أرشيف المقالات

تعريف التقليد لغة واصطلاحا

مدة قراءة المادة : 21 دقائق .
2تعريف التقليد لغة واصطلاحاً
تعريفه في اللغة: التقليد[1] في اللغة: مصدر قلد يقلد تقليدًا، وقد ذكر ابن فارس لـ: "قلد" معنيين: المعنى الأول: يدل على تعليق شيء على شيء، وليه به. والمعنى الثاني: قلْد؛ ويدل على الحظ[2].   وبالتأمل فيما ذكر من المعاني، يتبين أنه لا يخص قلَّد - التي هي أصل كلمة التقليد - إلا المعنى الأول، وهو: تعليق شيء على شيء؛ وذلك لأنه يقال: قلده يقلده تقليدًا إذا علق شيئًا بآخر، أما اللي: فلا يقال فيه: قلد، وإنما يقال: قلد يقْلد قلْدًا، وكذلك الحظ؛ فإنه يقال: قلد الماء يقْلده قلْدًا[3].   وعلى هذا، فليس هذان المعنيان مما نحن فيه، وبه يكون ابن فارس قد ذكر لقلَّد - بالتشديد مع الفتح - معنى واحدًا فقط، وهو: تعليق شيء على شيء، ومنه: تقْليد البدنة، يقال: قلدتها قلادة؛ أي: جعلت في عنقها قلادة، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ ﴾ [المائدة: 2]؛ أي: المقلدات، وقد كان أهل الجاهلية يقلدون الإبل بلحاء[4] شجر الحرم، ويعتصمون بذلك من أعدائهم، ثم أُمِر المسلمون ألا يدعوا هذه الأشياء التي يتقرب بها المشركون إلى الله، ثم نسخ ذلك؛ ذكره الزجاج[5].   ومنه قول الفرزدق: حلَفْتُ بربِّ مكَّةَ والمُصلَّى **** وأعناقِ الهَدِيِّ مُقلَّداتِ[6]   ويقال: مقلد الرجل؛ أي: موضع اللجام والسيف على منكبه، ويقال: قلَّد فلانٌ فلانًا قلادة سوء: إذا هجاه بما يبقي عليه وسمه، فإذا أكدوه، قالوا: قلده طوق الحمامة؛ أي: لا يفارقه كما لا تفارق الحمامة طوقها، ومن هذا الباب: قلد العمل فتقلده.   ومِن معاني قلد: اللزوم؛ كما يفيده قوله صلى الله عليه وسلم: ((قلدوا الخيل، ولا تقلدوها الأوتار))[7]؛ أي: قلدوها طلب أعداء الدين، والدفاع عن المسلمين، ولا تقلدوها طلب أوتار الجاهلية وذحولها[8] التي كانت بينكم، والأوتار جمع وتر - بالكسر - وهو الدم وطلب الثأر[9]، والمعنى: اجعلوا ذلك لازمًا لها في أعناقها لزوم القلائد للأعناق[10]، وهذا المعنى نابع من المعنى الأول؛ لأن الشيء إذا تعلق بالشيء لزمه، ومن المجاز قولهم: قلده الأمر؛ أي: ألزَمه إياه.   ومِن معانيها أيضًا: التحمل، ومنه قولهم: تقلد الأمر؛ أي: احتمل، وقلدته أمري: إذا حملته إياه وفوضته إليه[11]، وهذا المعنى أيضًا ليس ببعيد عن الأول؛ فإنه من لوازم التعليق، فإذا تعلق الشيء بالشيء، فإنه يكون محملًا إياه، وعلى هذا فهذه المعاني متقاربة.   تعريف التقليد في الاصطلاح: رأي الشَّاطبي: ليس للشاطبي تعريف خاص للتقليد، كما هو الحال للاجتهاد، ولكن يمكن أن نرى أقرب تعريفات الأصوليين وأوفقها لما يرى الشَّاطبي، وقد كان تعريف التقليد متأثرًا بمسألة اختلف فيها الأصوليون، وهي مسألة: هل يسمى اتباع مَن كان حجةً في نفسه - كالنبي صلى الله عليه وسلم - تقليدًا أو لا؟[12].   ومقابل ذلك اختلفت تعريفات الأصوليين للتقليد، ويمكن تقسيمها إلى قسمين: القسم الأول: من لم يدرج في تعريفه اتباع من كان حجة في نفسه، ومن تعريفات أصحاب هذا القسم: • تعريف الإسفراييني؛ حيث عرَّف التقليد بأنه: قبول قول القائل بلا حجة[13]، وبهذا عرَّفه الجويني في الورقات[14]، وأبو منصور البغدادي، إلا أنه أضاف قوله: بلا حجة تظهر على قوله[15].   • وعرفه الباقلاني بأنه: اتباع من لم يقم باتباعه حجة، ولم يستند إلى علم[16]، وتبعه الجويني في التلخيص[17].   • وعرفه الشيرازي بأنه: قبول القول من غير دليل[18]، وبه عرفه أبو يعلى[19]، وتبعه ابن تيمية[20]، وابن جزي[21]، وقريب منه تعريف العكبري[22].   وعلى هذه الطريقة سار كثير من الحنفية[23]، والمالكية[24]، والشافعية[25]، والحنابلة[26]، وذكر السمعاني أنه حد الفقهاء[27]، وعليه سار ابن حزم[28] والشوكاني[29]، وتبعه صديق حسن خان[30].   والقسم الثاني: من يندرج في تعريفه للتقليد اتباع مَن كان حجة في نفسه، ومِن تعريفات أصحاب هذا القسم: • تعريف القفَّال الشاشي؛ حيث عرف التقليد بأنه: قبول قول القائل، ولا يدري من أين يقول ما يقول[31].   • وعرفه النسفي بأنه: اتباع الرجل غيره فيما سمعه منه، على تقدير أنه محق، بلا نظر وتأمل في الدليل[32]، وبمثل هذا عرفه صاحب الغنية[33]. وعلى هذه الطريقة سار الجرجاني في أحد تعريفيه[34].   وبما أن الشَّاطبي لا يطلق على اتباع من كان حجة في نفسه تقليدًا، فإنه يمكن أن نخلص إلى أن تعريف أصحاب القول الأول للتقليد أقرب إلى رأي الشَّاطبي من تعريف أصحاب القول الثاني، ولكن ليس بالإمكان تحديد تعريف معين منها نجزم بأنه هو الذي يختاره الشَّاطبي.   ولذا؛ فإني سأقتصر على التعريف الذي أراه مناسبًا، وهو: التعلق بمذهب من ليس قوله حجة بنفسه.   فقولي: التعلق: مأخوذ من المعنى اللغوي للتقليد، فهو تعليق شيء على شيء، والمقلد يعلق رأيه بمن قلده، ولفظة التعلق هنا كالجنس في التعريف؛ فهي شاملة لكل تعلق.   وقولي: بمذهب: شامل للأقوال والأفعال، وهو فصلٌ خرج به غير المذهب من الأقوال والأفعال التي تنسب لقائليها وفاعليها لا على أنها مذهب لهم، إما لكونها ليست من مسائل الاجتهاد بالضرورة، أو لكونها خارجة عن مسائل الدين، أو لغير ذلك، ويخرج بذلك عمل القاضي بقول الشهود.   وقولي: مَن ليس قوله حجة بنفسه: يخرج بذلك تقليد من قوله حجة في نفسه؛ كالرسول صلى الله عليه وسلم، والإجماع، وقول الصحابي إن كان حجة، فإن ذلك ليس من التقليد في الاصطلاح، وإن كان قد يطلق عليه ذلك من باب اللغة.   كما يندرج في هذه اللفظة تقليدُ العامي للمجتهد، وتقليد المجتهد لمجتهد آخر على القول به؛ لأن قول المجتهد وفعله ليس حجة في نفسه، بل هو حجة؛ لأن الشرعَ جعله حجة، ويندرج في هذا التقليدُ الحقُّ، والتقليدُ الباطلُ؛ لأن كلًّا منها تعلُّق بمذهب مَن ليس قوله حجة بنفسه.   المناسبة بين التعريف اللغوي والتعريف الاصطلاحي: الذي عليه أكثر الأصوليين هو أن التقليد مأخوذ من القلادة التي في العنق، فسمي التقليد في الدين بذلك؛ لأن المقلد قد جعل مذهب مَن يقلِّده كالقلادة في عنقه[35].   وذكَر بعض الأصوليين أن التقليد سمي بذلك؛ لأن المقلد يطوق الشيء في رقبة من يقلده؛ إن كان صوابًا فله، وإن كان خطأ فعليه، فالمقلد يطوق المجتهد إثم ما غشَّه به في دينه، وكتمه عنه من علمه؛ أخذًا من قوله تعالى: ﴿ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ﴾ [الإسراء: 13]، وهذا على جهة الاستعارة[36].   وذكر ابن قدامة أنه مأخوذ من تفويض الأمر إلى الشخص من باب الاستعارة، كأنه ربط الأمر بعنقه، ومنه قول لقيط الإيادي: وقلِّدوا أمرَكُمْ للهِ درُّكمُ **** رحب الذِّراعِ بأمر الحربِ مضطلعَا[37]   وقال أبو الخطاب: "مشتق من تطويق المقلِّد للمقلَّد، وما يتعلق بذلك الحكم من خير وشر كتطويق قلادته، وخص بذلك؛ لأن القلادة ألزم الملابس لعنق الإنسان؛ ولهذا يقال للشيء اللازم: هذا عنق فلان؛ أي: لزومه له كلزوم القلادة؛ قال الله تعالى: ﴿ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ﴾ [الإسراء: 13]، قيل في التفسير: هو خيره وشره، وإنما سمي بذلك؛ لأن المقلِّد يقبَل قول المقلَّد بغير حجة، فيلزم المقلَّد ما كان في ذلك القول من خيرٍ وشر"[38].   وكل ما ذُكر صحيح، فلا ينبغي أن يعتبر ذلك اختلافًا منهم؛ إذ يصح أن يكون كل ما ذكروه هو المناسبة، وعليه فالتقليد بمعناه الشرعي موافق للمعنى اللغوي؛ فالمقلِّد قد حمَّل المجتهد رأيه وفوض إليه أمره، وقلده خيره وشره، كما أنه قد جعل مذهبه كالقلادة في عنقه.


[1] انظر لكلمة "قلد": الصحاح (2/ 460) المجمل في اللغة (576) المصباح المنير (2/ 512) معجم مقاييس اللغة (5/ 19) القاموس المحيط (398) التكملة والذيل والصلة (2/ 323) لسان العرب (11/ 275) تاج العروس (5/ 203) غريب الحديث للحربي (2/ 892) أساس البلاغة (375) كلها مادة "قلد". [2] انظر: معجم مقاييس اللغة (5/ 19) مادة "قلد". [3] انظر: لسان العرب (11/ 275) مادة "قلد". [4] اللِّحاء: بكسر اللام والمد ويجوز القصر في لغة، وأصله من لحى، واللحاء: هو ما على العود من قشره، ولحاء الشجرة: قشرها؛ انظر: المصباح المنير (2/ 551) القاموس المحيط (1714) مادة "لحى". [5] انظر: معاني القرآن وإعرابه للزجاج (2/ 142) وعنه في لسان العرب (11/ 276) تاج العروس (5/ 205). [6] البيت: نسبه للفرزدق في تاج العروس (5/ 205) وهو في ديوانه (100). [7] رواه بهذا اللفظ سعيد بن منصور في سننه كتاب الجهاد باب الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة (ت: الأعظمي 2/ 166/ 2433) وابن أبي شيبة في مصنفه كتاب الجهاد باب في النهي عن تقليد الإبل الأوتار (6/ 521/ 33498) عن مكحول مرسلًا، وجاء مرفوعًا عن جابر ضمن حديث رواه أحمد في مسنده (3/ 352) والطحاوي في شرح مشكل الآثار باب بيان ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من نهيه عن تقليد الخيل الأوتار (1/ 294/ 223) والطبراني في المعجم الأوسط (9/ 452/ 8977) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 262): "رواه الطبراني في الأوسط، وفيه ابن لهيعة، وفيه ضعف، وحديثه حسن؟ ورواه أحمد أتم منه، ورجاله ثقات"، وحسَّن الألباني سند الإمام أحمد في صحيح الجامع الصغير وزيادته (1/ 633/ 3355). [8] ذحول: جمع ذَحْل بسكون الحاء، وقد تفتح، وهو: الحقد والعداوة، ويطلق أيضًا على الثأر، أو طلب مكافأة بجناية جنيت عليك، أو عداوة أتيت إليك؛ انظر: المصباح المنير (1/ 206) القاموس المحيط (1294) مادة "ذحل". [9] انظر له: القاموس المحيط (631) مادة: "وتر". [10] انظر لمعنى الحديث ولعلة النهي: غريب الحديث للخطابي (1/ 423) النهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 99) لسان العرب (5/ 206) كلها مادة "قلد". [11] انظر: لسان العرب (11/ 276) تاج العروس (5/ 206). [12] وهذه المسألة سيأتي عرضها (ص 711). [13] البحر المحيط (6/ 207) وذكره في التلخيص دون نسبة لأحد (3/ 424). [14] انظر: الورقات (مع قرة العين ص82). [15] البحر المحيط (6/ 270). [16] البحر المحيط (6/ 274). [17] انظر: التلخيص (3/ 425). [18] اللمع (125) شرح اللمع (2/ 1007). [19] انظر: العدة (4/ 1216). [20] انظر: المسودة (462). [21] انظر: تقريب الوصول (444). [22] انظر: رسالة في أصول الفقه (127). [23] كابن الساعاتي في نهاية الوصول (2/ 689) الجرجاني في أحد تعريفيه كما في التعريفات (90) وابن الهمام وتبعه ابن أمير الحاج وأمير بادشاه كما في التحرير ومعه التقرير والتحبير (3/ 340) وتيسير التحرير (4/ 241) وابن عبدالشكور في مسلم الثبوت مع فواتح الرحموت (2/ 400). [24] كالباجي في الحدود (64) وابن الحاجب في مختصر المنتهى مع بيان المختصر (3/ 350) والقرافي في نفائس الأصول (9/ 3952 - 3953). [25] كالسمعاني في قواطع الأدلة (2/ 340) والغزالي في المستصفى (2/ 387) وابن الصلاح في أدب الفتوى (135) والصفي الهندي في نهاية الوصول (8/ 3925) والأسنوي في زوائد الأصول (439) وابن السبكي في جمع الجوامع مع تشنيف المسامع (4/ 600) والسيوطي في رسالة له في أصول الفقه (77) والأنصاري في لب الأصول مع شرحه غاية الوصول (150). [26] كأبي الخطاب في التمهيد (4/ 395) وابن قدامة في روضة الناظر (ت: النملة 3/ 1017) وابن حمدان في صفة الفتوى (68) وابن تيمية في المسودة (553) والطوفي في شرح مختصر الروضة (3/ 651) والصفي الحنبلي في قواعد الأصول (105) وابن النجار في شرح الكوكب المنير (4/ 529 - 530). [27] انظر: قواطع الأدلة (2/ 340). [28] انظر: الإحكام له (2/ 233). [29] انظر: إرشاد الفحول (443). [30] انظر: حصول المأمول (136). [31] البحر المحيط (6/ 270) سلاسل الذهب (439 - 440) وذكره في التلخيص (3/ 423) والبرهان (2/ 888) دون أن ينسبه لأحد. [32] كشف الأسرار على المنار (2/ 172 - 173). [33] انظر: الغنية (197). [34] انظر: التعريفات (90). [35] انظر: رسالة في أصول الفقه (128) الحاوي (16/ 52) الإحكام لابن حزم (2/ 233) العدة (4/ 1216) كتاب في أصول الفقه للآمشي (200) الإحكام (4/ 221) ميزان الأصول (2/ 949) البحر المحيط (6/ 270) التحرير ومعه تيسير التحرير (4/ 242) شرح الكوكب المنير (4/ 529) إرشاد الفحول (442). [36] انظر: رسالة في أصول الفقه (128) البلبل مع شرح مختصر الروضة (3/ 650 - 652). [37] البيت نسبه ابن قتيبة في الشعر والشعراء (1/ 201) والأصفهاني في الأغاني (22/ 359) للقيط الإيادي. [38] التمهيد (4/ 395).



شارك الخبر

ساهم - قرآن ١