أرشيف المقالات

التجمل بالآداب الشرعية السامية والأخلاق النبوية العالية

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
2عشرة من مقومات الشخصية المسلمة (2)
4- التجمل بالآداب الشرعية السامية، والأخلاق النبوية العالية: تحدثنا في مناسبةٍ سابقة عن وضعية الشخصية المسلمة اليومَ، وكيف أنها أضحت شخصيةً تابعة بعد أن كانت متبوعة، مقودةً بعد أن كانت قائدة، تتحكم فيها أيادي القوى العالمية المسيطرة، بعد أن كانت هي التي تحدِّد مسار الكون، بعلومها الحية، وثقافتها الرائدة، وعقيدتِها الإيمانية الصافية، فكان سؤالنا دائرًا حول مقومات هذه الشخصية، التي بوَّأَتها هذه المكانةَ، والتي بإعادة تحقيقها تعود هذه الريادة، وتجدد هذه القيادة، وقلنا: إنها تدور حول عشرة مقومات، عرَفنا منها ثلاثة، وهي: مقوم الربَّانيَّة، القائمُ على الإيمان بالله ورسوله، والتصديقِ بما بلَّغه نبيُّنا صلى الله عليه وسلم عن ربه، ومقومُ الانقياد للشرع والإذعان للوحي، ومقومُ المحبة لله ورسوله، والتفاني في تعظيمهما وتوقيرهما.   أما المقوم الرابع، فهو التحلي بالآداب الشرعية السامية، والأخلاق النبوية العالية، التي تجمل هذه الشخصية، وتكسبها التميزَ والتفرد؛ كالاتصاف بالصدق في الأقوال والأفعال، الذي هو مناط الصلاح، ومآبُ الفلاح، فقد ذكر ربُّنا عز وجل في كتابه الحكيم: مُدخَل الصدق، ومُخرَج الصدق، ولسان الصدق، وقَدَمَ الصدق، ومَقعد الصدق، وكأنَّ الصدق يحيط بالمؤمن من كلِّ جانب، فلا مكان للكذب في حياته، ولا موطنَ للتحايل في سلوكه.   وقد حثَّ رسولنا صلى الله عليه وسلم على ضرورة التنزه عن الكذب وقال: ((اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ))؛ أحمد، وهو في صحيح الجامع، بل جعل الكذب اضطرابًا في الشخصية، ومَجلَبةً للحزن والقلق، فقال: ((دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ، فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ، وَإِنَّ الكَذِبَ رِيبَةٌ))؛ صحيح سنن الترمذي، وجعل جزاء المترفع عن الكذب بيتًا في وسط الجنة، فقال: ((أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ المِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ))؛ صحيح سنن أبي داود.   وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول الصادقين، يقول عبدالله بن سلَام رضي الله عنه قبيل إسلامه: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم المَدِينَةَ، انْجَفَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ (أي: ذهبوا إليه مسرعين)، وَقِيلَ: قَدِمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لأَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا اسْتَبَنْتُ وَجْهَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الجَنَّةَ بِسَلَامٍ))؛ صحيح سنن ابن ماجه.   وإنما جعل الله تعالى سيدنا إسماعيل نبيًّا؛ لأنه كان يفي بالوعد فيصدق فيه ولا يتخلف عنه أبدًا، قال تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا ﴾ [مريم: 54]، قال ابن جرير رحمه الله: "يقول تعالى ذِكْرُه لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر يا محمد في هذا الكتاب إسماعيلَ بنَ إبراهيم فاقصُصْ خبره، إنه كان لا يَكذب وعده ولا يُخلف، ولكنه كان إذا وعد ربَّه أو عبدًا من عباده وعدًا وفى به".   والصحابة الكرام، إنما فتحوا الأمصار، وطبقت مكرماتُهم الآفاق، بجميل أخلاقهم، وحُسن معاملاتهم، لم يكونوا يتقمصون شخصية غيرهم، ولم يكونوا يغالطون متبوعيهم، أو يلبسون عليهم؛ لأنهم يعلمون أن الكذاب مخذول لا محالة، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ﴾ [غافر: 28]، بل كان الوضوحُ سبيلهم، والصدقُ ديدنهم.   فهذا أبو بكر رضي الله عنه يلقِّبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصِّدِّيق، ويقول في حقه: ((إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقَ))؛ البخاري.   ويقول صلى الله عليه وسلم في حق أبي ذر رضي الله عنه: ((مَا أَقَلَّتِ الغَبْرَاءُ، وَلَا أَظَلَّتِ الخَضْرَاءُ، مِنْ رَجُلٍ أَصْدَقَ لَهْجَةً مِنْ أَبِي ذَرٍّ))؛ صحيح سنن ابن ماجه.   ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "عليك بالصدق وإن قتَلَك"، وكان يقول أيضًا: "لأنْ يَضعَني الصدق، أحبُّ إليَّ من أن يرفعَني الكذب". ومن لطيف ما ذكره ابن عساكر في "تاريخ دمشق": قصةُ بلال مع أخيه قال: "خطب بلال لأخيه امرأةً قرشيَّة، فقال لأهلها: نحن من قد عرَفتم: كنا عبدين فأعتقَنا الله تعالى، وكنا ضالَّينِ فهدانا الله تعالى، وكنا فقيرين فأغنانا الله تعالى، وأنا أخطب إليكم فلانة لأخي، فإن تَنكِحوها له، فالحمد لله تعالى، وإن تردُّونا، فالله أكبر، فأقبَلَ بعضهم على بعض فقالوا: بلال ممن عرفتم سابقته ومشاهده ومكانه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزوِّجوا أخاه، فزوَّجوه، فلما انصرفوا قال له أخوه: يغفر الله لك، أمَا كنت تذكُرُ سوابقنا ومَشاهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتتركُ ما عدا ذلك؟ فقال: مَهْ يا أخي! صدقتُ فأَنكَحَكَ الصدقُ".   فكان زواجهم ناجحًا، لا تعتريه هذه التقلبات التي نشاهدها اليوم، ولا هذه المظاهرُ البراقة المغرية، التي تُخفي وراءها أخلاقًا مرفوضة، وعاداتٍ منبوذة، وسلوكيات مردودة، تُسرِع بالزوجين إلى الخصومات والمناوشات، وربما انتهت بالعداوة والانفصال. قال الإمام أحمدُ عن زوجته العباسة بنت الفضل: "أقامت أمُّ صالح معي عشرين سنة، ما اختلفت أنا وهي في كلمة". وقالت امرأة سعيد بن المسيب: "ما كنا نكلِّم أزواجنا إلا كما تكلِّمون أمراءكم: أصلحك الله، عافاك الله". مَنْ صَدَقَ اللَّهَ فِي الأُمُورِ نَجَا *** مَنْ خَشِيَ اللَّهَ لَمْ يَنَلْهُ أَذَى   وما قلناه في الصدق، نقوله في الأخلاق الأخرى؛ كالوفاء بالعهود، وحفظ الأمانة، وكفِّ اليد عن الظلم والاعتداء، وغضِّ البصر، وحفظ الفروج...
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ، أَضْمَنْ لَكُمُ الجَنَّةَ: اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ، وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ، وَأَدُّوا إِذَا ائْتُمِنْتُمْ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ، وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ))؛ أحمد، وهو في صحيح الجامع.   هذه مبادئنا، وهذه حضارتنا، وهذه شخصيتنا التي أثَّرت في الناس، فدخلوا في الدين أفواجًا، وبهذا خافنا أعداؤنا، فكَفُّوا أيديَهم عنا، وانفسحت لنا الطريقُ ننشر دينَ رب العالمين، ونمكِّن لسنة سيد المرسلين، دون خوف ٍمن كبير، أو وجَلٍ من عظيم.   عندما دخل المسلمون الأندلس، وأبانوا عن حضارة غير مسبوقة، وأخلاقٍ رفيعة، قال أحد قادة لذريق: "لقد نزل بأرضنا قوم، لا ندري أهبطوا من السماء، أم نبعوا من الأرض!"، ولما تخلَّوا عن مبادئهم، وأغوتهم ملذاتُ الدنيا، سقطوا وطُردوا، قال أحد كتاب النصارى: "العرب هووا حينما نسُوا فضائلهم التي جاؤوا بها، وأصبحوا على قلب متقلب، يميل إلى الخفة والمرح، والاسترسال بالشهوات". بنيتَ لهم مِن الأخلاقِ ركنًا فخانُوا الركنَ فانهدَمَ اضطرابَا وكان جنابُهم فيها مهيبًا ولَلأخلاقُ أَجدَرُ أن تُهابَا   أما الحضارة العالمية اليوم، فهي حضارة مزيفة؛ لأنها تقوم على الكذب والخداع، وتزوير الحقائق، والكيل بمكيالين، ومراعاةِ المصالح الشخصية، والاستبقاء على غلبة المستكبرين، وقهرِ المستضعَفين، ولو سالت في سبيل ذلك الدماءُ، وهُتكت الأعراض، ونُقضت العهود.   فالعجب كيف يتقمص بعضنا شخصيةَ هؤلاء الغربيين، ويرى أنهم النموذج العالميُّ الذي يجب أن يُحتذى، والمثال الكونيُّ الذي يجب أن يُقتفى، وهذه أخلاقهم الفاسدة عمَّتْ كلَّ مكان، وأفكارُهم البائدة ظهرت للعيان؟ فلا إيمانَ عندهم إلا بالدنيا وشهواتها وملذاتها، ولا حقيقة إلا القوة والسيطرة، ولا رضا عن الغير إلا بخضوعه واستسلامه، عاش العالم في ظلِّ هيمنتهم ويلاتِ الحروب المتعاقبة، وعرَف الناس في عهدهم قلاقلَ وتوترات مدمرة، وإبادات جماعية بلا رحمة، ونزوحًا للاجئين بأعداد غفيرة، وأمراضًا فتاكة غير مسبوقة، ثم هم مع كل ذلك حربٌ على الله ورسوله، وحَنَق على الإسلام والمسلمين، فما كانت النتيجة؟!   في دولة غربية تُلقَّبُ بالعظمى، كشف تقرير عن ارتكاب قرابة مليون ومائتي ألف جريمة سنة 2015م، منها قرابة 16 ألف حالة قتل، مع تنامي جرائم الكراهية ضد الآخرين بنسبة 67%.   وفي هذه الدولة المتقدمة جدًّا، والغنية جدًّا، والمهيمنة جدًّا، يسجل اغتصابُ قرابةِ 57 ألف امرأة في الشهر الواحد؛ أي: 78 حالة في كل ساعة، وتبين أن 75% من الرجال، و55% من النساء، كانوا يشربون الكحول، أو يتعاطون المخدرات قبل حادثة الاغتصاب، وأكد التقرير أن نحو ربع الطالبات في الجامعات هناك تعرَّضن للتحرش الجنسيِّ، نتج عنه وجود 350 ألف حالة حمل بدون زواج في السنة، وقرابة 30% من المواليد من أم وبلا أب، مما يدفع العجب حين نعرف أن هذه الدولة تعرف 32 ألف حالة انتحار في السنة.   إنها شخصية زائلة، تحمل أسبابَ موتها، وتسير في اتجاه تدمير نفسها، ورحم الله من قال: وَإِنَّمَا الأُمَمُ الأَخْلاقُ مَا بَقِيَتْ *** فَإِنْ هُمُ ذَهَبَتْ أَخْلاقُهُمْ ذَهَبُوا



شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢