أرشيف المقالات

تعارض الأدلة عند المجتهد

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
2تعارض الأدلة عند المجتهد
اختلَف القائلون بعدم جواز التخيير فيما يعمل المجتهد إذا تعارضت عنده الأدلة؟ ولما أن كان الشَّاطبي ممن ينصر القول بعدم جواز التخيير، فلا بد من إيضاح رأيه في هذه الحالة. رأي الشَّاطبي: يبدو واضحًا من خلال الوقوف على رأيه في المسألة السابقة أن الشَّاطبي يرى الوقف للمجتهد إذا تعارضت عنده الأدلة، وعجز عن الترجيح من أي وجه من أوجه الترجيح، أما إن تمكن المجتهد من الترجيح، فالوقف بالنسبة له في نظر الشَّاطبي باطل لا يجوز، قال الشَّاطبي مبينًا رأيه في هذه المسألة: "وأما إن ترجحت إحدى الجهتين على الأخرى، فيمكن أن يقال: إن قصد الشارع متعلِّقٌ بالجهة الراجحة - أعني في نظر المجتهد - وغير متعلق بالجهة الأخرى؛ إذ لو كان متعلقًا بالجهة الأخرى لما صح الترجيح، ولكان الحكم كما إذا تساوت الجهتان، فيجب التوقُّف، وذلك غير صحيح مع وجود الترجيح"[1]. وقال أيضًا عن قصد الشارع: "فلا بد أن يتعلق بإحدى الجهتين دون الأخرى، ولم يتعين ذلك للمكلف فلا بد مِن التوقف"[2].   والشَّاطبي حين يختار الوقف هنا فليس معناه الوقف المجرد، وإنما مراده سقوط الأدلة المتعارضة، والرجوع إلى غيرها كالرجوع إلى الأصل في الأشياء، ويستمر على ذلك حتى يتبين له الراجح من الأدلة المتعارضة. قال الشَّاطبي: "إذا كان المجتهد يسقط عنه التكليف عند تعارض الأدلة عليه على الأصح..."[3].   وكلام الشَّاطبي هذا واضح في سقوط التكليف بالأدلة المتعارضة عن المجتهد الذي تعارضت في نظره الأدلة. وقال أيضًا: "فإذا كان هذا الأصل دائرًا بين طرفين متفق عليهما وتعارضا عليه، لم يكن الميل إلى أحدهما بأولى من الآخر، ولا دليل في أحدهما إلا ويعارضه مثل ذلك الدليل، فيجب الوقوف إذًا، إلا أن لنا فوق ذلك أصلًا أعم، وهو أن الأصل في الأشياء إما الإباحة، وإما العفو، وكلاهما يقتضي الرجوع إلى مقتضى الإذن، فكان هو الراجح..."[4]. وقال في موضع آخر: "وجب التوقف حتى يعرف الحكم فيه"[5]، فقوله هذا يقتضي متابعة البحث عن مرجح، وهذا هو مراد الشَّاطبي بالتوقف.   وقد وافق الشَّاطبيَّ في قوله بالتوقف السمرقنديُّ من الحنفية[6]، وبعض الشافعية؛ كسليم الرازي[7]، والعز بن عبدالسلام[8]، وهو قول الحنابلة[9]، ونسب رواية لمالك[10]، ولأكثر الحنفية، والشافعية[11]. وقال آخرون بالتساقط؛ كالبينتين إذا تعارضتا، ويطلب الحكم من موضع آخر: وهذا القول اختاره بعض الشافعية؛ كابن كج[12]، وزكريا الأنصاري[13]، وقال المحلي: "إنه أقرب الأقوال"[14]، ونقله إلكيا الهراسي عن الباقلاني[15]، ونسب لأكثر الفقهاء القائلين بعدم التخيير[16]، ونسبه الماتريدي للظاهرية، وأنكره ابن حزم، ونقله عن بعضهم[17]. والقول الثالث في المسألة: أن يقلد عالمًا قطع بأحد وجهي اجتهاده: اختاره ابن تيمية، ونقله عن أبي يعلى[18]. والقول الرابع: أن يرجع إلى الأصل في الأشياء، فيكون الحكم كالحكم في الواقعة قبل ورود الشرع[19]. والقول الخامس: أن يأخذ بالأغلظ[20].   الترجيح: الذي يظهر لي أن الأخذ بالأغلظ مطلقًا تحكُّم لا دليل عليه؛ إذ قد يكون الأخف هو الحكم عند الله، أما بقية الأقوال فيبدو أن القولين الثالث والرابع يرجعان إلى القولين الأولين، فمَن أمر المجتهد في حالة التعارض مع عدم الترجيح بالتقليد أو بالرجوع إلى الأصل، فهو إما أن يكون متوقفًا أو مسقطًا للأدلة، ولا فرق أيضًا بين من قال بإسقاط الأدلة أو التوقف؛ لأن النتيجة واحدة، وهي إهماله لهذه الأدلة المتعارضة والبحث عن أدلة أخرى في المسألة، ومن قال بالتوقف لا يعني التوقف بشكل مطلق، وإنما عنَى التوقف في هذه الأدلة المتعارضة، والتصميم على الترجيح من خلال النظر في غير هذين الدليلين.   والقول الثالث فيه زيادة على القول بالوقف، وهو - فيما يبدو - أحرى الأقوال بالقبول؛ فالله عز وجل يقول: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ [التغابن: 16]، والمجتهد إذا لم يترجح لديه شيء من الأقوال مع اجتهاده وبذله وسعه، فقد أدى ما عليه واتقى الله وُسْعَه، ولا شك أن التوقف مع عدم التمكن من الترجيح قد يفوِّت المصلحة، لا سيما إذا خشي المجتهد فَوْتَ الحادثة، وما برح العلماء يقلدون من هو أعلم إذا استشكلوا المسألة وتوقفوا فيها؛ ولذا فهذا القول هو أرجح الأقوال، والله أعلم.


[1] الموافقات (2/ 51 - 52) وانظر: الاعتصام (2/ 376). [2] الموافقات (2/ 51) وانظر منه: (2/ 267، 3/ 137، 5/ 113، 344) الاعتصام (2/ 276). [3] الموافقات (5/ 334). [4] الموافقات (1/ 293). [5] الموافقات (1/ 401). [6] انظر: ميزان الأصول (2/ 972). [7] انظر: البحر المحيط (6/ 115). [8] انظر: قواعد الأحكام (2/ 44 - 45). [9] انظر: روضة الناظر (2/ 371) المسودة (448 - 449) أصول ابن مفلح (3/ 948) شرح الكوكب المنير (4/ 612). [10] انظر: المسودة (448). [11] انظر: روضة الناظر (2/ 371) شرح مختصر الروضة (3/ 617). [12] انظر: البحر المحيط (6/ 115). [13] انظر: غاية الوصول (141). [14] انظر: شرح جمع الجوامع مع الآيات البينات (4/ 279). [15] انظر: البحر المحيط (6/ 115). [16] انظر: نهاية الوصول (8/ 3618). [17] انظر: البحر المحيط (6/ 115). [18] انظر: المسودة (449). [19] انظر: البحر المحيط (6/ 116). [20] انظر: البحر المحيط (6/ 117).



شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢