء إلى فنه إساءة بالغة، حين صمت عن الكتابة صمتاً غير محمود، متفرغاً لدراساته القانونية وقضاياه.
.
ولو لم يغمره - منذ قريب - نشاط أدبي نعرفه، لفقده عالم القصة آسفاً أسفاً شديداً، لأنه يعرف فيه ما يدفعه إلى التشبث به.
.
وقد يمحو آثار صمته الطويل أنه أقبل اليوم قوياً بدراساته وميله بعد انقطاع عن الفن الذي يحبه ويقدسه.
.
وسوف لا نغفر له - بعد ذلك - صمتاً أو تحولاً.
لأن الفن الذي فقد رجاله أو كاد، في حاجة شديدة إلى الشباب يشد أزره. وطاهر لاشين قصصي مصري بديع التكوين، قد بلغ بفنه وأدبه منزلة جليلة، ومجهوده في سبيل القصة المصرية كبير، وأسلوبه العربي سليم أنيق، نقي البيان لا يحب الإسفاف، ونأمل فيه خيرً كثيراً.
.
ونشكر له ما أسدى.
.
وما سوف يسدي إن شاء الله. أولئك وهؤلاء هم المحسنون إلى القصة المصرية إحساناً محموداً الجديرون بالذكر والشكر والاعتراف بالجميل.

ولكن طائفة كبيرة، غير محدودة ولا محصورة، قد أقبلت منذ سنوات ترمي القصة المصرية العربية بالإساءة المرذولة، وتفتح فيها فتحاً قديراً على أن يهلكها ويحطمها تحطيماً.
. وهؤلاء الذين يتخذون من كتابة القصة تجارة ورزقاً، ويسوقون إلى الميدان كل يوم عملاً جديداً، قد فقد نتاجهم كل فن أو طرافة أو توفيق، ولكنه لم يفقد القراء أو الضالين من المتأدبين، وهذه هي الإساءة التي تؤلمنا ألماً مراً وتحز في صدورنا حزاً موجعاً.
. نعم.
.
فقد استطاع بعض هذا النفر، أن يجعل من نتاجه المشوش مدرسة يسير تلاميذها على طريقته الملتوية التي لا تؤدي إلى فلاح، فأفسد بذلك الذوق الأدبي ونال منه، وألحق بالفن خسراناً مبينا. والذي يقرأ اليوم هذه القصص التجارية التي تحفل بها المجلات والكتب، ناشداً منها تسلية أو إتلافاً للوقت، لا شك يخرج من قراءته وقد خسر وقتاً حقيقياً بألا يبعثر ويعبث به، ويتأثر - بعد ذلك - بما قرأ تأثراً قد ينال من تفكيره، وقلمه، وذوقه جميعاً. ولسنا نقصد بالقصة التجارية القصة المترجمة وحسب، بل إننا نقصد المترجمة والموضوعة على السواء، لا بل ونعني الموضوعة باهتمام خاص.
.
فلقد سار كتابها اليوم على طريق لا ندري إلى أية هاوية تصل بهم وبقرائهم، حين أدخلوا في قصصهم نوعاً من الأسلوب نستطيع أن نسميه (أدباً خليعاً)، وهو مزاج من العامة الرخوة، والعربية المهدمة، والفرنسية التي يتحدث بها خليعات النساء. هذه هي لمحنة التي تهدد اليوم فن القصة في مصر، وأعترف أني عاجز عن أن أصف لها دواء، فلا أفل إذن من أن أدعو الأدباء والكتاب إلى أن يعلنوا عليها حرباً عواناً تقتلها أو تخرجها عن ميدان الأدب خاسرة.
ولا يمنعني هذا من أن أضع أمام أعين الشباب مثلاً للقصصي كيف يكون، عسى أن أبلغ بهذا الذي أقول أملاً طالما نشدته وسعيت إليه، وهو أن يقبل الشباب على ما يستأهل العناية، وأن يعرض عما يصل بذوقه الفني والأدبي إلى هاوية ليس لها من قرار.
. وأعتقد أن القصصي يجب أن يكون جامعاً لجوانب خمسة، غير فاقد منها شيئاً. وأول هذه الجوانب: أن يكون عربي اللفظ والأسلوب، أديباً قوي البيان مشحوذ القلم واللسان، وأن يكون حريصاً على عربيته معتزاً بها عاشقاً لها أميناً عليها. وثانيها: أن يكون فناناً بطبعه موهوباً، قادراً على تصوير كل ما يحيط به وبأبطال قصصه من أجواء الطبيعة ومشاهدها وكل ما يغمر نفوسهم من شعور، أو ينتابها من أحاسيس، أو يتكون فيها من عواطف.
.
وكل ما يجول بأذهانهم من خواطر، أو يحتدم في صدورهم من رغبات. وثالثها: أن يكون على حظ من الثقافة موفور، واسع الاطلاع مجرباً، قد لمس بيديه كثيراً من الحقائق، وأوغل بنفسه في جوانب الحياة وحواشيها. ورابعها: أن يكون متنبه الحواس يقظاً، مغذياً لميله الفني، سائراً في ذلك على نهج قويم، لأن الميل الطبيعي لا يورق ويؤتي ثماره بغير مران وتنمية، والفن الجميل يقوم على عمادين من الدراسة والميل، ولا يقوم على واحد منهما.
. وخامسها: أن يتميز بشخصية مستقلة، وأن يكون ذا خيال واسع لا يضيق أمام قلمه وبيانه، وما ينشدانه من بلوغ إلى بعض الحقائق.
. والقصة التي يكتبها كاتبها في أسلوب عربي مبين، والتي تحمل إلى قارئها صوراً صادقة - طبيعية ونفسية - والتي تترجم دقائق الحياة وبسائطها فترفع للذهن قطعة من صميم الوجود، والتي يفيض من بين سطورها جمال يهز مشاعر عشاق الجمال، والتي تنتصر فيها حقائق على حقائق، هي القصة الكاملة التي نريدها.
والتي نرجو أن يوفق إلى إخراجها منشئو الجيل الجديد.
. وبعد - فقد بلغت بحمد الله نهاية البحث، بعد أن تراقصت أمام عيني الخواطر والأفكار، وأرجو أن أكون قد ذهبت فيما قلت مذهباً حقاً، لا يخاصم العرف الأدبي الذي كسبه الذوق الحديث من بلاغة أبناء العرب وتراثهم الفكري، ومن دراسات جديدة وفق فيها أبناء الغرب توفيقاً عظيماً.
. وهذا تاريخ موجز للقصة المصرية العربية، وما أثر فيها فأحسن إليها أو أساء إلى يومنا هذا.
.
فأما مستقبلها فأخشى أن يذهب بها إلى موضع لا يرضاه المصريون أو الشرقيون.
وأرجو - من الأعماق - أن تجد القصة من يرفعه وينهض بها، وهو أمر ليس باليسير، وإنما يحتاج رجالاً أشداء عاملين مخلصين.
.
ولسنا - والحمد لله - فقراء من الرجال.
. هلال أحمد شتا بسكرتيرية مجلس الشيوخ

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢