أرشيف المقالات

الحيي جل جلاله

مدة قراءة المادة : 25 دقائق .
2الحيي جل جلاله   • عن يَعْلَى بن أمية رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يغتسل بالبَراز[1] بلا إزار، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وقال: ((إن الله عز وجل حَييٌّ ستير يحبُّ الحياء والستر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر))[2]. • وعن سلمان رضي الله عنه: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((إن ربكم تبارك وتعالى حييٌّ كريم، يستحيي من عبده إذا رفع يده أن يردهما صفرًا)) [3]. قال المباركفوري: "إن الله حييٌّ؛ أي كثير الحياء، ووصفه تعالى بالحياء يُحمل على ما يليق به كسائر صفاته نؤمن بها ولا نكيِّفها"[4]، ولا نشَبِّهُها بصفات المخلوقين. • وعن واقد الليثي رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في المسجد والناس معه، إذ أقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب واحد، فوقفنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمَّا أحدهما فرأى فُرجة في الحلقة فجلس فيها، وأمَّا الآخر فجلس خلفَهم، وأمَّا الثالث فأدبر ذاهبًا فلما فرغَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؛ أما أحدهما فآوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه)) [5]. وقوله: ((فاستحيا منه))؛ أي: رحمه ولم يعاقبه [6]. وقيل: جازاه بالثواب[7]. وقال العثيمين: "في هذا الحديث إثبات الحياء لله عز وجل، ولكنه ليس كحياء المخلوقين؛ بل هو حياءُ الكمال يليق بالله عز وجل))[8].   معنى الاسم في حق الله: الحيي جل جلاله: هو الذي يستحيي ألا يجيب عباده، وألا يعطيهم ما سألوا [9]. هو الذي يستحيي مِن هَتْك العاصي وفضيحته وإحلال العقوبة به؛ فيستره ويعفو عنه ويغفر له ويتحبَّب إليه بالنِّعَم، ويستحيي من أن يفضحه يوم القيامة بعد أن ستره في الدنيا [10]. قال ابن القيم رحمه الله: "حياء الرب لا تُدركه الأفهام، ولا تُكيِّفه العقول؛ فإنه حياء كرم وبرٍّ، وجود وجلال" [11].   وقال رحمه الله: وهْوُ الحييُّ فليس يَفْضَحُ عبدَه عند التجاهُر منه بالعصيانِ لكنه يُلْقِي عليه سِتْرَهُ فهو الستيرُ وصاحبُ الغفران[12]   وقال الهراس عليه رحمة الله في شرحه لهذين البيتين: "وحياؤه تعالى وصف يليق به ليس كحياء المخلوقين الذي هو تغيُّر وانكسار يعتري الشخص عند خوف ما يُعاب أو يُذم، بل هو ترك ما ليس يتناسب مع سعة رحمته وكمال جوده وكرمه وعظيم عفوه وحلمه؛ فالعبد يجاهره بالمعصية مع أنه أفقر شيء إليه وأضعفه لديه ويستعين بنعمه على معصيته، ولكن الرب سبحانه مع كمال غناه وتمام قدرته عليه يستحيي من هَتْك سِتْره وفضيحته فيستره بما يهيِّؤه له من أسباب الستر، ثم بعد ذلك يعفو عنه ويغفر" [13].   حق الحيي جل جلاله: 1- أن نتخلَّق بخلق الحياء وأن نستحيي من الله حقَّ الحياء: قال ابن القيم عليه رحمة الله: "مَن وافق الله في صفةٍ من صفاته قادَتْه تلك الصفة إليه بذمامها، وأدخلته على ربِّه، وأدْنَتْهُ وقرَّبته من رحمته وصيَّرته محبوبًا، فإنه سبحانه رحيم يحبُّ الرحماء، عليم يحبُّ العلماء، قويٌّ يحب المؤمن القويَّ، وهو أحب إليه من المؤمن الضعيف حييٌّ يحب أهل الحياء"[14]. الحياء في العبد خُلُق جميل، يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حقِّ كل ذي حقٍّ. خلق الحياء مِن أفضل الأخلاق وأجلِّها وأعظمها قدرًا وأكثرها نفعًا، بل هو خاصة الإنسانية؛ فمَن لا حياء فيه ليس معه من الإنسانية إلا اللحم والدم وصورتهما الظاهرة" [15].   انظر كيف صوَّر القرآن الكريم خُلُق الحياء في موسى عليه السلام، وفي ابنتي الرجل الصالح اللتين خرجتَا مِن بيتٍ كريم ينضح بالعفاف والطهارة والصيانة وحسن التربية.   قال تعالى: ﴿ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾[القصص: 23 - 25].   ﴿ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا ﴾ ولم يزدْ على ذلك، فلم يسألهما عن اسميهما ولا عن أبيهما، وهل الأغنام ملك لهما أم لهما فيها شركاء، وعما إذا كانتا أو إحداهن متزوجة أم لا، كما يفعل بعضُ الناس اليوم ويعتبرونه مِن مزايا التحضُّر والاندماج الاجتماعيِّ!! وكذلك الحال في موقف بنتي الرجل الصالح؛ إذ كان جوابهما موجزًا على قَدْر السؤال: ﴿ لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ﴾ ، ذكرتا مع جوابهما سبب خروجهما، ثم سقى لهما وانصرفتَا إلى بيتهما، رجعت إحداهما إليه برسالةٍ من أبيها: ﴿ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ ﴾، كأنما الحياء فراش وهي تسير عليه، انظر إلى القرآن وهو يصف المشية داعيًا نساءَ المؤمنين أن تكون مِشْيتهنَّ على حياء.   قال عمر بن الخطاب: "ليست بسلفع [جريئة] مِن النساء خرَّاجة ولَّاجة، ولكن جاءتْ مُستترة، قد وضعتْ كُمَّ درعها على وجهها استحياءً"[16].   فالحياء إيمان: قال صلى الله عليه وسلم: ((الحياء والإيمان قرنا جميعًا، فإذا رُفع أحدهما رُفع الآخر))[17]. وعن ابن عمر: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء - وفي رواية وهو يعاتب أخاه على الحياء - يقول: إنك لتستحيي حتى كأنه يقول قد أضرَّ بك، فقال صلى الله عليه وسلم: ((دعْه؛ فإنَّ الحياء من الإيمان))[18]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنَعْ ما شِئتَ))[19].   والمعنى: أن هذا الكلام كان على لسان كلِّ نبيٍّ لم يُنسخ، بل تداوَلَهُ الناس وتوارثوه وتواصَوا به قرنًا بعد قرن.   ومعناه كذلك: أن الحياء يتحكَّم في أقوال العبد وأفعاله وتصرُّفاته، فلا يقول القبيح ولا يفعله ولا يتحرَّك إليه. إذا لم تَخْشَ عاقبةَ الليالي ولم تَسْتَحْي فاصنعْ ما تشاءُ فلا واللهِ ما في العيش خيرٌ ولا الدنيا إذا ذهَب الحياءُ   فمِن حقوق الحيي جل جلاله: أن نتخلَّق بخُلُق الحياء.   وكذلك: مِن حقوق الحييِّ جل جلاله: أن نستحْيي من الله حقَّ الحياء: إن التعبُّد باسم الله الحييِّ يُثمر ولا بد عند المؤمن الحياء منه سبحانه مِن أن يكون على حالةٍ مشينةٍ يكرهها الله، وعلى حسب معرفة العبد بربِّه وأسمائه وصفاته يكون حياؤه منه؛ فأعظم الحياء ينبغي أن يكون مِن الله الذي نتقلَّب في نعمه وإحسانه ليل نهار، ولا نستغني عنه طرفة عين ونحن تحت سَمْعه وبصره، لا يغيب عنه مِن قولنا وفعلنا وحالنا شيء: ﴿ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [يونس: 61].   عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((استحيوا من الله حقَّ الحياء))، قلنا: يا رسول الله، إنا نستحْيي من الله والحمد لله، قال: ((ليس ذلك، ولكن الاستحياء من الله حقَّ الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن ما حوى، وتذكر الموت والبِلى، ومن أراد الآخرةَ ترك زينةَ الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حقَّ الحياء))[20].   وحفظ الرأس وما وعى: يدخل فيه حفظ السمع والبصر واللسان من المحرَّمات.   وحفظ البطن وما حوى: يدخل فيه حِفظ القلب عن الإصرار على المحرَّم، وحفظ البطن من أن يدخل إليها المحرَّم، وكذلك حِفظ الفَرْج عن الفواحش.   ورُوي في أثر إلهيٍّ: ((يقول الرب عز وجل: ما أنصفني عبدي؛ يدعوني فأستحيي أن أردَّه، ويعصيني ولا يستحيي مني))[21].   وحُكي عن بعض السلَف: "خَفِ اللهَ على قَدْر قدرته عليك، واستحيي منه على قدر قربِه منك"[22]. إذا ما خَلَوْتَ بريبةٍ في ظُلمةٍ والنفسُ داعية إلى الطغيانِ فاحفَظْها من نَظَر الإلهِ وقُلْ لها إنَّ الذي خَلَق الظلامَ يَراني إذا ما قال لي ربي أَمَا استحييتَ تَعصيني وتُخفي الذنبَ عن خَلْقي وبالعصيانِ تأتيني فما قولي له لمَّا يُعاتبني ويُقصيني   مِن مظاهر ضياع الحياء: (1) هل عرف اللهَ الحييَّ واستحيا من الله حق الحياء: مَن تَهاوَن بأكل الحرام وسَماع الحرام، وأطلَق لسانَه يهري ويهرف بالحرام؛ من غِيبة ونميمة، وكذب وشهادة زور، وقول على الله بغير عِلم، وانتهاك حرمات المسلمين والمسلمات، واختلاف للأكاذيب والشائعات؟   (2) هل عرف الله الحيي واستحيا من الله حقَّ الحياء: مَن أطلق بصره إلى ما حرَّم الله، وتسكَّع في الطرقات ينظر إلى الرائحات والغاديات، وامتلأ قلبه وهاتفه وبيته بالأفلام الهابطة والإباحيات؟   (3) هل عرف الله الحييَّ واستحيا منه حقَّ الحياء: من يسمح لزوجته أو لبناته أن يكنَّ خرَّاجات ولَّاجات يصافِحْنَ الرجال ويختلطْنَ بالرجال بلا مسوِّغ ولا موجب؟   (4) هل عرف اللهَ الحييَّ واستحيا منه حقَّ الحياء: مَن رضي لزوجته أو لبناته أن يخرجنَ متبرِّجات (كاسيات عاريات) متعطِّرات متجمِّلات مظهِرات للزينات مبديات للعورات، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول: ((وشر نسائكم المتبرِّجات المتخيلات وهن المنافقات...))[23].   (5) هل عرف الله الحييَّ واستحيا من الله حقَّ الحياء: مَن رضي لبناته أو زوجاته أن يذهبن إلى الطبيب الرجل للعلاج مع وجود الطبيبة الكفء الحاذقة - وهنَّ كُثُر - وقد تُكشف هناك العورات الغليظة، ولا حول ولا قوة إلا بالله - فوالله إن الله الحييَّ يغضب لذلك ويسخط على ذلك، وإن العبد الحييَّ ليطيش عقله حين يرى ذلك والمرأة الحييَّة تأبى ذلك والنفوس الحييَّة الأبيَّة تشمئز من ذلك؟   (6) هل عرف الله الحييَّ واستحيا من الله حقَّ الحياء: رجلٌ يُجلِس زوجته على المنصَّة في ليلة عرسها وهي في أبهى زينةٍ وأجمل حُلَّة ليراها الناس! ثم يقوم ليتمايل معها أمام الناس! لا أقول: أين ذهب الحياء؟ ولكن أقول: أين ذهب الإيمان؟   (7) هل عرف اللهَ الحييَّ واستحيا منه حقَّ الحياء: مَن رضي لابنته أو زوجته أن تظهر على شواطئ البحار عاريةً أو شبه عارية؟! أو حتى كاسية بين العرايا؟   (8) هل عرف اللهَ الحييَّ واستحيا منه حقَّ الحياء: مَن لم يعرف عن الإسلام إلا اسمه، وعن القرآن إلا رسمه، بل لا يعرف الواحد منهم فروض الأعيان التي سيُسأل عنها بين يدي الله، في الوقت الذي يعرف كل شيء عن كل شيء؟!   2- أن نستحْيي من الملائكة الكرام: قال ابن القيم عليه رحمة الله: "قال بعض الصحابة رضي الله عنهم: إن معكم مَن لا يفارقكم فاستحيوا منهم وأكرموهم"، ولا ألأم ممن لا يستحْيي من الكريم العظيم القَدْر ولا يجلُّه ولا يوقِّره، وقد نبَّه سبحانه على هذا المعنى بقوله: ﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الانفطار: 10 - 12]؛ أي: استحيوا من هؤلاء الحافظين الكرام وأكرموهم وأجِلُّوهم أن يروا منكم ما تستحيون أن يراكم عليه مَن هو مثلكم، والملائكة تتأذَّى مما يتأذَّى منه بنو آدم، فإذا كان ابن آدم يتأذَّى ممن يفْجُر ويعصي بين يديه، وإن كان قد يعمل مثل عمله، فما الظن بأذى الملائكة الكرام الكاتبين؟ [24].   وكان سفيان الثوري يقول: أخبروني لو كان معكم من يرفع الحديث إلى السلطان أكنتم تتكلَّمون بشيء؟ قالوا: لا، قال: فإن معكم من يرفع الحديث إلى الله عز وجل[25].   3- أن يستحيي العبدُ من الخَلْق أن يروه على فعل قبيح: فالحياء مِن الخَلْق يحبُّه الله، وهو داخل في قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((إن الحياء خير كلُّه))[26]. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا النوع في قوله تعالى: ﴿ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ﴾ [الأحزاب: 53].   فالحياء من الناس خُلُق جميل يمنع من المعايب، ويُشيع الخير والعفاف، ويعوِّد النفس ركوب الخصال المحمودة [27].   وفي صحيح البخاري أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((إن موسى كان رجلًا حييًّا ستيرًا لا يُرى من جلده شيء استحياءً منه، فآذاه مَن آذاه من بني إسرائيل، فقالوا: ما يستتر هذا التستُّر إلا مِن عيب بجلده؛ إمَّا برص، وإما أُدْرة [نفخة في الخصية]، وإما آفة، وإن الله أراد أن يبرِّئه مما قالوا، فخلا يومًا وحده فوضع ثيابه على الحجر، ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها، وإن الحجر عدا بثوبه فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر، فجعل يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر! حتى انتهى إلى ملأٍ من بني إسرائيل فرأوه عريانًا أحسن ما خلق الله، وأبرأه مما يقولون وقام الحجر [وقف]، فأخذ ثوبه فلبسه، وطفق بالحجر ضربًا بعصاه، فوالله إن بالحجر لنَدَبًا [علامات باقية] مِن أثَر ضربه، ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا، فذلك قوله: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا ﴾ [الأحزاب: 69])) [28].   وعن سعيد بن يزيد الأنصاري أن رجلًا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: ((أوصيك أن تستحيي من الله كما تستحيي من الرجل الصالح مِن قومك))[29].   ففي الحديث أقرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الحياء من الخلق، وعدَّه من محاسن الأخلاق.   وعن معاوية بن حيدة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: ((احفظ عورتك إلا مِن زوجتك وما ملكتْ يمينُك))، قال: قلت: يا رسول الله، إذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: ((إن استطعت ألا يرينها أحد فلا يرينها))، قال: قلت: يا رسول الله، إذا كان أحدنا خاليًا؟ قال: ((الله أحقُّ أن يُستحيا منه))[30].   وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: "لا خير فيمن لا يستحْيي من الناس"[31]. وقال بعض السلف لابنه: "إذا دعتك نفسك إلى ذنب؛ فارمِ ببصرك إلى السماء، واستحيي ممن فيها، فإن لم تفعل فارم ببصرك إلى الأرض واستحيي ممن فيها، فإن كنت لا ممن في السماء تخاف، ولا ممن في الأرض تستحيي، فاعددْ نفسك في عداد البهائم"[32].   فهل ربَّيت ولدك على الحياء؟ فهل علَّمت أهلك فقه الحياء؟ إننا بحاجة إلى تربيةٍ صادقةٍ صريحةٍ لأنفسنا ولمَن نعول!   4- أن يستحيي العبد من نفسه: وهو حياء النفوس الشريفة العزيزة الرفيعة، فيجد الإنسان نفسه مستحييًا من نفسه حتى كأن له نفسين يستحيي بإحداهما مِن الأخرى، وهذا أكمل ما يكون من الحياء؛ فإن العبد إذا استحيا مِن نفسه فهو بأن يستحيي من غيره أجدر.."[33].   وقد رُوي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما كَرهتَ أن يراه الناس منك فلا تفعله إذا خلوت))[34].   ومن استحيا من الناس ولم يستحي من الله عز وجل فلعدم معرفته بالله.   فحقُّ الإنسان إذا همَّ بقبيح أن يتصوَّر أحدًا من نفسه كأنه يراه؛ فالإنسان يستحيي ممن يكبر في نفسه، ولذلك لا يستحيي من الحيوان، ولا من الأطفال، ولا من الذين لا يميِّزون، ويستحيي من العالِم أكثر ممن يستحيي من الجاهل، ومن الجماعة أكثر ممن يستحيي من الواحد، فينبغي على الإنسان أن يكون استحياؤه منها أكثر من استحيائه من غيره، ومن ثَمَّ قال بعض السلف: "من عمل عملًا في السرِّ يستحيي منه في العلانية، فليس لنفسه عنده قَدْر" [35]. فاعلم أخي الحبيب - رُزقت الحياء بأنواعه - أن: "المرء حينما يفقد حياءه من نفسه يتدرَّج من سيئ إلى أسوأ، ويهبط من رذيلة إلى أرذل، ولا يزال يهوي حتى ينحدر إلى الدرك الأسفل"[36].   كيف يعود الحياء؟ وكيف نتعبد باسم الله الحيي؟ 1- استحضر نعم الله تعالى: كم مرة مرضتَ فشفاك! ونزلت بك نازلة فنجَّاك! وألَمَّ بك الجوع والعطش فأطعمك وسقاك! قصدك بالبلايا ليمحو لك الخطايا! تبارزه بالمعاصي ويعفوَ عنك! تهتك ستره ويوالي ستره عليك! تسيء فيحسن، تُذنب فينعم، تقطعه فيَصِل. قادر أن إذا أسأت بلسانك أن يحرمك نعمة الكلام. قادر أن إذا نظرت إلى الحرام أن يحرمك نعمةَ الإبصار، لكن أمهلك، أفلا يستحق منك الحياء؟!   2- معاهدة القلب وتجديد الإيمان فيه: فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الإيمان ليخلَق في جوف أحدكم كما يخلَق الثوب؛ فاسألوا الله أن يجدِّد الإيمان في قلوبكم))[37]. وتجديد الإيمان في القلب يكون: بالذكر، بالطاعة، بمجالس العلم، بقراءة القرآن، بزيارة المرضى، بزيارة المقابر، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.   3- المحافظة على الصلوات الخمس في أوقاتها وجماعاتها وخشوعها وخضوعها، ساعتئذ يتحقَّق بإذن الله قول الله: ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾ [العنكبوت: 45].   4-  استشعار قرب الله منك وإحاطته بك وقدرته عليك: وكما قيل: "خَفِ الله بقدر قدرته عليك، واستحيي منه بقَدْر قربه منك". قال حاتم الأصم: "تعاهد نفسك في ثلاث: إذا عملت فاذكر نظر الله إليك، وإذا تكلَّمت فاذكر سمع الله منك، وإذا سكتَّ فاذكر علم الله فيك"[38].   5- مصاحبة الصالحين: وكما قيل: "أحيي حياءك بمجالسة من يُستحيا منهم"؛ فشتان شتان بين كلام تسمعه في مجلس علم، وبين كلام تسمعه في مجلس تدخين ومخدِّرات وخمور، شتان بين ما تسمعه من الصالحين، وبين ما تسمعه من الساقطين. فالحياء كله خير


[1] البَراز: بالفتح الفضاء الواسع، انظر: مختار الصحاح. [2] رواه أبو داود والنسائي، وصححه الألباني. [3] رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني. [4] تحفة الأحوذي. [5] متفق عليه. [6] شرح الزرقاني على الموطأ. [7] شرح السيوطي على مسلم. [8] صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة / علوي السقاف، نقلاً عن شرح رياض الصالحين. [9] أسماء الله الحسنى عند أهل السن / محمد أشرف حجازي. [10] فقه الحياء / محمد إسماعيل المقدم. [11] مختصر من مدارج السالكين. [12] النونية. [13] شرح القصيدة النونية / محمد خليل هراس. [14] الداء والدواء / ابن القيم. [15] مفتاح دار السعادة / ابن القيم. [16] الدر المنثور في التفسير بالمأثور. [17] رواه الحاكم، وصححه الألباني في صحيح الجامع. [18] متفق عليه. [19] رواه البخاري. [20] رواه الترمذي، وحسنه الألباني. [21] فقه الحياء / محمد إسماعيل المقدم. [22] فتح الباري / ابن حجر. [23] رواه البيهقي، وصححه الألباني في صحيح الجامع. [24] الجواب الكافي. [25] ذم الهوى / ابن الجوزي. [26] متفق عليه. [27] فقه الحياء: محمد إسماعيل المقدم. [28] رواه البخاري. [29] رواه أحمد في الزهد، وصححه الألباني في صحيح الجامع. [30] رواه أبو داود، وحسنه الألباني. [31] فقه الحياء / محمد إسماعيل المقدم. [32] تنبيه الغافلين. [33] مدارج السالكين / ابن القيم. [34] رواه ابن حبان، وانظر: صحيح الجامع. [35] فقه الحياء / محمد إسماعيل المقدم. [36] خلق المسلم / الغزالي. [37] رواه الحاكم بسند حسن. [38] حلية الأولياء؛ لأبي نعيم، نزهة الفضلاء؛ لمحمد موسى الشريف.



شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢