أرشيف المقالات

خلو الزمان من مجتهد

مدة قراءة المادة : 46 دقائق .
2خلوُّ الزمان من مجتهد
الخلو: أصل يدل على تعري الشيء من الشيء، يقال: خِلْوٌ من كذا: إذا كان عِرْوًا منه، ودخلت الدار فإذا هي خالية، والمكان الخلاء الذي لا شيء به، وخلا المكان إذا فرغ[1]. والمراد بالخلو هنا: الفراغ. والمراد بالمسألة بحث موضوع مهم طال فيه النقاش والجدال، وهو هل يجوز أن يتعرى الزمان ويفرغ من المجتهدين أو لا؟! وقبل بيان رأي الشَّاطبي في المسألة نحدد محل النزاع فيها.   تحرير محل النزاع: أولًا: اتفق الأصوليون على أن محل الخلاف هو المجتهد مطلقًا، سواء كان مستقلًّا أو مقيدًا بالمذهب؛ وقد صرح جماعة منهم بأن النزاع في المجتهد مطلقًا؛ كالجويني[2]، والصفي الهندي[3]، وعنه العبادي[4]، وقرره ابن عبدالشكور، والأنصاري اللكنوي[5]، وأشار إليه الآمدي[6]، والبرماوي[7]، والسيوطي[8]. ورأى بعضهم أن الخلاف في المجتهد المطلق[9]. والأول هو الأظهر؛ إذ الحنابلة لا يجيزون خلوَّ الأرض من قائم لله بالحجة، ويطلقون دون تفصيل، بينما الجمهور يجيزون الخلو، حتى من المجتهد المطلق، أو ممن تسند له الفتوى عمومًا، بل صرح الجويني بجواز خلو الزمان من المجتهد المقلد ومِن نقلة المذاهب[10]، وصرح الآمدي في جوابه على الحنابلة بأن الاجتهاد فرض كفاية إذا لم يمكن للعوام الاعتماد على الأحكام المنقولة إليهم من عصر سبق عصرهم، ثم قال: "لا نسلم امتناع ذلك"[11]، ويعني بذلك خلو الزمان من مجتهد مع هذه الحالة، وعلى هذا فيلزم أن يكون الخلو شاملًا حتى لغير المجتهد المطلق؛ لأن غير المجتهد المطلق يمكنه أن يقيم للناس الأحكام.   ثانيًا: اتفق الأصوليون على إمكان الخلو من مجتهد بعد أشراط الساعة الكبرى، وأن الخلاف إنما هو فيما قبل أشراط الساعة، ونقل الاتفاق على ذلك الأنصاري اللكنوي[12]، وقال ابن أمير الحاج: "ما أظن أن أحدًا يخالف في هذا، أو الظاهر أن إطلاق المنع محمول على ما دون هذا"[13]. وأجاب الأنصاري اللكنوي عن الاعتراض بعيسى - عليه السلام - بأنه يفتي بإلهام إلهي بأن الحكم في المسألة في الدين المحمدي كذا، فيفتي به[14]. لكن خالف هؤلاء من أطلق الخلاف؛ كابن السبكي؛ حيث قال: "ويجوز خلو الزمان عن مجتهد خلافًا للحنابلة مطلقًا، ولابن دقيق العيد ما لم يتداعَ الزمان بتزلزل القواعد"[15]، وقال المحلي في شرح رأي ابن دقيق: "فإن تداعى بأن أتَتْ أشراط الساعة الكبرى؛ كطلوع الشمس من مغربها، وغير ذلك، جاز الخلوُّ عنه"[16]. ومما يؤيد أن قول ابن دقيق إنما هو شرح لقول الحنابلة، وليس قولًا منفردًا، أن بعض العلماء - كالبرماوي[17]، وعنه ابن النجار[18] - جعلا قول ابن دقيق ضمن قول الحنابلة، ولم يفرقا بينهما، وأيضًا ما استدل به بعض من يقول بعدم جواز الخلو من حديث: ((لا تقوم الساعةُ إلا على شِرار الناس))[19]؛ فإن هذا يفيد أن الخلوَّ قد يقع قبل قيام الساعة بفترة. وبهذا يظهر أن الخلاف منحصر فيما قبل الأشراط القريبة من الساعة، التي بها يتداعى الزمان، وتتزلزل القواعد، ويرفع العلم، ويهلِك أهلُه.   ثالثًا: نقل اتفاق الأصوليين على جواز خلو الزمان من مجتهد عقلًا، أشار التفتازاني إلى ذلك، وأن الخلاف إنما هو في الجواز الشرعي لا العقلي[20]، وذكر هذا ابن الهمام، وحمَل خلاف الحنابلة ومن معهم على عدم الجواز الشرعي لا العقلي، وتبعه ابن أمير الحاج[21]، وأمير بادشاه[22]، وابن عبدالشكور، والأنصاري اللكنوي[23]. واستدل لهذا: بأن الحنابلة استدلوا بحديث: ((لا تزال طائفة من أمتي...
إلخ)
)
[24]، وهذا الحديث إنما يفيد عدم الوقوع، لا الاستحالة العقلية؛ إذ لا يمكن أن يمنع من ذلك أحد[25]. وبعضهم خالف هذا؛ فقال بأن النزاع في جوازه عقلًا وشرعًا[26]، ويفهم هذا من كلام ابن السبكي[27]، وصرح به السيوطي[28]، ويمكن أن يستدل لهذا: بأن المثبتين لجواز الخلو يستدلون على إثباته عقلًا بقولهم: وذلك لأنه لو امتنع لامتنع إما لذاته، أو لأمر من خارج؛ الأول محال؛ فإننا لو فرضنا وقوعه لم يلزم عنه لذاته محال عقلًا[29]. وهذا يدل على أنهم فهموا أن إنكاره من جهة العقل أيضًا، فاستدلوا على الإثبات بالعقل، وأردفوه بالنقل، ثم إنهم جعلوا مما استدل به الحنابلة: أنه لو جاز خلوُّ العصر عن مجتهد، للزم منه اتفاق الأمة على الخطأ والضلالة؛ حيث فرَّطوا في واجب كفائي، وهذا ممتنع[30]، وأيضًا أنه يؤدي إلى اندراس التكليف والأحكام، وهو ممتنع[31]، ويبدو أن امتناعَ هذا من جهة العقل. وقد أشار التفتازاني إلى الجواب عن الأول: بأنه لو سلم أن الدليل في الجواز العقلي، والخلاف في الامتناع الشرعي، فالمراد لو امتنع شرعًا لكان لمانع شرعي، والأصل عدمه[32]، فهو قد حمَل المنع هنا على المنع الشرعي. ويؤيد بعضُهم هذا بأن الأصوليين والفقهاء يطلقون الجواز ويعنون به الجواز الشرعي، إلا إذا وُجد صارف يصرفه للجواز العقلي[33]، ولكن قد يشكل على هذا كله قولهم في الجواب، كما صرح به الآمدي: "محال عقلًا"؛ فاستدلالهم من جهة العقل صراحة، فكيف يحمل على الجواز الشرعي؟ ويشكل على هذا أيضًا أن الأنصاري اللكنوي ذكر أن من الناس من قال بوجوب الخلو، ولكن علق عليه بأنه هوس لا يعوَّل عليه[34]. ولذا؛ فالذي يظهر لي من خلال تأمل كلام الأصوليين أن الخلاف في الجواز عقلًا وشرعًا، أما من قال بالوجوب، فهو قول لا يستحق الذكر فضلًا عن الاعتبار، كما أن قائله لا يضاف إلى جملة العلماء؛ إذ هو بالعوامِّ أولى وأحرى. رابعًا: اختلف الأصوليون هل يجوز عقلًا أو شرعًا أن يخلو زمان من الأزمان إلى قبيل الساعة من مجتهد مستقل أو مقيد؟، وهذا هو محل النزاع في المسألة.   رأي الشَّاطبي: سبق أن قررنا أن الشَّاطبي قسم الاجتهاد من حيث الانقطاع وعدمه إلى قسمين: القسم الأول: اجتهاد لا يمكن أن ينقطع إلى قيام الساعة: وهو - كما سبق إيضاحه - تحقيق المناط الشخصي العام، أو بعبارة أخرى: تطبيق القاعدة الكلية، والحكم الكلي على الأجزاء العينية. ولما أن كان هذا النوع مرتبطًا بالتكليف، والتكليف محال أن ينقطع في زمن دون آخر، أو في زمن ويدوم انقطاعه أبدًا، كان هذا النوع من الاجتهاد المناطي لا يمكن أن يخلو الزمان من مجتهد فيه، ولا يجوز القول بذلك لا عقلًا ولا شرعًا، لا سيما وأنه غير خاص بالعلماء، بل هو عام لكل مكلف، وأهل التكليف وأعيان الناس لا ينقطعون مطلقًا حتى تقوم الساعة. قال الشَّاطبي وهو يتحدث عن الاجتهاد في تحقيق المناط النوعي: "ولكن هذا الاجتهاد في النوع لا يُغني عن الاجتهاد في الأشخاص المعينة، فلا بد من هذا الاجتهاد في كل زمان"[35]. أما الثاني: فهو الاجتهاد الذي يمكن انقطاعه، وهذا النوع يتضمن بقية أنواع الاجتهاد في العلة، وهي تنقيح المناط، وتخريجه، وتحقيق المناط النوعي، وتحقيق المناط الشخصي الخاص[36]. قال الشَّاطبي مفرقًا بين النوعين: "إن الفرق بينهما ظاهر من جهة أن هذا النوع الخاص كلي في كل زمان، عام في جميع الوقائع أو أكثرها، فلو فرض ارتفاعه لارتفع معظم التكليف الشرعي أو جميعه، وذلك غير صحيح؛ لأنه إن فرض في زمان ما ارتفعت الشريعة ضربة لازب بخلاف غيره، فإن الوقائع المتجددة التي لا عهد بها في الزمان المتقدم قليلة بالنسبة إلى ما تقدم؛ لاتساع النظر والاجتهاد من المتقدمين، فيمكن تقليدهم فيه؛ لأنه معظم الشريعة، فلا تتعطل الشريعة بتعطل بعض الجزئيات، كما لو فرض العجز عن تحقيق المناط في بعض الجزئيات دون السائر، فإنه لا ضرر على الشريعة في ذلك، فواضح أنهما ليسا سواءً، والله أعلم"[37].   ومِن خلال هذا النقل، يتبين أن الشَّاطبي يرى أنه يمكن انقطاع هذا النوع من الاجتهاد، وعليه يمكن أن يخلو الزمان من مجتهد فيه[38]. ولكن قوله في بداية تقسيمه: "والثاني: يمكن أن ينقطع قبل فَناء الدنيا"[39]، وخصوصًا قوله: "يمكن" تفيد جواز الوقوع عقلًا وشرعًا، ولكنها لا تفيد وقوعه فعلًا. وكأن هذا يتأيَّد بقوله في موضع آخر: "وعلى هذا لو فرضنا خلو الزمان عن مجتهد لم يمكن اتباع العوام لأمثالهم...
بل يتنزل النقل عن المجتهدين منزلة وجود المجتهدين، فالذي يلزم العوام مع وجود المجتهدين هو الذي يلزم أهل الزمان المفروض الخالي عن المجتهد"[40]. وفيما يبدو أن أكثر الأصوليين موافقون للشاطبي في القول بعدم انقطاع تحقيق المناط العام، لا سيما وقد نقل الإجماع عليه، وأنه من ضرورة كل شريعة[41]، ولا شك أن الشريعة باقيةٌ إلى قيام الساعة، فإذًا مِن ضرورة بقائها بقاء هذا النوع من الاجتهاد. ومَن قال بإمكان اندراس الشريعة، فإنه يخالف الشَّاطبي في ذلك[42].   ولا يندرج هذا النوع فيما ذكروه في مسألة خلو الزمان من مجتهد؛ لأن هذا النوع ليس هو الاجتهاد الذي يريده الأصوليون، وإنما هو اجتهاد عام مندرج ضمن مسمى الاجتهاد في اصطلاح الشَّاطبي، وما يريده الأصوليون إنما هو الاجتهاد الخاص؛ ولذا نقل الإجماع على بقائه وعدم خلو الزمان من مجتهد فيه[43]. وأما الاجتهاد الخاص فقد وافق الشَّاطبي فيه الحنفية[44]، وأكثر المالكية[45]، وأكثر الشافعية[46]، ونقله بعضهم إجماعًا[47]، وقال الرافعي: "الخَلْق كالمتفقين على أنه لا مجتهد اليوم"[48]، ونسب للأكثرين[49].   وهؤلاء اختلفوا: فقيل بالوقوع، وعبارة هؤلاء خاصة بالمطلق، وهذا ظاهر من قول الغزالي، والقفال: "خلا العصر من مجتهد مستقل"[50]، وأيضًا من قول الرافعي السابق. واختار هذا النووي[51]، وابن الصلاح[52]، والعضد[53]، والأنصاري[54]، وقال ابن حمدان من الحنابلة: "ومن زمن طويل عُدِم المجتهد المطلق..."[55]، وقال والد ابن دقيق العيد مجد الدين علي بن وهب، وجده لأمه أبو العز مظفر بن عبدالله المشهور بالمقترح: "عزَّ المجتهد في هذه الأعصار"[56]. وقيل بعدم الوقوع، أو بعدم ثبوته: واختاره ابن السبكي[57]، والأنصاري اللكنوي[58]، ويلاحظ هذا من قول الآمدي: "فإنا لو فرضنا وقوعه"[59]، وقول الصفي الهندي في جوابه عن أدلة الحنابلة: "بل لو دلَّ فإنما يدل على عدم الوقوع، ولا يلزم منه عدم الجواز"[60]، ومثله الأسنوي[61]، والبرماوي[62]. وعبارة الجويني محتملة؛ فإنه قال: "وتقدير خلو الدهر عن حملة الشريعة اجتهادًا ونقلًا نادرٌ في التصوير والوقوع جدًّا، ولو فُرض - والعياذ بالله - كان تقديرُ عودِ العلماء أبدعَ مِن كل بديع"[63].   وخالَفه القائلون بعدم جواز خلو الزمان من مجتهد: وبه قال الحنابلة[64]، واختاره ابن رشد[65] من المالكية، وبعض الشافعية؛ كأبي إسحاق الشيرازي[66]، والزبيري[67]، ونقل عن العز بن عبدالسلام[68]، وهو ظاهر تبويب الخطيب؛ حيث قال: "ذكر الرواية أن الله تعالى لا يُخْلي الوقت من فقيه، أو متفقِّه"[69]، واختاره ابن حزم[70]، ونسب لطوائف دون تعيين[71]، واختاره الشوكاني[72]، وكثير من المعاصرين[73]. وضِمن هذا القول - كما سبق بيانه - يندرج قول ابن دقيق العيد: وهو منعُ خلوِّ الزمان من مجتهد، ما لم يتداعَ الزمان، وتتزلزل القواعد[74]. والقول الثالث في المسألة: خلو الزمان من مجتهد مطلق – أي: مستقل - دون مجتهد في المذهب، واختاره الزركشي[75]، والسيوطي[76].   أدلة الشَّاطبي ومن وافقه: استدل الشَّاطبي على أن الاجتهاد العام لا يخلو عصر من مجتهد فيه بدليلين: الدليل الأول: أنه لو قيل بارتفاع وخلو الزمان من مجتهد فيه، للزم منه المحال؛ لأن الأحكام الشرعية قد وردت عامة مطلقه، فلا يمكن أن تتنزل على أفعال المكلفين إلا في الأذهان، والأفعال لا تقع في الوجود مطلقة، وإنما تقع معينة مشخصة، فلا بد إذًا من معرفة الأعيان الذين يشملهم ذلك المطلق حتى يوقع الفعل عليهم، وهذا لا يتم إلا عن طريق تحقيق المناط العام؛ فلذا كان لا بد منه لكل عصر؛ لارتباطه بإنزال التكليف على العباد، ولما أن كان التكليف غير منقطع كان هذا غير منقطع أيضًا. الدليل الثاني: أن هذا التكليف مرتبط بالعالم والحاكم والمفتي والعامي، ومن المعلوم أنه لا يمكن خلو الزمان من هذه الفئات جميعًا؛ ولذا كان الاجتهاد المرتبط بهم باقيًا كبقائهم.   واستدل الشَّاطبي على إمكان خلو الزمان من مجتهد في غير ما قرر بقاءه من تحقيق المناط العام: بأن بقية أنواع الاجتهاد لا يتوقف عليها التكليف؛ إذ يمكن أن يتم التكليف وتعرف الأحكام عن طريق التقليد؛ ولذا جاز القول بانقطاعها.   مناقشته: نوقش هذا الدليل من وجهين: الوجه الأول: أن قولك بالجواز مخالف للأدلة الشرعية؛ كقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة مِن أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرُّهم مَن خذَهم حتى يأتي أمر الله))[77]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن العلماءَ ورثة الأنبياء))[78]، وأحق الأمم بالوراثة للعلم هذه الأمة، وأحق الأنبياء بإرث العلم عنه النبي صلى الله عليه وسلم [79]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لن تخلوَ الأرض مِن قائم لله بحجة))[80].   جواب المناقشة: وأجيب عن هذه المناقشة بثلاثة أجوبة: الجواب الأول: أن هذه الأدلة معارَضة بما يدل على نقيضها؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: ((بدأ الإسلام غريبًا، وسيعودُ غريبًا كما بدأ؛ فطوبى للغرباء))[81]، وقوله: ((إن اللهَ لا يقبِض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبِض العلم بقَبْض العلماء، حتى إذا لم يُبْقِ عالِمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالًا، فسُئلوا، فأفتَوْا بغير علم؛ فضَلُّوا وأضَلُّوا))[82]، وإذا تعارضت النصوص تساقطت[83]، وبقي لنا دليلنا العقلي، وهو أنه لو امتنع لامتنع؛ إما لذاته أو لأمر خارج، والأول محال؛ لأنه لو وقع لم يلزم عنه لذاته محال عقلًا، وإن كان الثاني فالأصل عدمه، وعلى مدَّعيه بيانه[84].   مناقشة الجواب الأول: نوقش من وجهين: الوجه الأول: أن ما ذكرتموه دليلًا لا يعارض ما نستدل به من عدم جواز خلو الزمان من مجتهد: فالحديث الأول: لا يدل على عدم مَن تقوم به الحجة، بل ربما أفاد وجوده، بدليل قوله فيه: (فطوبى للغرباء)، وأما الثاني: فيحمل على ما بعد إرسال الريح اللينة التي يُقبَض عندها روح كل مؤمن؛ جمعًا بين الأدلة[85]. الوجه الثاني: أن الدليل العقلي غير صحيح؛ لأنه استدلال على إثبات الإمكان الخارجي بمجرد الإمكان الذهني، وهو غير كافٍ في ذلك؛ لأن الإمكان الخارجي إنما يثبت بالعلم بعدم الامتناع، والإمكان الذهني عبارة عن عدم العلم بالامتناع، وعدم العلم بالامتناع لا يستلزم العلمَ بعدم الامتناع[86]. الجواب الثاني: أن حديث: ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين...)) لا يدل على ما ذكرتم، وإنما يدل على نفي الوقوع لا نفي الجواز[87]، ثم لا يلزم من كونهم ظاهرين على الحق كونهم مِن جملة المفتين[88].   الجواب الثالث: أن ما نستدل به أصرح مما تستدلون به في المراد، ودليلكم ليس صريحًا في نفي الجواز[89]. الوجه الثاني مما نوقش به دليل الشَّاطبي: أن القول بالجواز يلزم منه المحال، وبيانه من طريقين: الطريق الأول: أن الاجتهاد فرض كفاية، فلو جاز خلو العصر منه، للزم اتفاق أهل العصر على الخطأ والضلالة، وهو ممتنع بعصمة الأمة فيما أجمعت عليه[90]. الطريق الثاني: أن الاجتهاد هو طريق معرفة الأحكام، فلو خلا العصر من مجتهد، للزِم منه اندراس الأحكام والتكليف، وهو غير ممكن أصلًا[91].   جوابه: وأجيب عن هذه المناقشة من وجهين: الوجه الأول: بأن ما ذكرتم من أنه يلزم منه محال؛ لأن الاجتهاد فرض كفاية، وإذا جاز الخلو لزم منه اجتماع الأمة على ضلالة، غير لازم؛ لأن انتفاء الاجتهاد يكون بموت العلماء، ويكون بعدم تحصيلهم له، فلعله يكون بالأول، ولا يلزم منه محذور[92]، وأيضًا فالاجتهاد إنما يجب على الكفاية إذا كان منهم من له صلاحية تحصيله، فأما إذا عمهم عدم القدرة فلا يكون واجبًا عليهم[93]، كما أنه إذا أمكن اعتماد العوام على ما نقل إليهم من الفتاوى والأحكام من المجتهدين قبلهم، فلا يجب عليهم ذلك، ولو قلنا: إنه واجب عليهم، لعدم إمكان اعتمادهم على ما نقل إليهم، فلا نسلم امتناع الخلو في هذه الحالة[94]. الوجه الثاني: أن ما ذكرتم من أنه يلزم منه اندراس الشريعة، فنحن لا نوافقكم في امتناع ذلك لدلالة النصوص الواردة على ذلك، كما أنه يمكن أن يعتمد أهل ذلك العصر على ما نقل إليهم من الفتاوى والأحكام عمن قبلهم[95].


[1] انظر: معجم مقاييس اللغة (2/ 204) مادة "خلو"، القاموس المحيط (1652) مادة: "خلا". [2] انظر: غياث الأمم (192). [3] انظر: نهاية الوصول (8/ 3887). [4] انظر: الآيات البينات (4/ 378). [5] انظر: مسلم الثبوت ومعه فواتح الرحموت (2/ 399). [6] انظر: الإحكام (4/ 233 - 336). [7] انظر: الفوائد السنية (3/ 1209). [8] انظر: تيسير الاجتهاد (25). [9] انظر: الاجتهاد في التشريع الإسلامي لمحمد سلام مدكور (95). [10] انظر: غياث الأمم (193). [11] انظر: الإحكام (4/ 236). [12] انظر: فواتح الرحموت (2/ 399) وانظر: الاجتهاد في الإسلام لنادية العمري (222). [13] انظر: التقرير والتحبير (3/ 339). [14] انظر: فواتح الرحموت (2/ 399). [15] انظر: جمع الجوامع مع شرح المحلي وحاشية البناني (2/ 613).
[16] انظر: شرح جمع الجوامع مع حاشية البناني (2/ 613). [17] انظر: الفوائد السنية (2/ 3/ 1210).
[18] انظر: شرح الكوكب المنير (4/ 567). [19] ذكره أبو عبدالله الزبير بن أحمد الزبيري الشافعي مستدلًّا به على جواز خلو الزمان من مجتهد؛ انظر: البحر المحيط (6/ 208) والحديث: رواه مسلم في صحيحه كتاب الفتن وأشراط الساعة باب قرب الساعة (18/ 70/ 2949) عن ابن مسعود رضي الله عنه. [20] انظر: حاشية التفتازاني على العضد (2/ 307 - 308). [21] انظر: التقرير والتحبير (3/ 339 - 340). [22] انظر: تيسير التحرير (4/ 240 - 241). [23] انظر: مسلم الثبوت مع فواتح الرحموت (2/ 400). [24] رواه البخاري في صحيحه كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق يقاتلون، وهم أهل العلم) (8/ 189/ 7311) ومسلم في صحيحه بلفظ: ((لن يزال قوم من أمتي ...)) كتاب الإمارة باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم)) (13/ 57/ 1921) عن المغيرةِ بن شعبة رضي الله عنه. [25] انظر: التحرير مع التقرير والتحبير (3/ 339 - 340) تيسير التحرير (4/ 240). [26] انظر: تقريرات الشربيني على شرح جمع الجوامع وحاشية البناني (2/ 316 - 314). [27] انظر: جمع الجوامع مع شرح المحلي وحاشية البناني (2/ 613). [28] انظر: الرد على من أخلد إلى الأرض (26). [29] انظر: الإحكام (4/ 233) نهاية الوصول (8/ 3888) بيان المختصر (3/ 362) شرح العضد (2/ 307 - 308) زوائد الأصول (437) التقرير والتحبير (3/ 339) تيسير التحرير (4/ 240). [30] انظر: الإحكام (4/ 234) نهاية الوصول (8/ 3889) أصول ابن مفلح (3/ 985) بيان المختصر (3/ 363) شرح العضد (2/ 308) زوائد الأصول (439) البحر المحيط (6/ 208) الرد على من أخلد إلى الأرض (26). [31] انظر: نهاية الوصول (8/ 3889) الإحكام (4/ 234) البحر المحيط (6/ 280) الرد على من أخلد إلى الأرض (27). [32] انظر: حاشية التفتازاني على العضد (2/ 308). [33] انظر: الاجتهاد والتقليد للعلواني (102). [34] فواتح الرحموت (3/ 399). [35] الموافقات (5/ 17). [36] انظر: تفصيل ذلك (ص 165) من هذا البحث. [37] الموافقات (5/ 39 - 40). [38] نقل د/ محمد الدريني عن الشاطبي أنه يرى وجوب الاجتهاد بالرأي في كل عصر، وأنه لا يمكن أن يخلو منه زمان، وساق كلام الشاطبي لإثبات ذلك، ولكن ما رآه غير وجيه؛ لأن ما ساقه عن الشاطبي وقرر لأجله أنه رأي له إنما ساقه الشاطبي مساق الاعتراض، وقد أجاب عنه وأثبت خلافه، وفرق بين ما يسوقه على جهة الاعتراض ويجيب عنه، وبين ما يثبته رأيًا له، كيف وقد قسم الشاطبي بكل وضوح الاجتهاد إلى قسمين وأحدهما هو ما يمكن انقطاعه قبل فناء الدنيا؟؛ انظر: الموافقات (5/ 11، 19، 39 - 40) بحوث مقارنة في الفقه الإسلامي وأصوله (1/ 57 - 58). [39] الموافقات (5/ 11 وانظر: منه 5/ 19). [40] الاعتصام (2/ 453) وانظر منه: (2/ 362 - 513). [41] رسالة في أصول الفقه (82) المستصفى (2/ 231) روضة الناظر (2/ 200) شرح مختصر الروضة (3/ 33) الإبهاج (3/ 83). [42] انظر بحث هذه المسألة (ص 153 - 155) من هذا البحث. [43] انظر: تعليق دراز على الموافقات (5/ 11)، تعليق عفيفي على الإحكام (4/ 233). [44] انظر: نهاية الوصول لابن الساعاتي (2/ 396) التحرير مع التقرير والتحبير (3/ 339) تيسير التحرير (4/ 204) فواتح الرحموت (3/ 339). [45] انظر: مختصر المنتهى مع بيان المختصر (3/ 362) ونقله القرافي عن الآمدي، وأقره عليه في نفائس الأصول (9/ 3967 - 3969) ولم يذكر خلافًا إلا عن الحنابلة. [46] انظر: البرهان (1/ 443) غياث الأمم (187، 192) الإحكام (4/ 233) نهاية الوصول (8/ 2887) شرح العضد (2/ 307) زوائد الأصول (436) نهاية السول (4/ 613) جمع الجوامع مع شرح المحلي وحاشية البناني (2/ 613). [47] انظر: البحر المحيط (6/ 207) الرد على من أخلد إلى الأرض (29). [48] انظر: البحر المحيط (6/ 207) وقال الزركشي: "نقل الاتفاق فيه عجيب، والمسألة خلافية"، وفيما يبدو أن ما نقله الرافعي ليس اتفاقًا تامًّا، وإنما هو كالاتفاق، ولعله لما رأى كثرة القائلين بهذا القول قال بذلك، أو أنه يريد المجتهد المستقل، وهذا أظهر. [49] انظر: نهاية الوصول (8/ 3887) البحر المحيط (6/ 207) الفوائد السنية (3/ 1209) التقرير والتحبير (3/ 339) تيسير التحرير (4/ 240). [50] انظر: البحر المحيط (6/ 208 - 209). [51] انظر: المجموع (1/ 75 - 76). [52] انظر: أدب الفتوى (40). [53] انظر: شرح العضد (2/ 308). [54] انظر: غاية الوصول (152). [55] انظر: صفة الفتوى (17). [56] انظر: البحر المحيط (6/ 208). [57] انظر: جمع الجوامع مع شرح المحلي وحاشية البناني (2/ 613). [58] انظر: فواتح الرحموت (2/ 399). [59] انظر: الإحكام (4/ 233). [60] انظر: نهاية الوصول (8/ 3888). [61] انظر: زوائد الأصول (438). [62] انظر: الفوائد السنية (3/ 1210). [63] انظر: غياث الأمم (206). [64] انظر: العدة (4/ 1173) التمهيد (3/ 352) المسودة (472) أصول ابن مفلح (3/ 984) إعلام الموقعين (4/ 163) شرح الكوكب المنير (4/ 564) المدخل (368) أصول الإمام أحمد (707). [65] انظر: الضروري (145). [66] انظر: شرح اللمع (2/ 696 - 700) التبصرة (376). [67] انظر: البحر المحيط (6/ 207) التقرير والتحبير (3/ 339) الرد على من أخلد إلى الأرض (5، 27) ووقع فيه الزبيدي، وهو خطأ، والزبيري هو أبو عبدالله الزبير بن أحمد الزبيري الشافعي الضرير المتوفى سنة 317 أو 319هـ؛ انظر ترجمته في: الفهرست (262) سير أعلام النبلاء (15/ 57) طبقات الشافعية للأسنوي (1/ 299). [68] انظر: الرد على من أخلد إلى الأرض (28) نقله عنه ابن عرفة، وانظر: مواهب الجليل (6/ 90). [69] الفقيه والمتفقه (1/ 137). [70] انظر: الإحكام (2/ 123). [71] انظر: أصول الفقه لابن مفلح (ط: العبيكان 4/ 1552) شرح الكوكب المنير (4/ 564). [72] انظر: إرشاد الفحول (423 - 425). [73] انظر: عبدالكريم زيدان في الوجيز (407) جلال الدين عبدالرحمن في الاجتهاد ضوابطه وأحكامه (198) العلواني في الاجتهاد والتقليد (99) محمد سلام مدكور في الاجتهاد في التشريع الإسلامي (92) البري في بحث له ضمن الاجتهاد في الشريعة الإسلامية وبحوث أخرى (249). [74] انظر: جمع الجوامع مع شرح المحلي وحاشية البناني (2/ 613) البحر المحيط (6/ 208) الرد على من أخلد إلى الأرض (27 - 28) تيسير الاجتهاد (25) التقرير والتحبير (3/ 339) تيسير التحرير (4/ 240). [75] انظر: البحر المحيط (6/ 209). [76] انظر: الرد على من أخلد إلى الأرض (26 - 39). [77] انظر: الموافقات (5/ 17). [78] انظر: الاعتصام (2/ 387). [79] انظر: الموافقات (5/ 39 - 40) وانظر: حاشية التفتازاني على شرح العضد (2/ 308). [80] رواه مسلم في صحيحه كتاب الإمارة باب قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفةٌ مِن أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرُّهم مَن خالفهم)) (13/ 57/ 1920) عن ثوبان رضي الله عنه، وللاستدلال به انظر: التمهيد (3/ 352) العدة (4/ 1173) الإحكام (4/ 234) نهاية الوصول (8/ 3888) أصول ابن مفلح (3/ 985) بيان المختصر (3/ 362) شرح العضد (2/ 308) زوائد الأصول (438) الرد على من أخلد إلى الأرض (26). [81] سبق تخريجه (ص 377). [82] انظر: الإحكام (4/ 234). [83] انظر: العدة (4/ 1173) شرح اللمع (2/ 696، 699) التمهيد (3/ 352) الرد على من أخلد إلى الأرض (27) تيسير الاجتهاد (26 - 27) والحديث: قال عنه أبو الخطاب في التمهيد (3/ 352): "هذا الحديث غير معروف في أصل"، وقال الشيرازي في شرح اللمع (2/ 699): "لا يعرف هذا الحديث"، وقال ابن مفلح في أصوله (ط: العبيكان 4/ 1554): "لا يصح"، وقال الغماري في تخريج أحاديث اللمع (255): "لا أصل له"، ولكن جاء موقوفًا فيما رواه أبو نعيم في حلية الأولياء (1/ 79) والخطيب في الفقيه والمتفقه (1/ 182/ 176) عن كميل بن زياد النخَعي أن عليًّا أوصاه في العلم بوصية طويلة، وفيها: "اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة؛ لئلا تبطل حجج الله وبيناته". [84] انظر: الإحكام (2/ 233) مختصر المنتهى مع بيان المختصر (3/ 362) نهاية الوصول (8/ 3888) شرح العضد (2/ 307 - 308) زوائد الأصول (437) التقرير والتحبير (3/ 339) تيسير التحرير (4/ 240). [85] انظر: تعليق عفيفي على الإحكام (4/ 235 - 236). [86] انظر: درء تعارض العقل والنقل (4/ 59، 5/ 44) تعليق عفيفي على الإحكام (4/ 137، 233) موقف ابن تيمية من الأشاعرة (1/ 245). [87] انظر: نهاية الوصول (8/ 3888) زوائد الأصول (438). [88] انظر: نهاية الوصول (8/ 3888 - 3889). [89] انظر: مختصر المنتهى مع بيان المختصر (3/ 363 - 364) نهاية الوصول (8/ 3889) شرح العضد (2/ 308). [90] انظر: الإحكام (4/ 234) نهاية الوصول (8/ 3889) بيان المختصر (3/ 363) شرح العضد (2/ 308) زوائد الأصول (439) البحر المحيط (6/ 208) الرد على من أخلد إلى الأرض (26). [91] انظر: الإحكام (4/ 234) نهاية الوصول (8/ 3889) البحر المحيط (6/ 208) الرد على من أخلد إلى الأرض (27). [92] انظر: نهاية الوصول لابن الساعاتي (2/ 693) نهاية الوصول (8/ 3889) مختصر المنتهى مع بيان المختصر (3/ 363 - 364) شرح العضد (2/ 308) زوائد الأصول (439). [93] انظر: نهاية الوصول لابن الساعاتي (2/ 693) نهاية الوصول (8/ 3889). [94] انظر: الإحكام (4/ 236). [95] انظر: الإحكام (4/ 236) نهاية الوصول (8/ 3890) حاشية التفتازاني على العضد (2/ 308) فواتح الرحموت (2/ 400).



شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن